آراءثقافة

الحداثة ودليل الحيران

لم يحض العرب المعاصرون بهدأة موضوعية أو جوعة وجودية كي ينشؤوا فلسفتهم الخاصّة، إذ سرعان ما داهمهم الواقع التاريخي، وغمرهم سيل جارف من الأفكار لم يملكوا أمامها من خيار سوى الانخراط في ذُهان التّمثّلات غير المجدية التي تدور بين تقليدها وتهريبها بوسائل غير مشروعة، مما أدّى إلى الإضرار بالصّحة العقلية، وما بين تمثّلات غير بريئة ورخوة عزّزت الهشاشة الزمنة في دورتي المعقول النظري والعملي.

حار العقل المحلّي أمام هذا الجرح التّاريخي الذي أصبح جرجا يستهدف الوجود، وبنية الاجتماع الثقافي العربي، المهمّة إذن ليس فقط أنها لم تكتمل فحسب، بل لم تبدأ بعد، لأنّ الغالب عليها الفتنة الكبرى، وهذه الفتنة تعيدنا إلى موقفين:

وصف طه حسين أنهما عبد الرحمن بدوي بالفلسفة الجرمانية بالافتتان، ناصحا إياه أن يوسع أفقه لكي لا يستغرقه ما يمكن أن نسمّيه إقليم من أقاليمها، ومن هنا وصفه بأنّه فُتن  بالفلسفة الألمانية فتونا، ناصحا إياه بتوسيع الأفق.

وحيث وصف ماكس ويبر الحداثة بأنها نزع السحر عن العالم، حار المترجم العربي، وهو جواب المرحوم محمد سبيلا عن سؤالي الذي كنت قاصدا منه مقاصد أخرى، عن اختياره عبارة (نزع الابتهاج عن العالم)، وكان قد باح بالسبب، كونه تعامل أكثر مع حيرة المترجم الفرنسي لعبارة (Désenchantement)، وكاد يذهب إلى معادل آخر هو نزع الزهور، منهج سبيلا في الترجمة هو نهج تأويلي بامتياز. مصدر الإيهام هو العبارة الألمانية (Entzauberung).

 للسحر كما نجد في العربية معنيان، حقيقي هو ما يقابل (la magie)، ومجازيّ يعني الافتتان، وفي تتبع تاريخ الترجمة يرى المرحوم أن الفرنسيين عادوا أو لنقل عاد بعضهم إلى عبارة نزع السحر: (Demagification).

كأنّ الحداثة إذن جاءت لتنزع السحر عن العالم، تلك النظرة الافتتانية، الساحرة، المحاطة بالأساطير، والتي لا تكلف العقل مشقة الواقع الموضوعي، والعلم، إنه تعريف موصول بغريزة وضعانية، ووهم آخر اجتاح الحداثة، حين اعتقدت أنها بالفعل تحررت من السحر.

ويبدو أن هذا السحر بدأ داخل الحداثة قبل انبثاق الحركة النقدية التي كشفت عن بعض من أوهام الحداثة نفسها عندما دخلت مرحلة استبداد العقل الأداتي، وتحوّلها من حداثة نقدية إلى حداثة تصطنع لنفسها بدائل من السحر، تتجلّى في قيام الأيديولوجيات التي ساهمت في النظرة السحرية الجديدة للعالم.

نستطيع القول أن مهمة نيتشه كانت هي نزع السحر عن الحداثة نفسها، وضعها أمام أوهامها، تحطيم أصنام ميتافيزيقاها البديلة، نسقها ونظامها المعرفي، بل إرادة المعرفة التي قمعت غريزة الحياة وأعاقت إرادة القوة.

في المجال العربي، أظهر سحر الحداثة المجردة عن روحها النقدية، وعقلانيتها المتوازنة، تمثّلا  لا يمكن تصنيفه لا في إرادة المعرفة ولا في إرادة الحياة، بل هو شكل من التّمثّل مشروط بالتموضع الجيوستراتيجي للمعقول المتاح، لأنّه يراهن على الرداءة، أي لم يمتلك حتى سحر الحداثة نفسها، بل عبّر عن سحر الذات المنجرحة أمام صدمات الحداثة ورشقات مفاهيمها الكبرى والصغرى.

تنابذ القول في تمثّل الحداثة فريقان:

فريق هام في سحرها الأدنى بأبازير تخلّفنا، ولهذا الفريق في بؤس تمثّلها عُجر وبجُر خالد في سجّل التقليد اللاّتاريخي لمفاهيم الحداثة الكبرى، والتي تقضي بتفعيل روح المفاهيم ومعايشة السياقات وإعادة تأويل الحداثة في ضوء تأخّرنا التّاريخي وهشاشتنا البنيوية وحاجاتنا الحضارية.

وفريق آخر، وضع بينه وبين الحداثة حجابا، ولاذ بالفرار، ناظرا إليها كلعنة تاريخية، مقتفيا الطريق السهل بقذفها وقذف آبائها، مختزلا إياها في كومة تاريخية من بدع، ومؤامرات تؤزّنا أزّا.

وبين الفريقين، نشأت نابتة أخرى نابذت التقليد، لكنها مارسته في العمق وأعادت إخراجه تداوليا، تقليد ملوّن وغير معلن، لا يملك سحره الخاص، بل له في المزاد العلني الكثير من مزاعم تدخل فيما لا يلزم في تبديد تأخرنا التاريخي.

ما زلنا هائمين في سحر الحداثة حتى داهمنا سحر منقلبها المابعد حداثي، ثم سرعان ما داهمنا سحر الانكفاء والنكوص؛ من سحر إلى سحر، ومن نوبة إلى أخرى.

وكان من المفروض أن نبدأ رحلة إرادة الحياة والقوة بالمعنى النيتشي نفسه، ليس من حيث هو نسق للاتباع، بل من حيث هو غريزة مشتركة تأبى قيد الكاطيغورياس، تستنشق الحياة بحدس التموجد الخلاّق، وتنحت المفهوم القابل لكل الاحتمالات، فلسفة حقيقية ليست اصطفافات وتمثّلات “سكوليرية”، بل تأمّل عابر، لا تمسكه مقولة متلاشية على هامش التدفق الماتع للعقل.

إنّ المعضلة اليوم تكمن في أنّنا جميعا نعيش مخرجات الحداثة عبر توزيع إمبريالي غير عادل. لكننا في هواها سواء، ونحن نواجه تنزيلها الأدنى، لأنّ لعنة التوزيع الإمبريالي غير العادل للحداثة والثروة والقوة، يفرض أن نتذكّر بأنّنا لا نمتلك إرادة الحياة.

سيكون من السهولة أن نتمثّل الطريقين، لكن المهمة التاريخية لم تعد محلّية، بل بتنا شركاء في الكون الحديث، وبأننا من داخل الهامش المأساوي نستطيع أن ننخرط حركة التحرر العالمي من الاحتكار، والجمود، والسحر.

ولهذا السبب تحديدا، نحتاج إلى الإنصات إلى أنيننا الداخلي، وأنين البشرية المعذّبة ثانيا، والقيام بواجبنا الكوني تجاه المفاهيم. إننا نعيش مرحلة انتقالية تستهدف الكينونة والذهن البشريين، وهنا وجب التفكير عبر-مناهجيا في المخارج الكبرى، بيقظة ورُقْيَة فلسفية عميقة ضدّ أشكال السحر المستجدّ.

كلّ هذا الضجيج، الخليط الملتبس من الخطاب، ما كان ليخلق كل هذا الذُّهان العصبي لو تمّ في مجال عمومي مفتوح. جزء من أدوائنا قد يُعالج فلسفيا، لكن أدواء الفلسفة تُعالج في مصحّة التواصل والنقاش العمومي، في ديمقراطية: إن قُلتَ، قُلْتُ.

لا داعيّ أن نستعيد روح القبيلة في النقاش حول الحداثة وعدمها. فالأهم في معضلة الحداثة وأزمتها، أنّ وسائل السيطرة فيها تقع اليوم تحت أيدي الميركونتيلية المعدّلة، حتى الحداثة اليوم باتت مرتهنة لحسابات الاقتصاد السياسي في الهيمنة وسوء التوزيع والاحتكار.

إنّ المعنى والرأسمال الرمزي يواجه أنماط الانتاج نفسها، إنّنا لم ننتبه إلى الحرب الباردة التي تخوضها القوى الخفية بالحداثة ضدّ الحداثة ألا ترى أنّ الحصر التاريخي للحداثة ينطلق من مؤسساتها الكبرى، من تأويلها لنمط العيش، ومستويات التخييل، والاستهلاك السحري للحداثة، في الحرب المعلنة على الخيال والاستعارة خارج مقولاتها العنيفة.

مهمّة الفيلسوف عربيا باتت مضاعفة، لأنّ لا شيء من سحر الحداثة تحت يديه. إنها حقيقة متفلة بقوة الاحتكار، ولكننا حداثيون، وإن لم ينالنا من سحرها الكثير إلاّ أننا كنا ولا زلنا ضحايا لهامشها، للعنتها، لنفاياتها. هناك اعتقاد بنُذرتها، وبأن التوزيع العادل للحداثة من شأنه الإخلال بالتوازنات العالمية الكبرى، ولأنّنا لا نملك المبادرة أمام خياراتها الاحتكارية: إما أن نكون عبيد المنزل أو عبيد الحقل.

نحن اليوم في حاجة إلى إستراتيجيا جديدة في تغيير أنماط تمسؤُلاتنا، في حاجة إلى إبداع الموقف الخلاّق، والسؤال الخلاّق، وكسر الجمود من خلال إعادة تأويل وضعيتنا في أفق علاماتي واستعاري وبلاغي مختلف. إنّنا لم نجرّب السباحة خارج الأنساق المعلنة وغير المعلنة، السباحة في بحر الشعور بتدفّق المعنى من صلب الحياة نفسها، لقد قتلنا الحياة بالكاطيغورياس منذ العصر الهيلنستي، ولا زلنا نقاتل على النّسق بدل أن نقاتل على التأويل، وللتذكير فقط: كلّنا في الهمّ شرق!

https://anbaaexpress.ma/ym5jb

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي ، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى