آراءثقافة

في إستفهام اللحظة الوجودية الهاربة

واستكمالا لهذه المعضلة، لن تنحلّ إشكالية الوجود بالتعريف، لأنّها محسّة، وما كان محسّا يصبح أكثر التباسا عند التعريف، لأنّه يَتَمَوْقَلُ خارج الشعور، والحدس في رأينا أوسع وأكبر من الأجناس والمقولات.

ولا يُحدّ بها، فلو أمكنه أن يُحدّ بها، لما كان حيث يتعذّر التعريف. ولعلّ هيدغر لاذ بالكائن بوصفه المدخل المضمون لبحث هذه الأنطولوجيا التي لم يعد لها حامل ميتافيزيقي، مُذْ حلّت بأصنامها لعنة نيتشه، لكن يمكن القول أنّ الوجود إن كان مستحيل التعريف، فليس التباسا فيه يتطلّب سفرا إيتيمولوجيا في مكامن فقه اللغة وتشقيقها، بل هو كذلك مستحيل نظرا لبداهته. والبديهي ليس فقط لا يُعرّف، بل في محاولة تعريفه تولد عُظمى المُغالطات.

وعليه، فمشكلة الوجود المُحَسّ، تكمن في تحدّي اللحظة الوجودية. جرّب أن تحسّ بآناتك الوجودية، في هذه الوضعية الميكرو-أنطولوجية، حيث ستدرك أنّ يوما من شعورك بالتموجد الآني يعادل ألف سنة، مما يعني أنّ فراغ الوجود نابع من هروب الآن، ذلك الآن الذي لم تعثر عليه إلاّ استيهاميّا بالاستذكار طورا والاستشراف طورا آخر.

الشعور الدافق بالوجود يتوقف على تكثيف الشعور الآني، بالإنصات لأنين الوجود في اللحظة الهاربة، في ذلك الذي يبدو برزخا افتراضيا، تضيع أيّامك لأنّك لا تنصت للآن، ترى الخطّ ولا ترى النقطة. فإذا جهلت الآن جهلت الزمن الوجودي الممتد، وإذا جهلت النقطة جهلت الخطّ، فالسّر في النقطة والآن.

كمن يجهل شهيقه وزفيره، ويفتقد ذلك الإحساس حتى يصاب بالربو. فالآنات التي تمضي على حين غفلة، لن نستشعرها حتى تمضي. نلتفّ على آناتنا، ونكذب على الوجود.

إنّ الكائن لا يفعل أكثر من الإلتفاف على الوجود، هو مصدر هذا الاختلال، لا نقول هنا أنّ الوجود مستحيل التعريف، بل هو معروف فلذا استحال فعل تعريفه. ونحن ندرك اليوم أزمته من دون تعريف، لأنّنا كما لم نقدر على تعريفه لم نقدر على تحديد أزمته، إلاّ بما هي جملة الأحاسيس تجاه الوجود. فالآنات الهاربة منّا لها أثر على إحساسنا بالوجود، شيء ما ندرك أنّه ليس هو ذلك الذي نحسه، حتى توقعنا وانتظاراتنا من الوجود هو توقع حدسي.

نحن لا نحتاج إلى الكاطيغورياس في التعبير عن قلق الوجود، لأنّ الحصر الإبستيمولوجي الناجم عن محدودية الكاطيغورياس، هو مظهر من مظاهر ضحالة الوجود. هل فكّرنا يوما أي مقولة تستطيع أن تقبض على الآنات غير القابلة للحمل، لأنّها هربت منّا قبل اكتشاف هذا التدبير المقولي؟ لا تقع هذه الآنات لا في المتى ولا في الأين، لا في الفعل ولا في أن يفعل…بل هي بقدر ما تقع فيها جميعا، هي مقوّم لها جميعا، فحين تهرب منا الآنات المذكورة، تضمحلّ مقولاتنا. كان المطلوب أن نسبح في نهر الوجود جدلا، فبتنا نسبح في حوض المقولات حصرا.

إنّ ميلاد المأساة البشرية في المعرفة والوجود، نابعة من عجزنا المزمن عن التقاط الآن في صيرورة آنات غير محسّة إلاّ في حسرة على فَوْتٍ أو تشوُّف لآتي.

لا شيء يعوّض الآن المتصرّم، لأنّه محدد. فالآن الممتلئ يعفي الذّات من الحسرة، كما أن الآن الممتلئ يمنح التّشوّف معنى حضوريّا، فمتى تحقق الشعور بالآن، حضرت حقيقة المستقبل نفسها. لقد استصغر الكائن الآن فاستغرقته الأوهام، يقضم آنه المُعطى ويبحث عن آنات مفترضة. ففي كلّ آن تقوم قيامة كائن يعيش فناءه العبثي في احتراق الآنات، هو في حالة استئناف، مقطوعة لا موصولة.

إشراقة: فانظر في تشخّص الآن أو النقطة وليس في غيرها من الحروف، لأنّها مبتدأ الكلام وفاتحة الوجود الذي هو خير محض، ومن دون النقطة تحتها، تغدو صورة بلا معنى، وإذا ضاع المعنى ضاع الوجود، والأمر ينعكس. فالبدأ بالباء لا بالجيم، فإذا ضاعت النقطة اختلّ المبتدأ، وإذا اختلّ المبتدأ ضاع الخبر. فلا باؤك حينها تجرُّ ولا بائي.

https://anbaaexpress.ma/77138

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى