آراءثقافة

حوار مع الفيلسوف والمفكر التونسى الكبير فتحي المسكيني

في عالمنا العربي لا يوجد سلطة دينية إلا على سبيل المجاز، يوجد دوما سلطة سياسية تستعمل المعتقدات الدينية

فتحي المسكيني، هو فيلسوف ومترجم ومفكر تونسي كبير له العديد من المؤلفات يشغل منصب أستاذ التعليم العالي بجامعة تونس، حصل على جائزة الشيخ زايد للكتاب فى الترجمة عام 2013، عن ترجمته لكتاب الفيلسوف الألمانى مارتن هيدجير “الكينونة والزمان “، من مواليد بوسالم عام 1961حاصل على دكتوراه الدولة فى الفلسفة، حبه لنيتشه وجبران جعله شغوف بعالم هيدجير الفلسفي وإذا كانت أفكار لوك فيرى عن الفلسفة بأنها فن كيف تحيا وكيف تجابه الموت، فالمسكيني يلتقى معه فى حكمه أن الإنسان ينبغى عليه أن يصبح ذات بلا هوية، لذلك ففكر المسكيني تدشين لإنسانية بلا قصد حرية بلا هوية، يدعونا جميعا أن نجتهد كى نخرج ذواتنا الحقيقية المتحررة من كل الأيديولوجيات والموروثات، المسكيني مهموم بسؤال الوجود وليس الموجود لذلك يرى عدم وجود معنى للإيمان بدون حرية ولا مستقبل لأى دين إلا فى نطاق دولة المواطنة ويرى أن ظهور قراء التراث في عالمنا العربي على واجهة الفكر حول مهمة التفكير لدينا إلى مجرد قراءة للتراث.

1- يتهمنا الكثيرون بأننا نروى أفكار الآخرين ولا نفكّر. ولعل ذلك ما دفع الدكتور هشام جعيط في كتابه” أزمة الثقافة الإسلامية” إلى القول إنّ رصيدنا “صفر ” في مجال الفكر العميق ما مدى قبولك أو رفضك لهذه المقولة ؟ وما هي أزمة الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة ؟

هذا سؤال يمكن أن يساعدنا على فهم معنى المشكل “الهووي” الذي نعاني منه: إنّ اتهام شعب ما بأنّه “يروي أفكار الآخرين ولا يفكّر” هو نفسه موقف هوويّ لا يفكّر. بل هو فقط يستلف من الأوروبيين طريقتهم في سرقة العقل البشري وإحتكاره، مع العلم وأنّ هؤلاء الأوروبيين ما فتئوا يصرّحون (كما نرى ذلك لدى نيتشه) بأنّه جاؤوا إلى أنفسهم “متأخّرين” جدّا بشكل مخجل، لذلك علينا أن نعيد هذه التهمة إلى سياقها وأن نؤرّخ له من الداخل حتى نتحرّر منها: هي مجرد خيلاء “كولونيالية” وصلت إلى “مثقّفينا” التنويريين في شكل “جلد للذات” آن الأوان للتخلّص منه.

ذلك أنّه لا يمكن أن ندّعي أنّ رصيدنا “صفر ” في مجال الفكر العميق إلاّ إذا صدّقنا المرويّة الكولونيالية التي أقنعت نفسها ثمّ كل “تابع” غير أوروبي لها بأنّ “الحداثة الأوروبية” هي الصيغة النموذجية من النجاح في الانتقال من رتبة “الهوية” (المسيحية في حالة أوروبا) إلى بناء “الذات” الحديثة (التي نجحت في إنتاج “الفكر العميق” للإنسانية القادمة، أي في بناء تصوّر جديد للحقيقة في العلوم وبلورة موقف ميتافيزيقي جديد تجاه الكينونة في العالم والتشريع لسلوك سياسي غير مسبوق تجاه الإنسان-المواطن، الخ…). وهو فكر تكرّس في إنجازات التكنولوجيا والرأسمالية والديمقراطية. إلاّ أنّ هذه المرويّة الأوروبية هي مجرّد “هوية سردية” بناها فلاسفة وكتّاب ومؤرّخون، وليست “واقعة” تاريخية بديهية. ذلك أنّ “الحقيقة” هي أنّ الأوروبيين لم يفعلوا سوى “تجذير” محاولات الشعوب والثقافات السابقة من الصينيين والفراعنة واليونان والبابليين إلى الإبراهيميين من يهود ومسيحيين ومسلمين، الخ. وبخاصة النجاح في اختراع الحبكة المناسبة للاستفادة في نفس الوقت من الفلسفة اليونانية (اختراع العقل الكلي) والقانون الروماني (اختراع “الشأن العام” القانوني) من جهة، والكتاب المقدّس اليهودي-المسيحي (اختراع كرامة الشخص البشري).

لكنّ ما يوصي المؤرّخ الأوروبي بنسيانه بشكل نشط وصارم هو “الدَّيْن” غير المفكّر فيه تجاه المسلمين، والذي عبر إلى أوروبا العميقة سواء عن طريق التبادل السياسي والحربي الصليبي أو عن طريق الترجمة المنظّمة: لاسيّما أنّ “المسلمين” قد سبق أن جرّبوا نفس الوصفة حول سياسة الحقيقة: محاولة الجمع بين التجربة الإبراهيمية (اليهودية-المسيحية) وبين كل تجارب الإدارة والملك والقانون والتدوين والفلسفة والعلوم التي تطوّرت في الشرق الأوسط القديم (عند الهنود والفرس والروم، الخ..). ومن هنا لا معنى لاتهام “النحن” الحالية لأنفسنا بأنّها تأخذ من حضارة “أخرى” طالما أنّهما “نحنان” (نحن غربية ونحن إسلامية) قد تطوّرتا في نطاق براديغم واحد: براديغم الاستثمار التوحيدي أو الكتابي الإبراهيمي للتراث الوثني الهندي-الأوروبي.

وعليه، لا توجد “أزمة” في “الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة”، لسبب بسيط: أنّه لا توجد اليوم ” ثقافة عربية وإسلامية معاصرة” مغلقة على نفسها أو يمكن عزلها على حدة، نعني ثقافة يمكن تمييزها في نفس الوقت عن “تراث” الملّة (التي بلغت نهايتها الرمزية والسياسية ما قبل القرن الخامس عشر) وعن “ثقافة” الحداثة (التي فرضت علينا في الفترة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية منذ قرنين).

إنّ ما نسمّيه “نحن” اليوم هو كينونة لا تملك من “الثقافة” إلاّ ادّعاء “الهوية”، وهو مكسب رمزي فظيع لا يجب التفريط فيه، بل تطويره بشكل جيّد، حتى يتحوّل إلى “ذات” مبدعة لأشكال نفسها ومن ثمّة مبدعة لسياسة الحقيقة التي تناسبها. ما نصفه بأنّه “عربي وإسلامي معاصر” هو مجرّد ادّعاء هوويّ، لا يزال لا يملك مضمونا حيويّا مكتملا، ومن جهة الفلسفة يعني ذلك: أنّ علينا أن نعيد اختراع أنفسنا، واختراع مفردات جديدة لقول أنفسنا، وذلك دون تعويل كسول على الخدمات المنهجية المسمومة للسردية الكولونيالية التي تحوّلت إلى غواية معرفية لدفع غير الغربيين إلى الخلط المميت بين “العقل الغربي” و”الحقيقة”، هو عقل له مصالحه العليا التي أملتها هويته السردية، لكنّه ليس السياسة الوحيدة للحقيقة.

ولذلك يبدو لي أنّ سؤال شكيب أرسلان “لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم” (1930) لم يكن سؤالا فكريّا أو فلسفيا هو في واقع الأمر مجرّد سؤال أخلاقي (حسب مضمون الكتاب الذي يفسّر “التأخّر” في معنى الجهل وفساد الأخلاق والجبن والهلع واليأس والجمود وفقد الثقة بالنفس) لا معنى له إذا جرّدناه من “إشكالية التقدّم” التنويرية التي يستند إليها ضمناً. لكنّ هذا يعني أنّ “تأخّر المسلمين” هو مجرّد مفعول “كولونيالي” لإشكالية التقدّم، فلا معنى للتأخّر إلاّ بالنسبة إلى التصوّر الأوروبي لحركة التاريخ منذ القرن الثامن عشر.

2- تقول عند النظر إلى ما يسمّى “مشاريع إسلامية” لا أرى مشاريع أرى شعارات عامة، وضّح لنا وجهة نظرك دكتور ؟وكيف سيكون شكل الدولة التي ينشدها الإسلاميون إذا تحقّق حلمهم في يوم من الأيام ؟

علينا أن نبدأ من مفهوم “المشروع” نفسه: هذا إختراع متأخّر في الفلسفة يبدو أنّ هيدغر هو من إخترعه في نطاق استثمار لغوي خاص باللغات الغربية: حيث ترد اللفظة سواء في الألمانية (der Entwurf ) أو في اللاتينية (projectus) واللغات المنحدرة منها،- مبنيّة على استعارة أساسية هي “الإلقاء-إلى-الأمام”. ومن حديث ديكارت(1637) عن “مشروع كتاب” (مقال في المنهج، 2) وحديث روبسبيار(1792) عن “مشروع قانون” إلى هيدغر (1927) تحوّل “المشروع” من “تصميم” مادي إلى “حال وجودي”، أي إلى بنية لكينونة الإنسان في العالم: لقد صار نوعا من “استشراف الكينونة” بناءً على أنّ ما يتميّز به الكائن البشري هو أنّه “مقذوف به” في العالم، أي في “حقل الممكنات الخاصة به”.

ولذلك كل فهم لنفسه أو للآخرين أو للعالم هو حال وجودي ملقى به في حقل الممكنات، وليس بمقدور أيّ كائن أن يعيش إلاّ واحدا فقط من الممكنات الخاصة به. كل إنسان هو “لقاء ملقى به” في وجه العالم. يسبح في حقل من الممكنات بوصفه “واقعة” وجودية لا مخرج منها إلاّ بتحمّل القلق الأصيل حول مصيره.

لو رجعنا الآن إلى عبارة “مشاريع إسلامية”: هل يمكن حقّا أن نبني “مشروعا” بالمعنى الوجودي (وحتى بالمعنى الاقتصادي) بناءً على “ثوابت الملة”؟ من الخطأ (أو المكر) أن نطمع في اختراع “مشروع” وجودي (وكل “مشروع” بالمعنى الحديث هو استشراف وجودي جذري للكينونة في العالم) على أساس إحترام ثوابت دينية لا يمكن المساس بها. لنقل بكل دقة: الدين ليس مشروعا. وهو ليس مشكلا وجوديّا. ولذلك لا يمكن “تجديد” الدين إلاّ تجوّزا فقط، وإلاّ فإنّنا سوف نحوّله إلى تجربة وجودية “غريبة عن الدين”. لكنّ ذلك لا يعني أنّ الوجودي ليس “مؤمنا”، بل فقط أنّ “الإيمان” لديه لن يكون له عندئذ مضمون “ديني” بل شيء آخر. ربّما أزمة الدين لدينا راهنا متأتّية من أنّنا لم نطوّر أشكالا جديدة من الإيمان حتى بعد سقوط دولة “الملة” ودخول الشعوب تحت حكم “الدولة-الأمة” الحديثة، ولذلك لا يوجد “شكل للدولة” خاص بالإسلاميين، كأنّ السلطة يمكن أن تغيّر طبيعتها عندما يتغيّر الحكّام.

إنّ تاريخ السلطة وتاريخ الدين يمكن أن يتقاطعا، ولكن لا يمكن أن يتماهيا. وعلى الأغلب لا توجد “سلطة دينية” إلاّ على سبيل المجاز؛ ما يوجد دوما هو “سلطة سياسية” تستعمل المعتقدات الدينية. وهذا واقع لن يتغيّر أبدا حتى في العصر العلماني أو في المجتمعات ما بعد العلمانية.

ولذلك حتى يستطيع “مؤمن” من نوع جديد أن يقترح علينا “مشروعا إسلاميا” فإنّ عليه أن يغيّر ماهية “الدين”؛ أو أن يحوّل “الإسلام” إلى استعارة سردية لهويتنا أو قيمة أخلاقية مفيدة لشكل حياتنا في العصور المقبلة، وليس تقنية رجاء للأموات أو سلاحا أخرويا للشهداء. هنا يمكن لعبارة “لا إكراه في الدين” أن تصبح خبرا سارّا.

3- كيف ترى ظاهرة “الإسلام السياسي” ؟ وهل هي قادرة على الاستمرار والتأثير في مجتمعاتنا رغم كل الضربات التي لحقت بهم ؟

“الإسلام السياسي” تسمية سجاليّة وليست ظاهرة حقيقية. تسمية تعني : تأويل الإسلام (هكذا دون أي تحديد آخر) بوصفه “هوية سياسية”. وهي تسمية علينا دوما أن نؤرّخ لنشأتها “الحديثة” و”الحديثة العهد”، حيث ربما لا نعثر على أي أثر لها قبل أواخر عشرينات القرن العشرين.

نعم، هناك محاولات راديكالية لتوظيف الدين أو التصوّف في السياسة، لكنّ ذلك لا يعني أنّ ماهية الدين أو ماهية السياسة قد تغيّرت. لا نتحدّث عن “ظاهرة” إلاّ متى كان “الحدث” طبيعيّا أو تاريخيّا، أي وقع لأسباب أصيلة. وبما أنّ السياسة لا تعني غالبا، من اليونان إلى اليوم، سوى تنظيم استعمال المعتقدات والخطابات وفق نموذج محدّد ووحيد للسلطة أو للهيمنة على أشكال الحياة أكانت فردية أو جماعية، خاصة أم عمومية،- فإنّ الدولة الحديثة منذ بناء مفهومها مع هوبس قد سنّت قانونها الخاص في استعمال الدين وتوظيفه في خدمة نوع السلطة “البيو-سياسية” التي أسّستها وفرضتها على “المحكومين” باسم “هوية قومية” لا تزال سارية إلى اليوم. ولذلك كلّ من يعارض الدولة الحديثة باسم الدين هو يتصرّف وكأنّ الدين يملك “مرجعا” خارجيّا أو متعاليا على “منطق الدولة”، وهذا وهم سياسي كبير وخطأ إستراتيجي فادح.

فمنذ تمّ تنصيب دولة السيادة الحديثة سنة 1648- بعد معاهدة واستفاليا التي أنهت الحرب الدينية في أوروبا ودشّنت عصور الحروب القومية الحديثة،- فإنّ الدين قد جُرّد من طاقته المرجعية أو من “سلطته التأسيسية”، نعني قدرته التشريعية في مجال السياسة وبناء “الدول السلطانية”. ما فعله دعاة “الإسلام السياسي”- أكانوا متشدّدين أم معتدلين- هو بناء اعتراض نسقي على منطق الدولة الحديثة، وخاصة على مفهوم “السيادة” الذي تستمدّ منه تلك الدولة شرعيتها الخاصة وغير القابلة للاستلاب لأيّ سلطة أخرى مهما كانت متعالية، أي حتى ولو كانت “دينية”.

إنّ بناء “لاهوت سياسي” مقتبس من سردية الملّة، ورفعه ضدّ “سيادة الدولة الحديثة” لا يمكن أن ينجح وذلك لسبب جوهري: ألا وهو أنّ تلك السيادة نفسها هي- كما بيّن ذلك كارل شميت- مجرّد علمنة لقيمة دينية. ومن ثمّ إذا كان دعاة “الإسلام السياسي” يريدون حقّا المشاركة السياسية، وليس التدمير العدمي لحقوق المواطن والإنسان الحديث،- فما عليهم سوى الانخراط في منطق “الدولة الحديثة” التي هي قريبة إليهم أكثر ممّا يعتقدون: عليهم فقط أن يقبلوا بواقع أنّ “دولة القانون” هي مجرّد علمنة إجرائية نقلت “دولة الشريعة” من معجم الملة إلى معجم القانون، ومن مفردات العقيدة إلى مفردات الواجب، وهذا يعني أنّ “الإسلامين” مثلا هم أقرب من “اليسار” الشيوعي إلى الدولة الليبرالية، وليس فقط من اليسار بل ومن كل تفكير عدمي أو فوضوي أو وجودي أو”ديكولونيالي”.. وليس من الصعب أبدا تأسيس مطلب “الديمقراطية” (حكم الشعب أو الأغلبية) على تبريرات من نوع “ديني” عن “الجماعة” أو “السواد الأعظم”. أمّا إذا رفضوا الانخراط في العصر “الديمقراطي” (الذي هو حسب نيتشه عصر “ديني”) فهذا يعني أنّ “الإسلام السياسي” ليس مشكلا دينيا، بل يحرّكه دافع “سياسي” غير مصرّح به، ولابدّ أنّه “غير ديمقراطي”.

4- من وجهة نظرك ما وظيفة الدين ؟

يحتاج الناس إلى الأديان- وكل الأديان لها نفس الوظيفة- عندما تفشل الحياة في الإجابة عن أسئلتهم العميقة. وبما أنّ البشر نوع من الحيوانات الذكيّة التي لن تستطيع تغيير علاقتها بالحياة في المدى المنظور، إذا لا يزال البشر “كائنات-نحو-الموت” كما عبّر عن ذلك هيدغر،- فإنّ “الدين”- أي هذا النوع من الإجابة عن أسئلة تقع خارج الحياة بما هي كذلك- سوف يظلّ في الخدمة، حتى ولو ادّعى الإنسان الحديث أنّه بات يعيش في “عصر علماني”، إذْ أنّ العلماني لا يعني أنّه ألغى الحاجة إلى الدين، هو فقط أعاد تنظيمها، أو نقل خطرها إلى الخطاب، ولذلك لا معنى لأيّ موقف “علماني” إلاّ بوصفه نتيجة “علمنة” لقيم دينية، أي نتيجة إعادة تنظيم أو توجيه لاستعارات دينية في جوهرها.

كل مفردات الحداثة هي مواصلة للاستعارات الدينية الإبراهيمية الأساسية: “الإله الخالق” صار “ذاتا” سيّدة مبدعة لقيمها؛ و “آدم” صار “إنسانا” أنثروبولوجيا؛ و”الكتاب” صار نموذج “النصّ” في كل مجال تداولي؛ و”القراءة” صارت سلوكا مدنيّا؛ و”التعالي” صار هو معنى “الحرية” الوجودية مهما ادّعى اللبراليون أنّ تحرّرهم “أفقي”؛ و”الكرامة” (أي التفضيل الأخلاقي للبشر على الحيوانات) صارت حقّا قانونيّا في حرمة الجسد البشري الخ… بيد أنّ ذلك يعني أنّه لا يمكن إخراج الدين من الخدمة. بل فقط: تغيير طبيعة الحاجة إلى خدمته.

هو لا يزال يملك ترسانة من “تقنيات النفس” صارت تسمّى اليوم وسائل “التنمية الذاتية”؛ ولا يزال يملك تفوّقا رمزيّا وتقنيّا فظيعا في التعامل مع تجربة الموت لا تضاهيه في ذلك أيّة تقنيات أخرى أكانت وثنية أو معلمنة. وطالما أنّ الموت معركة خاسرة للبشر فإنّ الدين سيحافظ على وظيفته. ولذلك فإنّ خطورة الدين ليست في وظيفته الأساسية- تدبير معنى مناسب للموت البشري- بل في خروجه عن وظيفته والتورّط في أدوار “غير دينية”، وليس السياسة هي أخطرها: إنّ أخطر تورّط للدين خارج مجال عمله هو تورّطه في مسائل “الأخلاق” (البتّ في ما يجب أن يكون وفق ثنائيّة الخير والشرّ)، وليست السياسة غير مواصلة الأخلاق بطرق سلطوية.

الأخلاق هي جملة تقنيات الحياة التي إخترعها شعب ما في نفس الوقت التي عمل فيها على اختراع شكل مناسب لذاته، إذْ لا يمكن الفصل حقّا بين شكل الحياة وشكل الذات في أفق شعب ما، لكنّ كلّ أخلاق تبقى “ناقصة” في معنى أنّها لا تملك تقنية مناسبة للتعامل مع تجربة الموت؛ وبهذا المعنى يأتي الدين كي يساعدها.

إنّ الدين “مكمّل” سردي لأيّ أخلاق لكنّه لا يمكن أن يكون بديلا عنها. هو يساعدها على تحمّل أسئلة الموت لكنّه لا يحق له أن يعوضّها في مسائل الحياة. أمّا السياسة فهي شاهد زور: هي تستفيد من التناقض العميق والخفيّ بين الدين والأخلاق في كل ثقافة.

ولا ننسى أنّ سقراط قد أُعدم بتهمة إدخال آلهة جديدة إلى المدينة، والحال أنّ تاريخ الفلسفة لا يعترف له إلاّ بنقل التفلسف من “الطبيعة” (معرفة الحكمة) إلى “الأخلاق” (أن يعرف المرء نفسه وأن يعتني بها). ولذلك من النادر جدّا أن يكون الدين قد تصرّف إزاء أخلاق البشر من دون تدخّل سياسي.

5- تقول “الذهاب إلى المسجد لم يعد سلوكاً دينيّاً”. ماذا تعتبره إذن ؟

إنّ أيّ دين “اليوم” (في العصر الرقمي والبيو-تكنولوجي) هو بحاجة إلى استعادة معناه الأصلي حتى لا يبدو خطابا “عبثيّا”، نعني أنّه “كان” في وقت ما، في “عصره” الخاص، إجابة طريفة عن أسئلة طرحها الإنسان القديم على نفسه وعلى كينونته في العالم ومع الآخرين. إنّ هذا الإنسان القديم قد مات أو هو قد غيّر قصّته بشكل مرعب؛ وبالتالي فإنّ “الدين” بما هو كذلك هو بالأساس لم يعد يخاطبنا بمجرّد أن دخلت الإنسانية في أفق فهم جديد لنفسها ولمصيرها ما لبثت تجذّره وتدفع به نحو أنواع غير مسبوقة من “المستقبل”، أنواع لا يعد “الدين” هو الإجابة الرسميّة عنها. “الدين” هو طاعة روحية بموجب نوع مخصوص من “الديون” الميتافيزيقية تجاه “إله” محدّد هو “الإله الخالق” الذي أقام مع البشر علاقة “شخصية” وصلت إلى حدّ مكالمتهم والوحي لهم وثوابهم وعقابهم بل حتى “رؤيته” في “اليوم الأخير” من تاريخ أنفسهم في “آخرة” أو “حياة أخرى”. الدين علاقة “طاعة” مع إله خالق لدينا “ديون” تجاهه لا يمكن تسديدها بشكل “دنيوي”، ومن ثمّ جاءت فكرة إنشاء “مكان” مميّز جدّا لملاقاته، مكان “مقدّس” أي معزول عن “بقيّة” الأمكنة باعتباره “حالة إستثنائية” من العلاقة بالمكان بعامة، بقدر ما هو متاح لنوع من “الأجساد” الحيوانية.

بهذا المعنى ظهرت المعابد والكنائس والمساجد، الخ. “المسجد” مكان للقاء مع إله غائب، بواسطة جسم خاص يشعر أنّه قد حُمّل “دَينا” لا يمكن تسديه أبدا إلاّ عن طريقة “مقايضة” ميتافيزيقية نقدّم فيها “هذه” الحياة الدنيا مقابل “حياة أخرى” لا يمكن للجسد الخاص أن يطولها في هيئته الحيوانية.

هذا الوضع الأصلي كان يجعل المسجد مكانا مميّزا حيث يمكن للمؤمن التقليدي بالإله بأن يسلك سلوكا “دينيّا” بالمعنى الذي وصفناه: أي سلوكا “أخرويّا” يتعلق أساسا بترضية الإله الخالق وتسديد “ديون الكينونة” تجاهه. وحده الدين يمكنه أن يساعد البشر على تسديد “ديون الكينونة” تجاه إله خالق. وهذا لا يتحقق إلاّ إذا قبلوا التحوّل من مجرّد “حيوانات” (ناطقة) إلى مرتبة “الآدميين”: إنّ “آدم” مرتبة أخلاقية تمّ اختراعها من أجل تأمين الانتقال الميتافيزيقي من جسم حيواني ناطق إلى جسد آدمي “مخلوق” بيد إلهٍ خلقه لغاية محدّدة هي “عبادته”: نعني “محبّته” إلى درجة “التقديس” من فرط الشعور بالامتنان الميتافيزيقي على “جود” لا يمكن إرجاعه لأنّه قد أخذ شكل “الوجود” نفسه. وعلينا أن نسأل: منْ مِنَ “المؤمنين” المعاصرين- أي الذين يواصلون الإيمان في ظل الدولة الحديثة بعد الخروج من أفق “الملة” الدينية- يمكنه أن يدّعي أنّه يذهب إلى المسجد في معناه الأصلي؟ لقد تحوّل المسجد في الأثناء- بعد الانتقال من دولة الملة إلى دولة القانون- إلى “مرفق عمومي” خاضع لترتيبات وإجراءات تابعة لوزارة الشؤون الدينية، الخاضعة بدورها إلى بنود “دستورية” شرّعها “برلمان” هو نفسه ثمرة نزاع سجاليّ ومداولات قانونية بين خبراء ومختصين، تحت وطأة إحتجاجات مدنية وثوابت دعويّة وقضايا هوويّة أو قوميّة وترتيبات أمنية ومطالب اقتصادية، الخ.. ولذلك من الواضح أنّ “المؤمن” التقليدي الذي صار يطلق عليه “في الأثناء” صفة “المؤمن الشعبي” هو نفسه قد فقد هويته التقليدية، نعني هويته الدينية بالمعنى الذي اقتبسه من معجم الملة. لقد أصبحنا أمام “مؤمن-مواطن”، وليس أمام “مؤمن-رعيّة”. وحده المؤمن-الرعيّة كان ذهابه إلى المسجد “سلوكا دينيّا”؛ أمّا “المؤمن-المواطن” فقد صار ذهابه إلى المسجد “سلوكا عموميّا”.

ونعني بذلك أنّه سلوك محمَّل بدلالات “مشتركة” (هووية، سياسية، أخلاقية، نفسية، ثقافية،…) تحت وطأة ضوابط أو تشريعات “قانونية” وحتى معمارية (نوع البناء وتاريخه وحالته…)وعمرانية (المساحة، الموقع، البعد، حركة المرور،..)، وتكنولوجية (التجهيزات، الإضاءة، المصدح، التكييف، الخ…). نحن أمام مؤمن-مواطن يشارك في معارك الشأن العام والانتخابات والنقاشات العمومية…بحيث أنّ علاقته بالمسجد قد غيّرت من محتواها الرمزي بشكل لا يمكن نكرانه. وربما صار الخيار مزعجا وخطيرا عندئذ بين صلاة المفرد كحلّ شخصي أو الاستيلاء “السجالي” على “خطبة” المسجد من أجل تبديل وجهتها… أمّا الصلاة القديمة فقد ضاعت بلا رجعة.

6- لماذا ترى معركة “الانتماء إلى الذات” أخطر من معركة “الهوية” ؟ وكيف لنا أن نعالج علاقة الهوية بالحرية أو علاقة الحرية بالهوية من دون خسائر ديمقراطية ؟

علينا أن نميّز أوّلا بين “الهوية” وبين “الذات”: نحن نرث هوياتنا بشكل “محلّي” دوما، أي نرث التوصيف الرسميّ لأنفسنا وأجسامنا كما فرضتها القصص التأسيسية للشعب أو المجتمع الذي “وجدنا أنفسنا” كبشر “ملقى بنا” سلفاً داخل “عالم رمزي” لم يختاروه. ولذلك كل “هوية” هي كيان جاهز أو لا يكون. لا أحد يختار هويته: كلّ بشر يجد نفسه محكوما عليه بأن يولد في “أرض-أمّ” ويترعرع في “عائلة-أمّ” ويتعلّم “لغة-أمّا” وينتسب إلى “قوميّة-أمّ” ويؤمن بـ”دين-أمّ” وتحكمه “سلطة-أمّ”، الخ… كلّ هذه العناصر هي عناصر “هووية” وجدنا أنفسنا “عليها”، ولا معنى لنكران ذلك. أمّا “الذات” فهي شأن آخر تماما: “الذات” ليست مشكلا محلّيا، بل هي أفقنا على الإنسانية، على مغامرة “النوع الإنساني” على هذا الكوكب، على تاريخ فصيلة الحيوان التي نجحت في اختراع الأدوات المناسبة كي تصبح هي على هرم الحيوانات “المفترسة” بوسائل “غير طبيعية” أي باللغة والهياكل الاجتماعية. ومن ثمّ فالذات هي طريقة كل “فرد” إنساني في بناء “شخصيته” وتنمية علاقته بنفسه باعتباره كائنا اختار نفسه وليس مجرّد نزيل إجباري في سجتها.

الذات هي “مستطاع الجسد” الذي يبحث عنه كلّ منّا. هي “صورة أنفسنا” كما يمكننا أن نرسمها بأنفسنا، بما نتعلّمه وما نعرفه وما نفكّر فيه وما نعتقده وما نتخيّله وما نخطئه وما نتوهمه وما نرفضه وما نعِد به، الخ… إنّ الهوية هي “ماضينا”، ماضي أنفسنا في كل مرة؛ لكنّ الذات هي وعودنا بأن نكون يوما ما نريد. ولذلك لا يمكن لأحد أن يتحرّر من أيّ تبعيّة تجاه أيّ نوع من السلطة (أكانت دينية أو أخلاقية أو سياسية أو استعمارية أو عرقية أو جندريّة، الخ.) إلاّ عندما ينجح في الانتقال من علاقة الهوية الجاهزة إلى علاقة الذات الحرة. وهكذا فإنّ أفق التوتر بين الهوية والحرية هو رهان “الذات” بوصفها “معركة انتماء”، وليس بوصفها مجرّد “إرث” رمزي إجباري. لا يتحرر حقا إلاّ الذي نجح في مساعدة هويته على التحوّل إلى ذات: نجح في نقل “مصادر نفسه” من مجرّد رواسب هووية إكراهية جماعيّة إلى وعود بإنجاز ذاتٍ مستقبليّة خاصة. ولذلك فالهوية بما هي كذلك –بما هي مصادر رمزية أو روحية أو قومية موروثة- هي ليست مشكلا بحدّ ذاتها، لأنّه لا أحد يولد “بلا هوية”،- بل المشكل في ارتكاس الهوية وتمترسها داخل قوقعة خرساء، ترفض أيّ صوت جديد لأنفسنا. لا يعني التفكير الجيّد “نقد الهوية” بل فقط مساعدتها على الانتماء الصحّي لنفسها ومن ثمّ على التحوّل إل “ذات”، وذلك (حتى نستعير استعارة فتغنشتاين) مثلما نساعد الذبابة على الخروج من الزجاجة. أمّا عن “الخسائر الديمقراطية” فهي لا تظهر إلاّ عندما يفضّل “المواطن” أن يحتمي بالهوية المغلقة خوفا من تحمّل تبعات التحوّل “الحديث” إلى “ذات” حرّة.

7- وصفت الأصوات التي علت مؤخرا في عالمنا العربي معلنة إلحادها بأنها “مراهقة ملحدة” وأنها موضة روحية تؤدى دورا جماليا أكثر منه دورا عقائديّا ضد الدين. أليس ذلك تقليلا من شأن ظاهرة تبدو أعمق من ذلك ؟

قال هيدغر في أحد دروسه الأولى:” إنّ الفلسفة، في إشكاليتها الجذريّة، التي تطرح نفسها على نفسها، ينبغي أن تكون من حيث المبدأ غير مؤلّهة (a-theistisch).” علينا أن نرى إلى كل المسافة الفاصلة بين ما أشار إليه هيدغر من “عدم التأليه” وبين ما نسمّيه بالعربية “إلحادا”. – “لحد” الميّت يعني دفنه، واراه التراب. “ألحد” لحدا للميّت حفر له قبرا. ولكن عندئذ: “من” مات حتى نلحد له لحدا؟ لكنّ العربية لغة مخاتلة ومتكثّرة بشكل فظيع: هي تقول أيضا “ألحد” فلان، أي عدل عن الحقّ وأدخل فيه ما ليس فيه، وألحد في الحرم انتهك حرمته. كيف نجد الخيط الاستعاري الخفيّ بين “لحد الميّت” (أي دفنه) وبين فعل “الإلحاد” أي انتهاك الحرمة؟

ومن ثمّ، حتى يكون ادّعاء “الإلحاد” صحيحا أو مبرّرا من الداخل على “من” يلحد أن يقوم بالأمرين على نفس واحد: أن يدفن “ميّتا”؛ وأن ينتهك حرمة كبيرة. الأوّل إجراء عدمي أتمّ “حداده” بشكل صحّي على المفقود؛ والثاني تجرّأ على “الانتهاك” بوصفه طاقة أخلاقية غير قابلة للتدجين السياسي.

من يلحد مطالب بتحمّل مهمّتين أخيرتين: أوّلا الإعلان عن “موت الإله” ومن ثمّ “إلحاده” أي “دفنه” بالمعنى الذي ذكره نيتشه؛ وثانيا إعلان العصيان الديني بوصفه الصيغة الجذرية من أيّ عصيان سياسي إزاء أيّ سلطة “تحريم” مستقرّة لدى أهلها.

تؤدّي المهمّة الأولى إلى ثورة جذرية في الأخلاق: نعني مراجعة ثنائيّة الخير والشرّ والتجرّؤ على التشريع لخلق أشكال جديدة لأنفسنا على صعيد يقع “ما وراء الخير والشر”. أمّا المهمّة الثانية فتؤدّي إلى ثورة قصوى في السياسة: نعني مراجعة فكرة الحاكم الهووي- الذي يستنبط شرعيّته من هوية استخلافيّة مركّبة من ثلاثيّة الأب-الملك-الإله التوحيدية.

أنا لا أرى “ملحدين” بل فقط “غير مؤلّهين”. نعني أناسا فقدوا أفق أنفسهم القديم- الأفق “الآدمي”، حيث كان البشر “مخلوقا” من طرف إله خالق” ينزل “الكتب المقدّسة” ويبعث “الأنبياء” ويفرض “الشرائع” ويحاسب في “الآخرة”- لكنّهم لا يملكون من مستقبلهم سوى دلالة “سالبة”: “أصوات” تكفّر نفسها في الخطاب العمومي لكنّها تواصل التغذّي على السردية الإيمانية في شؤون الأخلاق (تدبير النفس على نحو لا يزال فيه الجسد الخاص لم ينجز ثورته الخاصة، الجنسية والجندرية، الخ.) أو في شؤون السياسة (تدبير الجماعة على نحو لا يزال فيه معنى “الكثرة” أو “الفرادات” الحرّة رهين مفهوم قانوني وإجرائي عن “الشعب” طوّعته الدولة/الأمة لمنطقها الخاص).

إنّ “تعطيل” سردية الملة في الخطاب العمومي ليس كافيا لادّعاء “الإلحاد”، بل هو مجرّد انفعال سجالي تجاه سلطة ميتافيزيقية لا تزال مرعبة. لا يزال الإلحاد لدينا حركة “شبابية” ومغامرة لذيذة ضدّ السلطة العميقة لنماذج الأب-الملك-الإله؛ لكنّ التمرّد “الجمالي” ليس ثورة روحية بل “موضة” قد تؤكّد أزمة في العلاقة مع نماذج أنفسنا لكن لا تشكّل “موقفا” موجبا لإنتاج الحياة الحرّة.

ومن ناحية “فلسفية” فإنّ التفكير في مستقبل أنفسنا ليس بالضرورة مشكلا “دينيّا”، نعني إنّ الحياة مشكل لا علاقة له بالموت أو بما بعد الموت. وحدها سردية الملة الكتابية اخترعت أفقا إجباريّا للزجّ بالناس في طريق الآخرة، بحيث صارت الاستعارة الوحيدة المتبقية للحرية هي استعارة “الإلحاد” أي دفن الميّت الذي فينا وانتهاك حرمته، باسم الحرية. والحال أنّ الفلسفة مثلا- كنموذج لأيّ تفكير حرّ- هي لا تدّعي لا امتلاك فكرة الإله ولا تحديدها. وحسب هيدغر: كلّما كانت الفلسفة جذرية في أسئلتها الخاصة، إلاّ وكانت بعيدة تماما عن “طريق الربّ” ومقاصده الخفية.

ولكن دون أن يستبعد ذلك بالضرورة أنّ تجذير الفلسفة لطريقها البعيد عن الله ربّما يضعها “في قرب صعب من الله”. هذا القرب ليس مجرّد خطأ منهجي يمكننا أن نصلحه؛ وليس موقفا دينيّا يمكن لأيّ كان أن يتمرّد عليه. إنّ الناس يلتقون بمحنة القرب من أفق “التأليه” بسبب تاريخ أنفسهم العميق، وليس بسبب “تربية” دينية يمكن التخلّي عنها. – ليس المطلوب من “الأرواح الحرة” أن تلحد بهذا الإله أو ذاك، بل فقط أن تخترع شكلا جديدا لأنفسها. بهذا المعنى هي لا تحتاج إلى “الإلحاد” بل فقط إلى “الحرية”.

8- لماذا ترى أنّ كل خطاب دعوى أو عدمي أو إستلابي هو مجرد نكاح للعقل ؟

غالبا ما تمّ اتّهام “الرجل الشرقي” بأنّه مدمن على “النكاح” أو بأنّه حيوان شبقي أو أنّه “عنيف” تجاه النساء، الخ. لكنّ الواقع هو أنّ كل سرديات النساء والرجال على الأرض قد كانت متشابهة تماما إلى أواخر القرن التاسع عشر،- إنّ نيتشه مثال جيّد على أنّ “الرجل الغربي” قد كان هو الآخر “كارها للنساء” سواء برّر ذلك بالأدلة “الفلسفية” الطبيعية (اليونانية) أو أسّس ذلك على اعتبارات “دينية” أو أخلاقية (مسيحية). لكنّ ما هو مثير للتساؤل هو أنّ العرب –رغم لغتهم الكلاسيكية المعجزة- هم كانوا يفتقدون إلى لفظة تسمّي “الجنس” بالمعنى الذي تقوله اللغات الغربية أي “sex” من حيث يدلّ في نفس الوقت على ثنائيّة “الجنس البيولوجي” و”الميل الجنسي”. وإلى اليوم لا تجد العربية لفظة كي تسمّي “أعضاء الجنس” فتنعتها فقط بأنّها “أعضاء تناسلية” كأنّ “ممارسة الجنس” لا يمكن أن تُسمّى بشكل مباشر وبما هي كذلك، بل فقط من خلال “وظيفة” بيو-سياسية هي “التناسل” أو “حفظ النسل”.

لماذا لا نملك في العربية الكلاسيكية إسما للجنس؟ علينا أن نذكّر هنا بأنّ الثقافة “الكولونيالية” هي التي أدخلت معنى “الجنس” في فصاحتنا العربية “المعاصرة”، فإنّ عبارات من قبيل “اتّصال جنسي” أو “ممارسة جنسية” أو “عجز جنسي”، الخ… هي لا تعني أبدا لو قرأها أحد العرب القدامى ما تعنيه لنا في رطانتنا الجديدة: سوف تعني عنده مجرّد “جنس منطقي” أو “نحوي”.

كان لابدّ من تدخّل السلطة الكولونيالية للغات الأوربية حتى يتجرّأ العرب المعاصرون على وضع كلمة خاصة بالجنس، حتى وإن لم يفعلوا ذلك إلاّ بتطويع كلمة قديمة تمّ نقلها من معناها القديم (“الجنس” هو “ما يدلّ على كثيرين مختلفين بالأنواع”، مثل “الحيوان”، و”جنّس” الأشياء، شاكَلَ بين أفرادها) إلى معنى مستحدث بعد تجربة كونويالية للخطاب (صار “الجنس” يعني المضاجعة والمواقعة والجماع الذي يقع بناء على “ميول جنسية” بين “جسدين” أو “أعضاء جسدين” مهما كانت تلك الأعضاء أو مهما كان جنسهما البيولوجي أو “جندرهما” الاجتماعي، الخ…).

هل كان العرب يمارسون شيئا “آخر” غير الجنس؟ ماداموا لا يملكون إسما خاصا لتسميته؟ ولكن هل أنّ اللغة هي المكان الوحيد للقاء بأنفسنا أو بأجسادنا الخاصة ورغباتنا ومعتقداتنا العميقة، أم يمكن أن “نعيش” ما لا يمكن للغتنا أن تقوله أو تسمّيه؟ لنأخذ العرب بما قالوا: هم قد سمّوا هذا “اللاّمسمّى” (هذا “الجنس”) باسم “النكاح” (ومع هذا الاسم، على ما ذكر السيوطي، هم ذكروا ألف اسم آخر من نفس النوع أو على الأقلّ أربعمائة إسما).

لكنّ المشكل لا يتعلق بغياب الاسم فقط بل في أنّ لفظة “النكاح” نفسها هي لا تتعلق بالجنس – بنوع الجسد أو بجندر الجسد الخاص- بل بما “يحدث” عندما “ننكح”- إنّ ما يحدث هو “الاختلاط” المحض: تقول العربية “نكح المطرُ الأرض: اختلط بترابها”؛ و”نكح النعاسُ عينيه: غلبه عليهما”؛ بل و”نكح الدواءُ فلانا: خامره وغلبه”.

النكاح إذن وصف أصلي لشيء لا علاقة له بالجنس بل بحدث “فيزيائي” بين عناصر الطبيعة (مثل المطر والأرض) أو بين أعضاء غير تناسلية (العين والنعاس) أو بين موادّ طبية (الدواء والجسم)، الخ. يبدو النكاح إذن تسمية بعيدة جدّا عن الجنس؛ مجرد “وصف” مادّي لتفاعلات مادية، وليست متعلقة بالجنس أصلا. لقد كان النكاح إذن مجرد استعارة بعيدة للإشارة إلى شيء “غير مسمّى”. هذا اللامسمّى كان “الجنس” بالمعنى الذي قالته اللغات الأوروبية. ولكن هل فعلا لم يكن العرب يتوفّرون على لفظة مناسبة لوصفه “العملية الجنسية” كما نقول اليوم؟

علينا الآن، في ضوء هذه التلميحات، علينا أن نواجه عبارة “نكاح العقل”. في الواقع، كان العرب يسمّون الجنس ولكن في لغتهم “اليومية” أو “العامية” فقط؛ وهذا يعني أنّ ما وصلنا في شكل “نصوص” و”مدوّنات” فصحى وبليغة وفي لغة عالية، إنّما كان مجرّد اختيار بلاغي تمّ تكريسه والدفاع عنه باسم نوع محدّد ومهيمن من “سياسة الخطاب”. ويكاد لا يوجد عربيّ / متكلّم بالعربية، إلى حدّ اليوم لا يعرف “اسم” النكاح باللهجات العامية، ولا يعني ذلك أنّ اللفظة ليست “عربية” أو لم ترد في المعاجم. بل فقط أنّ سياسة الخطاب المهيمن قد فرضت لفظة “النكاح” بوصفها استعارة اصطلاحية بديلة عن أيّ لفظ تمّ تصنيفه على أنّه لفظ”سوقي” أو “متروك” أو”مناف” للذوق السليم. ومع ذلك، فإنّ ما يدعو إلى التفكير ليس سياسة الخطاب أو الحكم الصادر ضد لفظ ما باعتباره “بذيئا”، وليس الخطير هنا هو سياسة البذاءة أو شرطة اللغة، بل شيء آخر: إنّ ما تمّ السكوت عنه وتعويضه بلفظة النكاح هو لفظ مرادف له في العربية ويعني بالتحديد :” حَمُق”، وتأويل “الأحمق” هنا على أنّه “العاجز الجاهل” و”العييّ في كلامه” أو الذي في صوته “عجز ببعض نطقه”.

وهنا علينا أن نتساءل بعد عصور طويلة: كيف يمكننا أن نفهم “اليوم” ربط العرب القدامى بين “النكاح” و”الحماقة”؟ إنّ “اللامسمّى” – الجنس في بلاغتنا الجديدة- قد فُهم على أنّه كينونة تعاني من العجز والجهل والعَيّ في الكلام، وبهذا التوصيف هي تستحق اسم “الحمق”. ولكن: ما الخيط الرفيع الذي كان يبرّر الربط الاستعاري الرسمي حسب سياسة الخطاب بين النكاح والحمق؟ بين الناكح والأحمق؟ هل يرشح من هذه الممارسة الخطابية أنّ العرب القدامى لم “يواجهوا” الجنس أبدا، نعني لم يعترفوا بأيّ “حرمة” أخلاقية سامية للجنس، ولذلك لجئوا إلى الكناية عليه ؟ ربّما، من أجل تفادي الصدام اللغوي مع ما يفرزه الجسد الخاص الحيّ، مع ما هو “طازج” و”نيئ” و”محض” فيه ( !). طبعا، هذا تساؤل تكذّبه مدوّنات “النكاح” المتعدّدة التي نجحت حتى في اكتساب صفة “فقه النكاح” وصارت جزء “علميا” من فرائض “المسلم”؟

ربّما، كانت اللغة هي المكان الذي يتمّ فيه التخلّص من نفايات الجسد الخاص، من خلال لعبة التسمية. إنّ استعارتيْ ” النكاح” و”الحمق” – أي “الخلط” بين العناصر و”العجز” عن النطق- قد كانتا كافيتين لتأمين سياسة خطاب مقبولة اجتماعيّا، أي قادرة على ضبط سياسة الجندر المتّبعة، وذلك من خلال إخراج “اللامسمّى” من الركح.

ولأنّ النكاح كان في تقديرهم نوعا من “الحمق” فإنّ العرب القدامى قد اعتبروا “العقل” ملكيّة خاصة خطيرة على من يحكم أن يرعاها. لقد تمّ دوما تأميم “العقل” وفرض “حفظ العقل” باعتباره ثروة سياسية، وليس مجرّد اختيار فردي.

ولذلك كانت وظيفة “العقل” دوما هي “الربط”- “عقل الدابّةَ أي ضمّ رُسغها إلى عضدها وربطها، لتبقى بارِكةً- أو “الإمساك” – “عقل الدواء البطن، أي أمسكه بعد إسهال”- أو “الدِية” – “عقل القتيل أدّى المال الذي يُعطى وليّ المقتول بدل نفسه”. العقل ربطٌ وإمساك ودية. لو طبّقنا هذا المعنى المركّب ولكن العميق على “النكاح” بوصفه سياسة في تأمين العلاقة المناسبة مع “الحمق”،- فإن من ينكح هو جسد خاص يرغب في الحمق الذي ترضى عنه سياسة الخطاب المهيمن. وما ترضى عنه سياسة الخطاب المهيمن هو ما نسمّيه “العقل”: ربط الشهوة وإمساك الرغبة ودية الجسد-المقتول أو جسد-المتعة، الجسد الذي “لا” يُستشار أو “لا” يشتهي أو “لا” يرغب أو “لا” يتمتع،- ولكنّه مع ذلك “يُنكح”.

أمّا “اليوم” فإنّ نكاح العقل له دلالة مضاعفة: إنّ “من” يصرّ على مواصلة منطق الملة في الحياة العمومية الحديثة هو لا يقصد سوى معاملة “الناس” وكأنّهم “جسد متعة” أو “جسد مقتول”: معاملة الناس “الطبيعيين”، “الحقيقيين”، هذا الشخص الواقف في ناصية الشارع، هذه النفاية الكولونيالية الصامدة ضدّ دولة الأشباح الحديثة،- معاملته وكأنّنا نملك تفويضا دينيّا لنكاح “عقله”: نكاحه لغويّا وأخلاقيّا وطقوسيّا وتربويّا،…من خلال “شريعة” لم يشرّعها “أحد”، ولذلك من السهل أن يدّعيها أيّ “مدّع” جديد.

كلّ خطاب دعوى، يبشّرنا بآخرة خاصة على مقاس أوهامنا، أو عدمي، يعلن لنا موت إلهنا الأخير، أو استلابي، يسرق منّا ما تبقّى من الانتماء إلى مصادر أنفسنا،- كل خطاب من هذا النوع هو مجرّد نكاح للعقل، وليس “تفكيرا”،- التفكير، المنسي الكبير بالنسبة إلى كل خطاب ديني،-هذا النوع الصعب والنادر من استعمال العقول الحرّة، دون أي ضمانات أو ديون مسبقة، هذا النوع من المستحيل الذي لا يمكن لأيّ “حرّاس ملل” أو “قرّاء تراث” أ, “أتباع حداثة”، مهما كان ادّعاؤهم، أن يشرئبّوا إلى أفقه الغائب.

9- كيف ننزع “الأسطرة” عن الدين وبالتالي نفكر فيه بطريقة أكثر عقلانية وحرية وهل من الممكن أن يدخل الدين مدرسة الديمقراطية ؟

علينا ألاّ نخلط بين هذين المطلبين المختلفين: “نزع الأسطرة” (demythologizing) عن الدين، من جهة؛ و”دمقرطة” الدين من جهة أخرى. لنفحص عن المطلب الأوّل. ولنسأل بادئ الأمر: من قال إنّ “نزع الأسطرة” سوف يضمن لنا أن “نفكّر في الدين بطريقة أكثر عقلانية وحرية”؟ علينا أن نستدعي هنا رودولف بولتمان الذي طرح هذا الشكل سنة 1941 في محاضرته “العهد الجديد والميثولوجيا”.

من يدعو إلى “نزع الأسطرة” عن القصص الديني هو يتكلّم باسم “النزاهة الفكرية” للعقل الحديث: أنّه لم يعد يمكن السخرية من ذكاء الناس ومواصلة الخلط بين “القصة” و”التاريخ”، أو بعبارة سبينوزا، بين المعنى والحقيقة، بل علينا أن نخاطبهم على خطّ العقل الخاص بعصرهم. طبعا، هذا ليس مشكلا جديدا: كان الفارابي قد دعا إلى التمييز بين خطاب “الملة” وخطاب “الفلسفة” على أساس التمييز بين “التخييل” و”البرهان”.

لكنّ الفلسفة التقليدية قد كانت هي نفسها، منذ أفلاطون، متورّطة في “الصور الأسطورية” للعالم، وفي حاجة سردية ماسّة إلى اعتماد “الأساطير” كي تفكّر في “الحقيقة”. ولذلك فإنّ الجديد مع بولتمان هو نقل نكتة الإشكال من السؤال عن التقابل المنطقي بين “ميتوس” و”لوغوس” إلى سؤال من نوع مختلف هو “السؤال الهرمينوطيقي” أو التأويلي: إنّ الرهان هو “المعنى” الذي تشير إليه الكتب المقدّسة التوحيدية، مثل العهد الجديد، متى نظرنا إليها بوصفها بالمحصّلة “بضاعة لغوية محضة”. نزع الأسطرة تعني إعادة المعنى الديني إلى بنيته التأويلية الأصلية، على اعتبار أنّ الدين هو في نواته مجرّد “كتاب” أي بناء لغوي محض، لجأ إليه الإنسان في مرحلة من تاريخه العميق من أجل أن يفهم من يكون بالنسبة إلى الكون من حوله. وكلّ دين له مهمّة واحدة، حسب بولتمان، ألا وهي أن يقترح على المؤمن به طريقة جديدة في فهم نفسه في ضوء كينونته في العالم. نزع الأسطرة عمّا يقوله الكتاب المقدّس ليس تبخيسا لحقيقته ولا رفضا لصلاحيته الروحية، فإنّ دعوة “نزع الأسطرة” هي غير موجّهة أصلا إلى الفلاسفة بل إلى الأجيال الجديدة من “علماء اللاهوت”.

هي إذن معركة داخلية في أفق الدين وليست مشكلا اخترعه الفلاسفة من أجل نقد الدين. ما اقترحه بولتمان هو أن نعيد النظر إلى “الأسطورة” الدينية بوصفها “شكلا من اللغة”، ومتى صارت كذلك انتهت اللعبة اللاهوتية التقليدية (حيث لا يزال الخلط بين المعنى اللغوي والحقيقة العقديّة مسلّما به) وبدأت اللعبة التأويلية (أنّ الكتاب لا يعني أكثر ممّا يمكننا فهمه في الشكل اللغوي الذي نتكلّمه).

في ضوء هذا التنزيل المنهجي، يبدو عندئذ أنّ رهان “نزع الأسطرة” لن يضمن لنا أن “نفكّر في الدين بطريقة أكثر عقلانية وحرية”: لا يعني “نزع الأسطرة” في طرح بولتمان سوى أن نتمرّن على تأويل الكلام الديني (المهيكل في لغة أسطورية) بالاعتماد على الجهاز الفلسفي الذي اخترعه هيدغر في كتاب “الكينونة والزمان”، نعني جهاز التحليل “الوجوداني” لمشاكل “الفهم” بوصفها غير قابلة للتفسير إلاّ وفق “البنى الأساسية للوجود الإنساني” التي لا يحق لنا أن نعاملها بوصفها “موضوعات” معرفة، وإنّما بوصفها “مقامات كينونة في العالم”. وهذا يعني: أن نغلق باب المعرفة “الموضوعية” التي هي مستحيلة التحقيق في ميدان الدين، وأن نفتح باب “الفهم الهرمينوطيقي” الذي هو الباب الوحيد الذي يظل مفتوحا أمام أسئلتنا عن المقدّس. وهكذا لا تعنى “نزع الأسطرة” غير “التأويل الوجودي” للقصص الدينية، حيث يمكننا أن ندّعي أنّنا “فهمنا” شيئا، على مقاس كينونتنا في العالم، وإنْ كنّا لا نستطيع أن نزعم أنّنا “عرفنا” حقيقة الدين.

إنّ مفاهيم من قبيل العقلانية والموضوعية والحرية هي مفاعيل منهجية ناتجة عن براديغم “الذات والموضوع” وهي سرعان ما تفقد صلاحيتها بمجرّد الخروج من أفق العقل الوضعي والدخول في أفق الفهم التأويلي. مهما ادّعت “الذات الحديثة” أنّها “تعرف” فهي لا تعرف سوى ما تبنيه بمقولاتها الخاصة حول “موضوع” ليس لها من نموذج تقيسه به إلاّ “الظواهر الطبيعية”. كل ذات عارفة لا ترى غير موضوعات، أي مفاعيل إجرائية لمقولاتها الخاصة. أمّا الفهم التأويلي فهو يريد نقض مقولة “الموضوع” وتحرير “الذات” من تاريخها الايبستيمولوجي الذي فرضه براديغم الفيزياء الرياضية منذ غاليلي؛ ومن ثمّ نقل المشاكل الخاصة بالوجود الإنساني (والدين مجرد مشكل وجودي) من نطاق مطالب “المعرفة الموضوعية” (التي لا تصدق إلاّ على الطبيعة) إلى أسئلة “التأويل النصّي” (حيث لا نتعامل إلاّ مع “نصوص” و”مدوّنات”، أي مع ظواهر “لغوية” محضة، وليس مع “ظواهر طبيعية”).

وهنا نكتشف بشيء من الأسف والحسرة، ربما، أنّه لا معنى لأيّ “تفكير عقلاني” في الدين؛ وهكذا لن يبقى أمام الإنسان المعاصر، الذي يتميّز اليوم بأنّه ليس فقط كائنا “ما بعد-ديني” (أي حديث أو علماني) ، بل أيضا هو بنفس القدر كائن “ما بعد-حديث” (ومن ثمّ “ما بعد-علماني” أيضا)،- سوى أن يعيد تعريف مفهوم “الحرية” التي لا يزال يمتلكها إزاء الدين.

إنّها لم تعد حرية عقلانية تدّعي أنّها “تعرف” الظاهرة الدينية معرفة “موضوعية” وبالتالي هي قد “تحرّرت” من سلطة الدين؛ بل فقط أنّها تملك دوما حقّا تاريخيا في إعادة فهم ما يقوله الدين بشكل حرّ. وعندئذ علينا أن نبصر بالفرق الحاسم بين ادّعاء المحدثين “التحرّر” من الدين بالمعرفة الموضوعية (التي يوفّرها تاريخ الأديان مثلا) وبين مطالبة الأفراد “ما بعد المحدثين” بحقّهم في أن يكونوا “مؤمنين أحرارا”، وليس مجرّد “مؤمنين محترفين” يدينون بالولاء إلى طائفة أو مؤسسة دينية قائمة وجاهزة سلفا.

حين يكون لدينا “مؤمنون أحرار”، اختاروا شكل أنفسهم وشكل الانتماء إلى أنفسهم العميقة، ولم يتمّ إجبارهم على ارتداء “زيّ هووي” نظامي، تحت تهديد التكفير، – عندئذ فقط يمكن للدين أن يدخل “مدرسة الديمقراطية”. إلاّ انّه لن يدخلها “مشرّعا” لها بل كمجرّد “تلميذ” مبتدئ لا يزال في شطر واسع من مخيّلته ومفرداته يواصل تكلّم لغة “غير ديمقراطية”، وليس ذلك بسبب نقص في “إرادة” الحرية لديه، بل لأنّها لغة منحوتة من “مسطّح التعالي” الذي انبنت عليه سردية “الإله الواحد” بوصفه “إلها خالقا”. والرهان الصعب عندئذ: كيف نساعد المؤمن الحرّ على إرساء ضرب من “التعالي الأفقي”؟ نعني: كيف نساعده على تحمّل وزر الحرية كما تحمّل وزر الهوية؟

10- محنة خلق القرآن إحدى الجداليات المهمة في التاريخ الإسلامي كيف تراها ؟ ومن وجهة نظرك هل تراها حقا نتاج عقل عربي جدلي أم كانت دخيلة عليه ؟

ربّما أكثر الظواهر ضررا على ثقافة ما أن تشغل نفسها بأسئلة ماتت. نحن لا نقدّر حقّا إلى أيّ حدّ تعيش فكرة ما ومتى تموت. وكان إدغار موران قد خصّص الجزء الرابع من كتابه “المنهج”(1995) لدراسة “الأفكار”، لباسها، حياتها، عاداتها وطريقة تنظّمها، يقوده تساؤل حيوي مفيد جدّا: “هل للأفكار حياة خاصة؟”. ويخلص إلى أنّ هناك ضربا من “إيكولوجيا الأفكار” علينا أن نفكّر به. – لو أعدنا النظر في جدالات أسلافنا من “المتكلّمين” مثل ما سُمّي “محنة خلق القرآن” لوجدنا أنفسنا أمام قضايا لم تعد تخاطبنا، ومن هدر العقول أن نشغل الأجيال الجديدة بهموم فقدت أفق الفهم الذي نشأت فيه، لأنّ “سياسة الحقيقة” التي كانت تحتاجها دولة “الخلافة” قد انسحبت هي بدورها من مجيء “الدولة/الأمة” الحديثة، مهما بالغنا في نقد نمط السيادة الذي قامت عليه. وفي تقديري كان تورّط دولة الملة في مثل تلك الجدالات الكلامية خطأ سياسيّا فادحا، ينمّ عن خلل جوهري في سياسة الحقيقة التي تستدعيها دولة سلطانية تزعم أنّها متأسّسة على “سلطة دينية”، والحال أنّها دولة تاريخية بحتة. ولذلك ما تقترحه الفلسفة هو الفصل بين الدولة والحقيقة: بين مطلب السلطة ومطلب المعرفة. لا يحق لأيّ “سلطة” أن تدّعي أنّها “حقيقة”، ولا يحقّ لأحد أن يفرض نمطا من “المعرفة” على أنّه هو الشكل الوحيد من العلاقة بالحقيقة.

ومن ثمّ ليس مهمّا ما إذا كانت محنة خلق القرآن “نتاج عقل جدلي عربي أم كانت دخيلة عليه”، فهذا سؤال “هووي” لا يزال سجين تصوّر “ماهويّ” للحقيقة أو للسلطة: إذْ أنّه لا يمكن للفلسفة أن تعترف بوجود “عقول قومية” تمتلك “هويات مغلقة” على حدودها يمكن أن نضع خطّا مطلقا وحاسما بين ما هو “أصيل” وما هو “دخيل” فيها. إنّ نكتة الإشكال في الجدالات الكلامية حول تلك المحنة العجيبة هو تورّط الدولة في شؤون الحقيقة، بحيث تنقلب السلطة الشرعية إلى محكمة تفتيش عن “الضمائر” أو عن خبايا “العقول”، والحال أنّ مهمّة السلطة ليست تدبير الحقيقة، بل تنظيم العيش المشترك بين أعضاء جماعة سياسية محدّدة على أساس مطلب واحد: تقنين مطلب العدل (تقاسم الحظوظ في الحياة والموت) داخل تلك الجماعة.

نحن لا نزال لم نبدأ بعدُ في النقاش الكبير حول مستقبل أنفسنا الجديدة: كلّ ما هنالك هو محاولات متقطّعة وربما هامشية لغلق أقواس وفتحها حول مصادر ذاكرتنا العميقة، دون قدرة فعليّة على تحمّل أعباء التفكير العالمي في مشاكل “الإنسانية” الحالية. لكنّ غياب النقاش الكبير لا يعني غياب المشاكل التي تدعو إلى ذلك؛ هو يعني فقط أنّنا غير جاهزين لاختراع شكل أنفسنا من جديد. وهذا خوف ميتافيزيقي وتردد أخلاقي من تحمّل “حرية الحقيقة” المفروضة علينا منذ الآن، أكثر منه نقصا منهجيّا.

11- كيف تكون دولة المواطنة هي المنقذ للدين في النهاية؟

كل خطاب “منقذ” هو يفترض مجيء الكارثة أو اقتراب “العاصفة”. وكان والتر بن يامين يتحدّث عن “التقدّم بوصفه عاصفة” وكارثة. ومن ينتظر “إنقاذ” الدين من العاصفة هو يريد إنقاذ “الماضي” الروحي لشعب ما من مستقبله. إلاّ أنّه لا يمكن إنقاذ أحد من مستقبله إلاّ بقتله.

من أجل ذلك لا يجب بناء تقابل يائس بين الدين والمواطنة، فمن يدّعي أنّه “مؤمن” اليوم هو نمط اجتماعي علينا أن نميّزه بشكل منهجي عن صورة “المتديّن” بالمعنى التقني: لا يوجد “متديّنون” إلاّ في جماعة سياسية تسمّى “الملة”. أمّا “المؤمن” فهو وجه أخلاقي يمكن أن يظهر في أيّ مجتمع وفي أيّ عصر. والفرق بين الإيمان والتديّن هو فرق حاسم هنا: إنّ الملّة جماعة سياسية تأسّست على “الطاعة” لأولي الأمر بموجب “التديّن” أي الانخراط الرسمي والعلني والعملي في جماعة سياسية نجحت في تأسيس “دولة الملة” أو “الخلافة”. التديّن سلوك محترف، وفعل نظامي، وليس نزوة أو سرّا أو تصريحا يمكننا التراجع عنه. ولا وجود لملّة بدون متديّنين. أمّا المؤمنون فهم أفراد بأنفسهم، ومن ثمّ يمكن أن يظهروا وأن يوجدوا في أي عصر وأيّ مجتمع. وبهذا المعنى لا يمكن بناء تناقض بين المؤمن والمواطن: إنّ من حقّ “المؤمن” أن يكون “مواطنا”؛ لكنّه ليس مواطنا لأنّه مؤمن.

إنّ “عقد المواطنة” مختلف تماما في طبيعته “السياسية” عن “عقد التديّن”. فالمواطنة منزلة قانونية غير ممكنة التصوّر خارج نطاق “الدولة” الحقوقية الحديثة (أي لها بنية قانونية صورية، دون أي محتوى عقديّ أو قوة تشريع روحي). أمّا التديّن فهو سلوك عقديّ في أصله، غير ممكن التصوّر خارج مفردات الملة الدينية، والتي هي ليست “دولة” بالمعنى الحديث، بل “خلافة” (أي لها بنية “استخلافية” أساسية وليست استعارية).

نعم، لا مستقبل اليوم لأيّ دين إلاّ في نطاق دولة المواطنة. لكنّ ماهية المواطنة ليست دينية. ومن ثمّ علينا أن ندقّق عبارتنا: وحده المؤمن/المواطن يمكنه أن ينجح في الانخراط في “المجتمعات ما بعد العلمانية”، حيث لن يحتاج إلى مهنة أو واجب “التديّن”. والإيمان هنا سوف يكون “حقّا” أو نوعا طريفا وما بعد-ديني من “الحرية”، إلاّ أنّها حرية في اختيار شكل أنفسنا، وليس حرية “سياسية” في اختيار شكل “الدولة” التي تحكمنا.

12- تقول إن قرّاء التراث ليسوا جاهزين بعد للإيمان الحر، سواء كانت قراءات التراث تحمل توقيع الملة “من نوع “الغزاليين الجدد” أو توقيع الحداثة، فهي لا تزال موقفا هوويا؟ وماذا تعنى بموقف “هوويّ” ؟ ومن وجهة نظرك من إذن القادر على الدخول لعالم الإيمان الحر؟ وألا ترى أن لفظة “الإيمان الحر” هي المسمى اللاهوتي للفظة ” الإنسانية ” العلمانية؟

ثمّة إساءة لحقت بالفلسفة لدينا منذ ظهور “قرّاء التراث” على واجهة الفكر العربي المعاصر: لقد تحوّلت مهمّة “التفكير” إلى مجرّد “قراءة للتراث”. طبعا، قد كان ذلك اجتهادا داخل النقاش حول قضايا “الدولة/الأمة” ورهاناتها، وأحدها هو كيفية السيطرة التأويلية على “الماضي الروحي” للأمة، على ذاكرتها العميقة، حتى لا يتمّ اختراقها من طرف “أعداء” الدولة الحديثة، وبالأساس من طرف كل “قارئ” لا يؤمن بالمكاسب العلمية والوجودية والقانونية للحياة الحديثة، ويريد تنشيط نموذج كينونة سابق على الحداثة. لكنّ ما وقع هو أنّ “المثقف” العربي المعاصر قد نسي السياق (معارك الدولة الأمة) وصار يخلط بين “التفكير” الكوني و”قراءة التراث”، وكان ذلك تحت تأثير عناصر أخرى، خارجية، نذكر منها خاصة ما راج في الفلسفة الأوربية نفسها من خصومات واصطلاحات تهمّ خاصة إشكالية “التراث” بوصفه “تاريخ الذات” وبحثا في “مصادر الذات”، وذلك من هيغل إلى فوكو.

فإذا أخرجنا مطالب التفكير من أفق قراءة التراث صار يمكننا عندئذ أن نتهيّأ لطرح أسئلة أخرى: نعني أسئلة “بلا توقيع” هووي أصلا. أسئلة تشتبك مع نمط وجودنا الحالي كما “يحدث”، دون أي حماية روحية من الماضي (الملة) أو وقاية منهجية من الحاضر الكبير للغرب (الحداثة). ومن ثمّ هي بالأساس أسئلة “المستقبل”: أي استقبال “الآتي” دون أيّ جهاز “هووي” جاهز لاصطياده وكأنّه عدوّ تأويلي لابدّ من تحييده حتى لا تتعرض سياسة الحقيقة القديمة (الملة) أو الطارئة (الدولة/الأمة) إلى أيّ تهديد هووي.

والسؤال الذي يعنينا هنا هو: “كيف يكون إيمان الأحرار”؟ ونحن فضّلنا هذا النوع من التساؤل حتى لا تخدعنا دعوى “الإلحاد”، الذي هو في عمقه “تديّن كافر”، يقوم على إعلان جحد نعمة الإله الخالق بالتجديف الأخلاقي عليه، دون أيّ قدرة على إقامة حداد ميتافيزيقي صحّي على موته. نحن نفترض أنّ من حقّ كل فرد أن يؤمن بنفسه أو بجندره أو بشكل حياته أو بأفقه الروحي الذي يختاره. إلاّ أنّ هذا “الإيمان الحر” لا يصلح لأيّ أغراض “دينية”: فهو مختلف تماما عن دعوى “حرية الضمير”، التي هي مقولة دينية في الأصل، واستصلحتها المدوّنة القانونية الحديثة لتأمين فصل سلمي للنزاعات بين “المتديّنين المحترفين” المتناحرين على “امتلاك” و”احتكار” حقيقة الإله الواحد.

أمّا المؤمن الحرّ فلا يمتلك غير نفسه. وذلك لسبب عظيم: أنّه قد فصل تماما بين “الإيمان” و”الهوية”. هو لم يعد يعتبر أنّ “إيمانه” الشخصي هو “هويّة” إجباريّة عمومية، عليه أن يرتديها مثل زيّ نظامي بوصفه عضوا في الفرقة الناجية. ولذلك علينا أن نميّز بشكل دقيق بين “حرية الضمير” التي هي مطلب “علماني”: يدّعي فيه طرف أنّه “عقلاني” و”موضوعي” و”غير متديّن” أنّ من حقّ طرف آخر أن يمارس “شعائره الدينية” بكل “حرية”، أي دون أن يتعرّض إلى كل أشكال الاضطهاد، والتي لم تغب يوما عن أيّ جماعة “منتمية” محترفة،- وهو مجرّد ادّعاء “بروتوكولي” يحرس الحدود اللاهوتية بين المتديّنين، لكنّه لا يلغيها، بل ربّما يغذّيها بشكل سري.

لنقرأ البند 18 من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” كما جاءت باللغة العربية: ” لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة.”

ماذا يعني ذلك من زاوية دعوى “حرية الضمير؟ – فقط، اعتراف متديّن (يملك سلطة تشريع عالمي) بحق متديّن آخر (لا يملكها) في التديّن أو في حرية التديّن أو في تغيير دينه. لنلاحظ أنّ المادّة الإشكالية التي طغت على تفسير هذا البند من الإعلان هي “الدين”، والحال أنّ الحق العالمي المقصود هنا ليس الدين بحصر المعنى بل “حقّ كلّ شخص في حرية الفكر والوجدان والدين” جميعا. ما يتمّ نسيانه هنا هو “الحقّ الشخصي” ولكن خاصة “حرية الفكر والوجدان”. إنّ “حرية الفكر” و”حرية الوجدان” مشكلان مختلفان تماما. فالمشكل الأوّل هو “غير ديني” تماما، ويتعلق بالسلوك إزاء “الحقيقة”، هو يتعلّق بما يجب أن نسمّيه “حرية الحقيقة”، وليس فقط “حرية الرأي” التي يُنادى بها كأنّها مطلب كبير، والحال أنّها نمط استهلاك داخلي لنوع جاهز من الحقيقة؛ أمّا المشكل الثاني فهو يتعلق بما يسمّى في المعجم العلماني “حرية الضمير” الذي يدخل في نطاق المفهوم الحديث للتسامح (كما طوّره جون لوك أو فولتير، الخ.). ولابدّ أنّ المرء قد لاحظ أنّ الترجمة العربية المعتمدة لنصّ “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948″ تنطوي على أمارة مفيدة لخصوصية تفكيرنا في الدين، عندما نقلت عبارة ” freedom of conscience ” بعبارة “حرية الوجدان” بدل “حرية الضمير”. جاء في المعاجم: ” وجدانُ المرء: نفسُه وقواه الباطنية، وما يتأثّر به من لذّة وألم”. أيّ علاقة عندئذ بين هذا “الوجدان” النفسي وبين “الضمير” الذي هو مفهوم مسيحي دقيق مرتبط بتاريخ الوعي المسيحي، وليس مجرد وصف أخلاقي مجرّد. ومن ثمّ أنّ المسلمين لم يعرفوا مفهوم الضمير هذا ولا “حرية الضمير” بالمعنى الذي ضبطته السرديات العلمانية لدولة التنوير. ثمّ علينا أن نسأل:

– لماذا انزلق المشرّعون لهذا النوع “الإنساني” من “الحقوق” في إجراء تفسير “ديني” بحصر المعنى لحقّ عالمي لا يمثّل فيه الدين سوى جزء فقط من مجموع “ثلاثة” مكوّنات متساوية؟

– لماذا تمّ تأويل الحق في “حرية التفكير والضمير والتديّن” في مجرّد “حرية التديّن”؟ هل يعني ذلك أنّ “الحق في التفكير” هو مشكل ديني غير مفكّر فيه؟ أو مشكل ثانوي أو “مكمّل” لمشكل ديني أساسي؟

– لماذا تنزع الدولة العلمانية التي شرّعت هذا الإعلان إلى عدم التمييز بين “الدين” (كما يقدّم نفسه في كتب الملة) وبين “التديّن” (أي حرية أحدهم في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد)؟ ثمّ بين هذا “الحق في التديّن” (المحصور بشكل لافت في الحق في “تغيير” الدين أو “إظهاره” بشكل خصوصي أو بشكل عمومي) وبين “حرية الضمير” (الحق الممنوح إلى شخص ما في اعتناق أيّ قيم أو مبادئ أو آراء أو أديان أو معتقدات يريدها ).

– وأخيرا كيف نفهم قرار الترجمة العربية بنقل عبارة ” freedom of conscience” بعبارة “حرية الوجدان” وليس “حرية الضمير”؟

عموما، علينا أن نلاحظ الصبغة “القانونية” المحضة، أي الصورية والوضعية، لهذا “الإعلان العالمي عن الحقوق”. فهو يفترض “سلطة” علمانية تمتلكها “دولة حديثة” هي الوحيدة التي “تمنح” نوعا من “الحريات” تخصّ “مواطنين” منضبطين على أساس أنّها “حقوق” غير قابلة للاستلاب. ما نلاحظه عندئذ هو أنّ “الفرد” نفسه بما هو كذلك لا يقوم بأيّ “دور” خلاّق أو تأسيسي، بل هو مدعوّ فقط إلى “التمتّع” القانوني بنوع من “الحريات” على أنّها “حقوق” طبيعية. لكنّ ذلك لا يخوّل له أبدا أن يشارك في “التشريع” السياسي لنفسه: إنّه ممنوع من أيّ تشريع روحي أو أخلاقي أو ميتافيزيقي أو وجودي لمن يكون أو لنوع الحريات أو الحقوق التي ينشدها. هذا “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” شرّعته “دول” تمارس “وصاية” قانونية على “أفراد” أو “جموع” عليها أن تقبل بالمقايضة بين “الحريات” و”الحقوق” بشكل إجباري: ألاّ تفهم “حريتك” إلاّ باعتبارها “حقّا” ممنوحا من “سلطة” شرعية “عالمية” هي الدولة أو الدول السيادية الحديثة سنة 1948. وهذا يعني أنّ “الشخص” ليس له أيّ نوع آخر من “الحريات” التي تخرج عن مصفوفة “الحقوق” التي شرّعتها تلك الدول. وهكذا لا معنى لتغيير الدين أو إظهاره إلاّ وفق البراديغم الليبرالي القائم على التقابل بين “الحياة الخاصة” و”الفضاء العمومي”. وحيث تبدو “الحياة الخاصة” بمثابة “منحة” قانونية من الدولة التي قبلت بالإعلان العالمي للحقوق.. ما نلاحظه هو انسحاب مفهوم “الإنسان” بما هو كائن لذاته، وتعويضه بمفهوم “المواطن” أي الحامل البنيوي لجملة من الحقوق باعتبارها حريات ممنوحة، وليست من اختراعه. وذلك بموافقة مفترضة من “الشعوب” الحديثة بوصفها سقفا قوميّا إجباريّا لأيّ نوع من الحياة الخاصة.

من أجل ذلك، اقترحنا مقولة “الإيمان الحرّ” من أجل إعادة المشكل إلى مكانه: لا معنى للإيمان (مهما كان مضمونه) من دون حرية (أي من دون حقّ شخصي في التفكير والوجدان). وهذا طرح ليس فقط “غير ديني” بل هو أيضا “غير علماني”: الإيمان الحرّ ليس “طاعة” أو “بيعة” لأحد؛ وبهذا هو ليس “تديّنا” وليس مقولة لاهوتية. ولا يدعو إلى أيّ “ملة”، قديمة أو قادمة. ولكن أيضا: الإيمان الحرّ ليس سلوكا “هوويّاً”، وذلك لسبب بسيط: هو ليس ادّعاء “علمانيا”. وما نغفل عنه عادة ليس فقط أنّ “العلمانية” مقولة دينية مسيحية، بل أنّ “الهوية” هي اختراع الدولة الحديثة، نعني صناعة اختزال السكّان في بطاقات رقمية واسمية يقع شحنها بدعوى “قومية” تستعملها الدولة بمثابة “سلطة حيوية” على “الأجساد” الطيّعة، برع فوكو في وصفها ضمن كتابه “المراقبة والعقاب”.

وبكلمة أخيرة” لا يدخل عالم الإيمان الحرّ إلاّ مؤمنون أحرار، أي “مواطنون جيّدون” اختاروا أو غيّروا أو اخترعوا شكل أنفسهم دون الحاجة إلى أيّ عنف تأويلي على أحد. وهذا يعني أنّ “الإيمان الحرّ” لا يكرّر “حرية الضمير” التي هي مفهوم علماني لتنظيم قيمة “التسامح” في الاستعمال العمومي للدين. ومع ذلك هو مقولة لا تزال غير قابلة للتصوّر إلاّ في “مجتمعات ما بعد علمانية”.

https://anbaaexpress.ma/e5bk7

جيهان خليفة

كاتبة وباحثة وصحافية مصرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى