آراءثقافة

إنطباعات أولية حول فيلم “أوبنهايمر” العدمية الأخلاقية من رماد نيتشه ومحكومية المعري

مرة أخرى يفاجئنا المخرج الأسطوري كريستوفر نولان بفيلمه الجديد أوبنهايمر و هو نفس المخرج الذي أخرج  فيلم intersteller عام 2014 فكانت ملحمة فنية علمية خلدت في تاريخ السينما العالمية.

هذه المرة يستعين نولان ويقتبس سيناريو فيلمه الجديد  Oppenheimer من السيرة الذاتية لكتاب American Prometheus، (الإله الأمريكي) انتصار ومأساة العالِم روبرت أوبنهايمر للكاتبين كاي بيرد و مارتن شيرون الذي نُشر عام 2005.

ويصنع دراما نفسية تاريخية مثيرة ويقدم العديد من الروائع الإخراجية إلى جانب زملائه الذين تعاون معهم في فيلم Tenet، بداية من المصور السينمائي هويت فان هوتيما، إلى الملحن لودفيغ غورانسون، ووصولاً إلى المحررة جينيفر لام.

كتاب American Prometheus (الإله الأمريكي) الذي إقتبس منه فيلم أوبنهايمر

عند مشاهدتي للفيلم تفاجأت بإستخدام  مؤثرات جبارة لإحداث تأثير هائل، ليس فقط لالتقاط المشهد، ولكن للتركيز بشكل درامي على اللقطات المقربة، ولتصوير المناظر الطبيعية الهائلة لنيو مكسيكو.

من ناحية أخرى، يؤلف غورانسون موسيقى حماسية ومثيرة للأعصاب من الأصوات المحيطة، مثل أقدام الجماهير الغاضبة، والتي تتصاعد بوتيرة ثابتة ومتصاعدة، ومن خلال العمل جنباً إلى جنب مع مصمم الصوت راندي توريس، يعرف نولان وغورانسون بالضبط متى يتخليان عن التأثيرات الصوتية المدوية وترك الصمت يتحكم بمشاهد الفيلم.

حتى همسات التنفس البشرية، سواء عند الارتياح أو الرعب المدقع، تصبح سيمفونية خاصة بها عندما يصبح عقل روبرت أكثر تركيزاً على الكارثة بعد فترة وجيزة من اختبار ترينيتي.

أوبنهايمر فيلم كريستوفر نولان المذهل عن جيه روبرت أوبنهايمر  الرجل المعروف باسم “أبو القنبلة الذرية” الذي  قاد “مشروع مانهاتن” لبناء القنبلة التي أنهت الحرب العالمية الثانية، يكثف تحولًا عملاقًا في الوعي إلى ثلاث ساعات مرعبة، دراما عن العبقرية والغطرسة البشرية الفردانية والجماعية.

أحد مشاهد فيلم أوبنهايمر لتجربة إنفجار القنبلة الذرية 

فيلم مثير ربما يظنها البعض ذات بنية معقدة وكذلك ربما يراها البعض مملة، لأنه فيلم يخاطب العقول النخبوية، يرسم ببراعة الحياة المضطربة للفيزيائي الأمريكي الذي ساعد في البحث وتطوير القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي خلال الحرب العالمية الثانية، الكوارث التي غيرت شكل العالم ووضعت أسسه التي نعيشها حاليا.

يجعل نولان من تجربة انفجار أول قنبلة نووية ذروة فيلمه، يتحرك السرد الفيلمي بكل طاقته، بكل صخبه وتشظيه نحوها خالقا مشهدية سينمائية غامرة، ومؤثرة ويصعب نسيانها.

بعض لقطات الفيلم باللونين الأبيض والأسود وتقسيمه على مراحل زمنية يتم ترتيب هذه الثنائية الزمكانية في خيوط تلتف معًا للحصول على بعد تصويري يدخلك في عالم من التفاعلات العاطفية العميقة والأحداث الحية التي تنبثق من الحبكة الأساسية للقصة، وتظهر براعة المخرج والممثلين في عدم تضخيم حدث على آخر، أو تسليط الضوء على حادث معين دون آخر.

 تستمر هذه الوتيرة السريعة والتجزئة السردية ربما يراها البعض مملة ولكن يملأ نولان هذه الصورة التكعيبية بوجوه مألوفة، مات ديمون، كليان مورفي، روبرت داوني جونيور و غاري أولدمان.

أوبنهايمر والعدمية الأخلاقية

أوبنهايمر فيلم استثنائي، يسلط فترة من التاريخ والسياسة وطريقة لشن الحرب ودور العلم والأخلاق ربما تدخلك في صراع وجودي تشبه نوعا ما عدمية نيتشه وأبي العلاء المعري.

ربما نعرف العدمية على أنها غياب القيم العليا. ترتبط بالعدمية الأخلاقية النسبية الأخلاقية، النسبية الأخلاقية هي الاعتقاد بأن كل القيم – وخصوصا لأنه لا توجد قيم عليا – هي مجرد تعبير عن التفضيل الشخصي.

ولكن المفارقة هي أن هذا المنظور الأخلاقي تحديدا هو ما ينتقده أوبنهايمر وهذا ربما راجع الى خلفيته الشيوعية فبدلا من أن يكون عدميا فهو مضاد للعدمية، العدمية هي تشخيص لانحلال القيم الغربية وناغازاكي وهيروشيما نموذجان لنتائج هذه القنبلة وهذا ماظهر على وجه بطل كليان مورفي الذي مثل دور أوبنهايمر.

الجانب الأخطر في العدمية هي أنها في النهاية تصبح سعيدة وراضية عن نفسها، طالما اعتدنا على أن نشعر بالخوف والرعب من حقيقة أن الدين والأخلاق لم تعد تحمل أي معنى حقا بعد إختراع القنبلة النووية ولكن الآن هل نحن سعداء لأننا نعيش في عالم بلا معنى؟!.

بناءا على ماسبق فإن أوبنهايمر، وكامتداد تشاؤمي لفلسفة نيتشه، وكذلك للفيلسوف العربي المسلم أبي العلاء المعري صاحب كتاب رسالة الغفران والذي كان سباق لطرح موضوع العدمية، أعلن موت الله أي موت المعنى والغاية ومنها موت القيم، فقال أوبنهايمر مقولته الشهيرة عندما نجح في صنع أقوى سلاح مدمر في التاريخ: “الآن أصبحت أنا هو الموت، مدمر العوالم/ Now, I am become Death, the destroyer of worlds”.

ومن جهة أخرى إن نظرية دارون “بقاء الأصلح”، قد جعلها نيتشه مدخلًا لفلسفته في فهم التنازع في الحياة، وما يترتب عليها من نتائج حتمية في الأخلاق. حيث صارت القوة بدل الطيبة، والكبرياء دون الخنوع، الذكاء لا الإيثار وعندما تحل القوة محل العدالة، فإن المساواة والحرية والديموقراطية تكون مناقضة لنظرية البقاء للأصلح.

كما أن فكرة المحكومية العدمية عند المعري، يراها الفيلسوف الألماني هيدجر بصورة مغايرة، فالقلق منشأه الخوف من العدم، وبذلك يكون مصدره الوجود، بمعنى أن القلق يكشف عن العدم، والعدم بدوره يكشف عن معنى الوجود.

ولكن بغض النظر عن الأحكام الخارجية والفلسفية التي يمكن للمتتبع للفيلم أن يلتقطها فإن معضلة روبرت أوبنهايمر أخلاقية وتحدث في الداخل، القوة التي أطلقها مع القنبلة الذرية تواجهه وتخيفه وتستجوبه، لم يتخيل أن هذا الاختراع يمكن أن يتجاوز كونه أداة رادعة، ليصبح مسيئًا. كما أنه لم يفترض أن معتقداته السياسية ستكون أكثر أهمية من معرفته العلمية الهائلة.

لذلك فإن أوبنهايمر ليس فيلمًا عاطفيًا أو فيلمًا عن سير القديسين، إنه فيلم بارد المشاعر يلمع مثل الوميض الذري، لكن ما يتبقى في النهاية هو جمر الرماد الذي يخنق ليس الجسد فحسب  بل الروح قبل كل شيء.

لكن العنصر الأكثر أهمية الذي لم تتناوله هذه الملحمة السينمائية الجريئة، هو أن موضوع السباق العالمي على التسلح النووي تم التطرق إليه بشكل ثانوي جداً.

لكن مع ذلك يمكن القول ختاما، أن أوبنهايمر فجر العالم بالقنبلة وكريستوفر نولان فجر عقولنا بفيلم أوبنهايمر.

https://anbaaexpress.ma/5psgh

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى