قراءة نقدية مباشرة أو سمها دستور المدينة في القرن السابع الميلادي والتي اتخذت من ميثاق ينسب للجناب النبوي الشريف أبرمه مع أهل المدينة وسمي بــ “وثيقة المدينة” في السنة الأولى من الإخراج النبوي الشريف الموافق لسنة (624 م – 625 م)، كما ذكرها محمد بن اسحاق في كتابه السيرة النبوية والمتوفي سنة (150 خ – 767 م) ونقلها عنه بن هشام في سيرته والإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلَّام (224 خ – 839 م) قال: [ هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بين المؤمنين من قريش وأهل يثرب وموادعته يهودها أوَّل مقدمه المدينة ]، ثم الإمام أحمد بن يحي البغدادي المعروف بالبلاذُري (270 خ – 884 م) فقال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عند قدومه المدينة وادع يهودها وكتب بينه وبينهم كتاباً واشترط عليهم ألَّا يمالئوا عدوَّه وأن ينصروه على من دهمه}.
ثم الإمام محمد بن جرير الطبري (310 خ – 923 م) قال: {ثم أقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالمدينة منصرفه من بدر وكان قد وادع حين قدِم المدينة يهودها على أن لا يعينوا عليه أحداً وأنَّه إنْ دَهِمَه بها عدو نصروه}، قال بن اسحق: (وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرَّهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم) انتهى.
وبغض النظر عن تحديد زمن ومكان المكاتبة سواء كانت في السنة الأولى من الإخراج – أي بعد مقدمه الشريف بحوالي خمسة إلى ثمانية أشهر – أو السنة الرابعة أو السنة الثامنة أو خلافه من الإخراج النبوي الشريف، فأنا أتكلم عن وثيقة اتفاق تاريخية لا دينية تقبل الخطأ وتقبل الصواب وهي للخطأ أيقن منها للصواب لما سيرد لاحقاً في تفنيدها بنداً بنداً ومن الأفضل للمؤرخين أن يكون تحديد وقتها هو في السنة الأولى من الإخراج كما هو متفق عليه عند أغلب كُتَّاب السِيَرِ، لا في السنين التي تلتها لأنها تحمل بذور فناءها داخلها قبل نباتها وإعمالها لتسبيبات تأتي في موضعها من التوقيت الذي يريدون إن شاء الله.
لنرى معاً التفنيد والتعليق على بنود الوثيقة المضروبة بلا شك عندي علماً بأنَّ فترة الخمس للثمانية أشهر التي بين القدوم وبين المكاتبة من أحداث غير واضحة مما يزيد الشك عندي والله أعلم.
نص الوثيقة أو دستور المدينة
بسم الله الرحمن الرحيم “هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم”.
قلت، تنبيه مهم: أولاً: العرب لا تكتب ولا تعرف “بسم الله الرحمن الرحيم” ولا تعترف بها من قبيل فكرة التوحيد عندهم؛ بل تعرف وتكتب “باسمك اللهم” كما هو العهد والحال في صحيفة المقاطعة من القرشيين لمحمد وأتباعه التي كتبها منصور بن عكرمة وشُلَّتْ يده وبموجبها تم حصار المسلمين في شِعْبِ أبي طالب منذ السنة السابعة من المبعث النبوي الشريف حتى السنة العاشرة من المبعث ثلاث سنوات (617 م – 620 م)؛ وأكلتها الأَرَضَةُ وانتهى الحصار فكيف لهم يرضونها ههنا ؟.
ثانياً: العبارة “هذا كتاب من محمد النبي الأمي” تنسف كل الذي يليها بلا هوادة ولا حاجة لنا بنقدها ودراستها معرفتها أصلاً ؛ لأنَّهم طالما أقروا بنبوته فلا حاجة لهم جميعاً بالمكاتبة والمعاهدة فهم مسلمون بلا شك وعليهم الالتزام طوعاً ورضاً بطبيعة الحال بكل ما يقوله لهم بدون مراجعة أو تراجع.
ثالثاً: تتوقف تلقائياً الدعوة الإسلامية بالمدينة ولعموم العرب والقبائل لأنَّهم دخلوا في الإسلام دون جِدال أو قتال وفي سلاسة ويسر ويمكن أن تتوجه الدعوة الإسلامية لنمط واتجاه آخرين بما لا يدع مجالاً للشك ولكانت السيرة النبوية غير هذه التي نقرأها ونعرفها فهو تغيير في حركة التاريخ نهجاً وحياة بلا ريب.
رابعاً: النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، كتب في صلح الحديبية في السنة السادسة من الإخراج النبوي الشريف الموافق لسنة 630 م قال: “من محمد رسول الله” إلى سهيل بن عمرو”، ولم ترض قريش بكلمة “رسول الله” وقالوا: (لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك؛ امحها واكتب: من محمد بن عبد الله) / راجع الخبر في السيرة النبوية لابن كثير الدمشقي وغيره / فكيف يعترفون بنبوته ولا يعترفون برسالته وعلاما المماطلة والشد والجذب بين الفريقين في لا شيء؟.
خامساً: التفريق بين كلمتي “المؤمنين والمسلمين من قريش” غير صحيح ولا يستقيم؛ لأنَّ التفريق يكون في مقام النوايا وليس في مقام الأعمال ومن ثَمَّ هي مما يدخل حاق العلم بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
سادساً: كلمة “من قريش” تدل على تركيب الكلام وترتيبه ترتيباً مخلاً بلغة العرب وهذا بعيد ولا يمكن وقوعه إذا كان القائل هو النبي عليه السلام فهو ” أنا أفصح العرب بيد أني من قريش” كما جاء في الأثر؛ ومن ثم فإنَّ المسلمين كانوا قد هاجروا إلى بلاد الحبشة في السنة الخامسة للمبعث النبوي الشريف الموافق لسنة 616 م ولم يكن معه من القرشيين أحد حتى يأخذ بزمام المعاهدة بالتحديد لفظة ” قريش”؛ مما يثبت عندي بطلانها كما أشرت من قبل وأنَّها منحولة ومنسوبة للجناب النبوي الشريف بغير وجه حق.
سابعاً: كيف يأخذ العهد لأهل يثرب بالعموم مما يُفهم من الكلام والسياق حين هو وافد حديث العهد بهم منذ بيعة العقبة الأولى من السنة الثانية عشر من البعثة الموافق لسنة 623 م وبيعة العقبة الكبرى أو الثانية في السنة الثالثة عشر من المبعث النبوي الشريف الموافق لسنة 624 م ؟ ذلك لأنَّ قاعدته الجماهيرية قليلة للغاية مقارنة مع انتشار الدعوة من قبل أصحاب بيعتي العقبة قبل قدومه يثرب فلا يمكن أخذ البيعة باسمهم ولمَّا يعرفوا الإسلام بعد.
ثامناً: أين التفويض من قبل أهل يثرب وكل تلك القبائل ومندوبيها للنبي عليه السلام حتى يبرم هذا الاتفاق؛ بمعنى: أين نجد خطبة مكتوبة أو بيعة مرصودة أو مخطوطة أثرية أو أحداث تمهيدية مصاحبة تنبئ بالقبول العام لفكرة الدخول في دين الله أفواجاً بلا مراجعة أو تراجع من كل سكان يثرب بالأغلبية الساحقة والاجماع السكوتي والتزكية الفورية لتفويض وافد لا علم لهم به إلَّا من خلال السمع العام في كل حياتهم كما قالت كتب التراث الإسلامي ذلك ؟ ومن يجدها يحتفظ بها ولا يعرضها علي لأسباب تذكر في حينها.
تاسعاً: عبارة “ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم” تفيد إلزامية المكاتبة للأجيال القادمة إلى أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً؛ وهذا غير مقبول وغير معقول لأنَّ أخذ العهد لجماعة بشرية لم تأت بعد وتتفق على بيعة لم تحضرها فمن حقها أن تنقضها ولا تلتزم بها بحكم الوقت والتطور المعرفي والظروف الملازمة لحيثيات كل جيل وتختلف منه لآخر وهذا يخالف مبدأ الحرية الإنسانية التي أقرها الله ورسوله قال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} سورة الإسراء.
عاشراً: كلمة “وجاهد معهم” كلمة مستحدثة لم ينتبه لها كاتبوها لأنَّ مفهوم الجهاد في سبيل الله اصطلاحاً كان في السنة الثانية من الإخراج النبوي الشريف.
أحد عشر: كتبت الوثيقة حسب المراجع والمصادر السابقة في السنة الأولى من الإخراج النبوي الشريف فلا يتفق الاستباق للأحداث هنا.
ثاني عشر: كما تشير لفرضية سياسة الأمر الواقع الملزم للغير وهو بعيد للغاية من مبدأ قوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} سورة الكافرون.
( يتبع )
هذه الصحيفة متواترة بين أهل السير ..
وأدعائك …. غير صحيح .. ومشوب بقلة البحث
■ وقد قال المستشرق الرومانى جيورجيو مادحًا الوثيقة: «دُوّن هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، وحرية إقامة شعائرهم».
يقول د. أحمد إبراهيم الشريف :
«ولا نكاد نعرف من قبل دولة قامت منذ أول أمرها على أساس دستور مكتوب غير هـذه الدولة الإسلامية، فإنما تقوم الدول أولا ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور، ولكن النبي ﷺ ما كاد يستقر في المدينة وما كاد العام الأول من هـجرته إليها ينتهي حتى كتب هـذه «الصحيفة» التي جعل طرفها الأول المهاجرين، والطرف الثاني الأنصار، وهم الأوس والخزرج، والطرف الثالث اليهود من أهل يثرب».