نستغرب أمام هذه القفزة الإعلامية بالفراغ لجريدة كنا نعتبرها أهم الصحف مصداقية بفرنسا، حتى عند بعض النخبة المتفرنسة بالمغرب، كانت تعتبرها إنجيلا إعلاميا بالنسبة لها، وكانت لا تستشهد إلا بتحليلات كتابها من إعلاميين ودبلوماسيين، وكانت تعتبر الإعلام المغربي المكتوب بالعربية متخلفا ولا يرتقي الى مصداقية هذه الجريدة الفرنسية العريقة.
هذه الجريدة فجأة، وكأنها إكتشفت البارود حينما أعطت حيزا إعلاميا عالميا بصفحاتها لخطاب الكراهية والحقد ضد سيادة بلد معترف به بالأمم المتحدة، ليشرح زعيم هذه المليشيا المتطرفة بخطابها اتجاه المغرب إبراهيم غالي على صفحات ”لوموند” في 16 يناير 2023، قائلا وهو مغتر كالطاووس يعتقد نفسه تشي غيفارا : “هناك ضغوط هائلة لتكثيف القتال والعودة إلى أساليب القتال السابقة، بين عامي 1986 و1989، عندما خضنا معارك أسفرت عن نتائج عظيمة في إستعادة الأسلحة وأسر الجنود، شبابنا وجيشنا على وجه الخصوص يطالبون بذلك”.
وتساءلت الصحيفة في غيها المغلوط، هل في سياق تزايد الإحباط لدى السكان، هل تظهر الوحدة على مدى خمسين عاما من خلال تكسير البوليساريو؟ وتساءلت بحماقة في تمجيد إرهابية هذه الميليشيا صنيعة الحرب الباردة، حينما وضعت خطوط عريضة تحت شعار مؤتمر البوليساريو “تكثيف الحرب” ينم عن نفاد صبر الصحراويين لإعطاء زخم جديد للصراع المستمر منذ سبعة وأربعين عاما، وإتخذ على مدار عامين، شكلا منخفض الحدة، أي حرب العصابات التي تجاهلها المغرب والتي لم يرَ منها الصحراويون أي ثمار.
يقول “إبراهيم غالي” : هناك ضغوط هائلة لتكثيف القتال والعودة إلى أساليب القتال السابقة بين عامي 1986 و1989، عندما خضنا معارك أسفرت عن نتائج عظيمة في استعادة الأسلحة وأسر الجنود، شبابنا وجيشنا على وجه الخصوص يطالبون بذلك.” مضيفا: “تقاعس المجتمع الدولي يحكم علينا بالموت البطيء ونفضل أن نموت بكرامة”، تنقل “لوموند” عن الولي الداه، سكرتير البوليساريو، والجندي البالغ من العمر 40 عاما، وهو واحد من بين ستين متظاهرا في شهري أكتوبر ونوفمبر عام 2020، أغلقوا لأكثر من عشرين يوما معبر الكركرات الحدودي بين الصحراء الغربية وموريتانيا، والذي بناه المغرب في منطقة عازلة.
وإعتبر تدخل وحدات عسكرية مغربية لطردهم من قبل البوليساريو خرقا لوقف إطلاق النار من جانب الرباط، ويوضح الولي الداه: “كان هذا هدفنا. والآن، لن نرتكب نفس الخطأ الذي حدث في عام 1991: إذا أراد المغرب التفاوض، فسنمسك بقلم في يد، وبمسدس في اليد الأخرى”.
وتابعت “لوموند” القول إن ثلاثين عاما مرت على إتفاق السلام بين الرباط وجبهة البوليساريو، وعلى قرارات الأمم المتحدة التي تنص على تنظيم سريع لاستفتاء تقرير المصير في الصحراء الغربية، آخر إقليم إفريقي مدرج على أراضيها.
ومرّت عشرون عاما على آخر محاولة جادة من قبل الأمم المتحدة لحل النزاع، من خلال “خطة بيكر 2” في عام 2003 التي رفضها المغرب وخمسة عشر عامًا على اقتراح الرباط في عام 2007 الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وهو أمر غير مقبول بالنسبة لجبهة البوليساريو.
في غضون ذلك، هاجر العديد من الشباب ويرى أولئك الذين بقوا في مخيمات تندوف، أن إستئناف القتال هو الأمل الأخير لإنهاء نزوح جماعي استمر سبعة وأربعين عاما.
وإعتبرت “لوموند” أنه إذا كانت القدرات الحقيقية للجيش الصحراوي المعتمد على مساعدة حلفائه غير معروفة، فإن الرغبة في خوض معركة كبيرة بين الشباب، حيث تجمع العشرات منهم أمام أبواب وزارة الدفاع الصحراوية عندما أعلنت البوليساريو استئناف الكفاح المسلح، موضحة أنه على مدار عامين، سجلت جبهة البوليساريو أكثر من خمسين حالة وفاة، نصفهم من المدنيين، على أيدي الجيش المغربي الذي نددت الجبهة باستخدامه طائرات مسيرة.
وفي تجاوز خطير لحقائق الجغرافيا والتاريخ، متناسية ان هؤلاء المواطنين الصحراويون المغاربة أسرى بمخيمات العار الجزائر التي تسترزق بهم بالمحافل الدولية حينما تشير “لوموند” إلى حقيقة وضعية هذه المخيمات: “أنه في المخيمات التي تضربها الفيضانات والعواصف الرملية بانتظام، يعاني 7,6 في المئة من السكان من سوء التغذية الحاد، و28 في المئة من التقزم تعاني أكثر من نصف النساء والأطفال من مشاكل فقر الدم، ومع ذلك، منذ جائحة كوفيد والحرب في أوكرانيا، انخفضت المساعدات الدولية.
وعلى خلفية التضخم المتزايد، انخفض توزيع الغذاء الذي يعتمد عليه السكان بنسبة 90 في المئة بمقدار النصف، وفقًا للهلال الأحمر الصحراوي”، متناسية أن سكان المدن الصحراوية المغربية ينعمون بالعناية الصحية كباقي المغاربة ولا يحتاجون للمساعدات الخارجية”.
عقلية “الرجل المستعمر المريض” لم تتبدل بعد حقب العبودية والحروب الكولونيالية. والرفض الكلي خارج أي جهد تاريخي أو معرفي لمعرفة الآخر (المغرب) الذي يتمتع بسيادة لأكثر من 14 قرن، والذي كانت الصحراء المغربية جزء من المملكة المغربية في نشرها للإسلام بالغرب الإفريقي كله.. أدمغتها مستعمرة ومحتلة كلياً، فكيف لها أن تفرق بين تاريخ الأصلي وتاريخ المتخيل لمليشيا شيوعية خريجة الحرب الباردة.
إن زمرة صحافيي جريدة “لوموند” الفرنسية تنقصهم البصيرة التاريخية والتبصر بعمق في بلد عريق كالمغرب.
لقد كانت هذه الجريدة تحت وطأة مفاهيم سياسية مغلوطة مندرِجة في بنية خطاب سياسي مؤدلج مؤخرا نحو المغرب، وجب كشف النقاب عنه امام الرأي المغربي والعربي، و قراءة ما سكتت عنه وخبأته خلف قناعتها المغلوطة، منها أسطورة مليشيا مرتزقة تائهة في ذاكرة الجغرافيا والتاريخ.
إن هذه القراءة الإسقاطية المغلقَة التي تحمل ظاهرة العداء للوحدة الترابية المغربية وتعتبر المغرب بلا صحراء، تحمل رغبات إستعمارية لا يمكن تحملها أو الوقوف على الحياد والتجرد ما أمكن من أهدافها البعيدة تكريس ثقافة الارهاب بالمنطقة وتكريس مفهوم الحرب الطائفية.
وتعاطفَها المشبوه في خلق جمهورية وهمية على المحيط الأطلسي تكرس السياق الاستعماري المشبع بروح العداء لكل ما هو مغربي عربي.
إن هذه الجريدة التي كنا نعتبرها إلى وقت قريب منارة الاعلام الحر الغربي، بحملتها الشعواء على سيادة المغرب، سقطت في ميزان القيم الاخلاقية للإعلام الحر الغير المنتمي إلى جهة إستخبارية.
جريدة لم يكن موقفا حياديا على الأقل في نزاع تقوده دولة مجاورة للمغرب، ولم تستهجن إعتقال مواطنين مغاربة في مخيمات أقل ما يقول عنها انسانية. مسوغة لنفسها مديح الإرهاب والكفاح المسلح ضد دولة مسالمة كالمغرب.
لقد كانت جريدة “لوموند” بنشرها ودعمها للإرهاب العالمي بمنطقة الصحراء المغربية، مكملة لنهج السياسة الخارجية الفرنسية ولسان حالها الناطق بعدائها للوحدة الوطنية المبنية على أواصر البيعة بين سكان الصحراء والعرش العلوي المغربي.. لقد عملت هذه الجريدة وفقاً لمصلحة فرنسا في إثارة نعرات بين المغرب والجزائر و جسدتها في سياسة خطها التحريري خير تجسيد كما قراءنا مؤخرا، وعبرت عن نهج فرنسا وسياستها الخارجية الاستعمارية التي تقوم على التوسع والهيمنة..
لقد جسدت جريدة “لوموند” مقالها المنحاز لمليشيات البوليساريو على أرض الواقع بجلاء مقولة اللورد بالمرستون/ وزير خارجية بريطانيا، في ثلاثينيات القرن المنصرم، عندما قال: “لا يوجد أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة فقط”.
وها هي فرنسا تميل بكل ثقلها الى طعمة الحاكمة بالجزائر من أجل الغاز والنفط، وتحارب المغرب كقوة إقليمية يحسب لها ألف حساب بأفريقيا والعالم.
إنها خطيئة فرنسا التي لا تغتفر في دعم وبقاء دولة الجنرالات ونصرتها وإزدياد قوتها، وليس في الوقوف إلى جانب المغرب وقضاياه العادلة، وسيبقى الوضع بالصحراء المغربية على ما هو عليه تحت السيادة المغربية المبينة على الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية، ولن يتغير ميزان القوى في شمال إفريقيا لصالح شرذمة من مرتزقة الجزائر.
إن المغرب هو الأقوى على مسرح الأحداث بالقارة الإفريقية، وستبقى هذه المليشيات في مزبلة التاريخ، و العنصرَ الأضعفَ في المعادلة السياسية الراهنة.
2 تعليقات