
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم، بين سبعين من الصحابة المقربين، بما هو أكثر من أصحاب الشجرة والبيعة الكبرى في غدير خم فقال: انظروا جيدا لقد استخلفت عليا من بعدي واحذروا من الانقلابيين والمروانيين؟ وبعد علي يرشح ابن الرئيس وينتخب مرة أخرى، ولكن هذه المرة إلى الأبد إلى الأبد..
ولكن الملاعين من الانقلابيين خطفوا الصولجان ونصبوا رجلا من جماعتهم.. وهكذا ضاعت الخلافة الراشدة فوجب إحياءها مرة أخرى تحت ولاية الفقيه؟
هذا هو باختصار الجدل الشيعي التاريخي حول قصة حديث الغدير المزعوم؟
وهذا هو باختصار بناء العقيدة الشيعية على حدث تاريخي.
وهذا هو باختصار مصيبة الانشقاق الإسلامي الأعظم إلى ثلاث فرق، المروانية والشيعية والخوارج، يلعن بعضها بعضا، كل فرقة تدعي وصلا بالأصولية النقية؟
ـ فأما الشيعة فقد (جَّيروا) الإسلام لحساب عائلة؟
ـ وأما المروانيون فقد (جيروا) الإسلام لحساب قبيلة تحت حديث الأئمة من قريش؟
ـ وأما الخوارج فكانوا أكثر ديموقراطية، حين قالوا أن الحاكم لا يشترط له سوى أن يكون مطابقا لهذا المنصب الحساس، حتى لو كان رأسه زبيبة، وعبدا أسودا يلمع من شدة السواد..
ومن سخرية التاريخ أن يكون أبسطهم وأشدهم عنفا وذبحا للمسلمين هم الخوارج (ومن نسلهم خرجت داعش وأشباهها)، في الوقت الذي يدرس الشيعة الفلسفة. أما البيت المرواني فاجتهد في نبش أحاديث الردة، وتوزيعها لتصفية المادة الرمادية في بقايا المجتمع الإسلامي المنتهب منذ وقعة الحرة، واستباحة نساء الأنصار، وذبح آل البيت جميعا في تطبيق عملي للآية: ما أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى!!
وهكذا انتهت رحلة الإسلام في التاريخ قبل أن تبدأ، حتى يعاد إحياؤها من جديد، صدقا وعدلا، وصدق النبي العدنان؛ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، كما ضرب الكل رقاب الكل؛ من مرابطين وموحدين، وأيوبيين وفاطميين، وعثمانيين ومماليك، ومن شايعهم أجمعين، وكما يضرب العراقيون اليوم رقاب بعضهم تحت كلمة مجللة بالعار: شيعي وسني وخلفي وسلفي ووهابي وصوفي..
وكلها أسماء سموها ما أنزل الله بها من سلطان. إلى حين صحوة العقل من السبات الشيعي السني، إلى ملة إبراهيم حنيفا وما كان من سافكي الدم المفسدين..
ما دفعني إلى كتابة هذه الكلمات هي الدعوة التي تلقيتها من مركز الإمام علي لحضور (السيرموني) في مركزهم في أقصى الأرض، وأنا في أدنى الأرض، بعد أن محى الانترنت المسافات، فأصبح الناس بنعمته إخوانا.
وهذه المسألة تحركت عندي على نحو حاد مع الثورة الإيرانية عام 1979م حين ارتج الغرب وخاف، فلما دخل الخميني الحرب مع صدام، وضع الغرب رجله في ماء دافئة، تناسب صقيع أوربا وكندا وبلاد الأسكيمو.
ويومها دعيت لحضور المناسبة الثانية للثورة الإيرانية، وكنت في ألمانيا، وكان الداعي أخ جزائري أعرف فيه العقل والتنوير، هو من أفضل تلامذة المفكر الجزائري مالك بن نبي فلبيت الدعوة؛ لاكتشف أن الأخ (العاقل المثقف) قد فقد عقله تماما؛ فكان يقفز معهم كالقردة في طهران وعبدان، مثل مظاهرات الرفاق الحزبية، فهنا كان الهتاف يقص الحنجرة عجَّل الله فرجه، وهناك بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم.
مع دخولنا مطار مهاباد، وفي حي الأمين في دمشق، حملت أطنانا من كتب الشيعة للبهبهاني والطبطبائي والمراجعي والتسخيري والعاملي والجاعلي.الخ وكلها كتب تعود لألفية كاملة إلى الخلف، في إسترجاع الشخير الشيعي السني.
وقلت في نفسي يومها خالص راجع نفسك، ففيك بقية من عقل، فإن كان مذهبهم حقا، وطريقتهم صدقا، فيجب أن تعلن ولائك للفقيه، وتلتحق بالمرجعيات، وتضرب نفسك بالسلسال والساطور في يوم محرم وعاشوراء؟
وفعلا وضعت السؤال المحرج أمام عيني، وقرأت واستغرقت، لفهم هذه المعضلة التاريخية، وكان ذلك مع انفجار الثورة الإيرانية، وبدء الحلم العظيم في استيقاظ المارد الإسلامي؛ بل لقد كتبت كتابا في الثورة الإيرانية، وألقيت محاضرة بحماس في مركز ميونيخ، عن أسباب وفلسفة الثورة الإيرانية (ثورة شريعتي والطالقاني والبازركان) وكان الغرب يرتعش خوفا، وينتفض كمدا، بعد أن تحركت الجماهير بأذرع عارية، كما وصفها روجيه غارودي، في أعظم ثورة لا عنفية منذ أن بعث النبي، وسبقت إيران أوربا الشرقية في التخلص من الطغاة، ولكنها تحالفت مع الطغاة مثل الأسد وشاوسسكو، في انقلاب من الثورة إلى الدولة، كما هي حال كل الثورات، التي حذرنا منها أرسطو قبل ثلاثة آلاف سنة؟
وإكتمل الكسوف بعد أن قتلت الأطفال السوريين في الغوطة أنهم أبناء يزيد وتحالفت مع طاغية دمشق وهي تعرفه يقينا، وهي الآن في طريقها لبناء صنم نووي، على طريقة بني صهيون؛ فيقولوا كما قيل لموسى بعد الخلاص من فرعون وعبور البحر اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؟!! هذه المرة في غياب كامل لموسى، أن يقول إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبَّر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون؟
ثم ذهبنا إلى إيران، وقابلت أنا شخصيا الخميني، وكان شخصية لا توصف إلا أنها مميزة وكارزمائية ووجه صادق صارم لايخيب. ثم اجتمعت بجماعة كيهان (نشرة الثورة)، ثم قابلت يزدي وزنكنا والخلخالي في مجلس نوابهم وآخرين. وفي سؤال ليزدي عن معنى استمرار الإعدامات بدون توقف؟ غضب الرجل، واعتبرني من مناهضي الثورة؟ أما زنكنا الذين قلنا له أن حماة تدمر بيد حافظ الأسد، فهل تتدخلوا عند صديقكم وحليفكم الاستراتيجي، لإيقاف سفك دم ثلاثين ألفا من المدنيين، يلحقهم خمسة آلاف مقرنين؛ بيد سرايا الدفاع ووحدات الصراع ينهبون سوق الذهب، ويقتلون خمسين امرأة مسكينة هاربة من الجحيم في قبو مظلم، بما تورع عنه النازيون؟ في حمامات دم لم يفعلها بنو صهيون؟ غضب الزنكنا وقال: إنهم أخوان مجرمين يستحقون الذبح من الوريد للوريد.
نعود إلى الأسطورة التي تقول أن الرسول (ص) جمع سبعين من أصحابه في غدير خم فقال لهم أن الحكم يجب أن يكون في علي ونسله إلى يوم القيامة، وهو حديث يقول عنه ابن خلدون أمور يقولونها ولا يسلم لهم بها.
ولكن الإيديولوجيات بنيت دوما على الأساطير، مثل رومولوس في قيام روما، والأساطير النوردية، أو النرتية عند الشراكس. وأوزيس وأوزرويس حول ألوهية الفراعنة. وحول الملوك الثلاثة يجتمعون من أقطار الأرض لمباركة الوليد يسوع في مهد حظيرة خراف.
وفي عام 1979م كنت في إيران بمناسبة الذكرى الثانية للثورة فرأيت العجب.
كنا نطوف بين طهران وقم بين الملالي والتكايا، في رحلة عودة للعقل لألف سنة أيام المستنصر بأمر الله والعلقمي، ونشم رائحة غير نظيفة، واكتشفنا أننا أمام ثورة غير إنسانية، وكانت رحلة الوداع مع أطنان كتبهم إلى غير رجعة، بعد هذه الصدمة الكبرى. كنا أول الأمر مستبشرين جدا، ولكن رابنا كثرة السجون واكتظاظها، إلى درجة أن غربيا صرخ ونحن لم نصرخ، لأنهم قوم تأصلت فيهم روح العدالة، ونحن مازلنا نعيش ضباب القرون؟ قال دعوهم يتكلمون؟
كان ذلك في زيارة سجن إيفين، وكان مكتظا على نحو مخيف، مع كل مظاهر التخفيف والتزيين (الميك أب)، وأما معسكرات أسرى الحرب من العراقيين، فكانت الأسرة إلى السقف فيتسلقون للنوم كالقردة، وربما نام في الغرفة الواحدة مائتي شخص، بما تخجل منه زربية ماعز وخرفان.
والقصة ليست هنا بل الجدل العقائدي؟ قلت في نفسي نعم كان الأفضل بعد عمر ر أو ربما قبل أبي بكر وعمر لو تسلم علي كرم الله وجهه الخلافة لتغير مجرى التاريخ؟ كما هو مجراه في أدمغة الشيعة؟ خاصة أن عليا كان صغيرا في العمر، وهو من تشرب النبوة منذ نعومة أظفاره؟ وإلى هنا لا بأس، ولكن كل المشكلة بعد ذلك؟ فإن مات علي فمن سيكون بعد علي؟ هنا الطامة الكبرى وداهية الدواهي قاصمة الظهر؟
قلت لاشك أن الجميع سيتفق كما هي في النظرية الشيعية، أن من سيأتي بعد الحسين حسونة؟ ومن بعده ستوزع الهدايا على الرؤوس، بين طواقي بيضاء وسوداء، فمن لبس الأسود كان دمه نقيا نبويا، تجري في عروقه كريات حمر مختومة نبي نبي.. معصوم معصوم..، ومن كانت عمامته بيضاء كان دمه هجينا، في انقلاب كامل من الفكر والثقافة إلى الدم والعرق، مذكرا بالنظرية النازية الآرية من صفاء الدم وأرومة العرق وتسطح الجمجمة حسب روزنبرج؟ وهم ليسوا الوحيدين في العالم من المؤسسات الدينية، ونظرة لألوان القلنسوات والعمائم وأحجامها، من بطريرك الأرثوذكس في روسيا الذي رش بماء الكنيسة، سبعة ملايين قربان بشري في الحرب العالمية الأولى، فأفسح الطريق للإلحاد الشيوعي بالقدوم، على المراكب سباحة في أوقيانوس من الدم البشري. أو دعمه لبوطين بقتل الإطفال السوريين بالطيران المتقدم هو ومفتي روسيا، وانتهاء بمفتي الجمهورية، وشيخ الديار الإسلامية مفتي العثمانيين، الذي كان يوصي بخنق أولاد الخليفة مثل الدجاج مع إعتلائه العرش، بآية قرآنية أن الفتنة أشد من القتل؛ فيقتلون بالجملة، كما خنق السلطان مراد 14 أخا دفعة واحدة في ضربة سلطانية واحدة، مالها من فواق.
وبذا هربنا من المطر لندخل تحت المزراب، ونؤسس بيتا جديدا للحكم (ديناستي Dynasty)، مثل بيت تشين والمغول في الصين، بفارق أن الاسم لن يكون عبد الملك بن مروان، بل حسن بن علي بن الحسن بن علي.. إلى آخر السلسلة المعصومة؟ باعتبار أن آل البيت معصومين، وفي آية صريحة بزعمهم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
وهنا يخرج من البيت كل نساء النبي الآخريات، وكل المجاهدين معه، وكل الصحابة الذين رباهم على عينه عشرات السنوات، بمن فيهم صهيب الرومي وبلال الحبشي و سلمان منا آل البيت وهو حديث يردوه فلهم أحاديثهم التي لا ترد؟ لتتحدد الطهارة على نحو (دموي) فكل من يدخل دمه كريات حمر دم النبي تحول إلى مقدس ومعصوم، مثل بابوات الفاتيكان، حتى كتب فيهم يونج السويسري أنهم يحملون البلايا التسع؟ وهكذا تؤسس الأسر الحاكمة في التاريخ تحت ذريعة المقدس والإلهي، وأن الشمس بزغت والقمر استدار وملوك الأرض حملوا الهدايا لطفل يثغو؟ والبيعة لآل الرضا من آل البيت. وتكرر في تأسيس البيت العباسي، وآخر من شكله أزواج شاهد مفجع، على أن أعظم الدماء تقوم تحت أعظم الأسماء، وانه لم يظلم الإنسان بقدر ظلمه تحت ما يسمى الدول الإسلامية، ولو رجعنا إلى قراءة المراسلات التاريخية التي تمت بين محمد ذو النفس الزكية في الحجاز والسفاح العباسي في العراق لعرفنا لعبة السلطة وأن من أعطى المشروعية كان السيف فكان أصدق أنباء من كل المراسلات، كما كان الحال في صراع صدام مع دول الخليج حين عقدت المؤتمرات في بغداد وجدة كلا يدعي أنه المحق ومن أنهى الصراع كانت صواريخ توما هوك الأمريكية، وهي تذكر على نحو ساخر ماذكره الرئيس الإيراني الأسبق (خاتمي) عن قصة العيارين والحرافيش حين زحفوا إلى بغداد فجاء من ينبه رئيس العيارين إلى بيعة الخليفة فما كان منه إلا أن نادى أحد الأتباع ليحضر لهم كتاب الخليفة وعهده فكان السيف ملفوفا بخرقة! فما كان من رئيس العيارين إلا أن زعق هذا عهد الخليفة وسيكون عهدي وشريعتي، وتكرر في سوريا الحالية والعراق والسودان نفس المصاب حين سطا العسكريون في جنح الظلام على السلطة وسيروا البلد إلى الهلاك والفقر والإفلاس والديكتاتورية.
ونعرف أن سيقان محمود طه في السودان، تدلت من حبل المشنقة باسم تطبيق الشريعة، وأن 200 ألفا من خيرة شباب السودان ماتوا في الجنوب تحت اسم الجهاد، والتي لم تزيد عن حفلة مترعة من قرابين بشرية في حج غير مقدس، التي كان وراءها الترابي الذي أنهى حياته وهو يدعو للحريات قبل أن يسلم الأمانة إلى بارئه. لقد نبش العباسيون قبور بني أمية وصلبوهم، وذبحوهم لآخر طفل، ودفعوهم للهرب إلى الباسك ليشقوا الدولة الإسلامية إلى رأسين، ووضعوا بقايا الأموات تحت السجاد، وهم يحشرجون، وبن علي يشرب الخمر ويفترس الدجاج مع أصوات المحتضرين. وإذا كان بيت مروان أنتج عمر بن عبد العزيز لسنتين وثلاث أشهر ليسمموه، فإن بني العباس وأولاد فاطمة في المغرب ومصر لم ينتجوا إلا طغاة، أو في أحسن الأحوال أناس يدّعون الألوهية، كما في الحاكم بأمر الله، الذي قام بتصفية عرقية للكلاب في ليلة غضب عارمة حين نغصوا نومه، فذبح ثلاثين ألفا من الكلاب مسومين، بحجارة من سجيل منضود، الذي هرب أتباعه من مصر إلى جبال سوريا، فأنشئوا ديانة مغلقة لأنفسهم، كما فعل أتباع يزيد بن معاوية بطل معركة الحرة في استباحة مدينة النبي، فهربوا إلى شعف الجبال، يعبدون الشيطان الرجيم، ويسمونه طاووسا بذيل وثيل.
هنا وقفت وتأملت وقلت: أليس عجيبا أن مثل هذا الدماغ الجبار (باقر الصدر) أن يتورط، وهو كاتب فلسفتنا واقتصادنا ومشروع بنك لا ربوي فيعتقد أن رجلا دخل سردابا، هو على قيد الحياة، بما هو ضد قوانين البيولوجيا، ليبعث بعد عشرة آلاف سنة؛ فيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا؟
هنا أعرف أن الموضوع سيكولوجي ولا علاقة له بالوعي مطلقا. ولذا كان على المفكرين أن يفهموا القضية في هذا البعد، فيسمحوا لكل الخرافات أن تنمو مثل العفن، حتى يأتي دور البنسلين..