آراءسياسة

التمرين الديمقراطي في الغرب و في أمريكا إلى أين؟ (1-2)

بدى أن التمرين الديمقراطي في الغرب عموما، قد وصل إلى مداه من حيث الممارسة، سياسيا و إجتماعيا ،كما بلغ مداه من حيث إنتاج الأفكار المناسبة لتطور أي تجربة إنسانية في الممارسة السياسية، و قابليتها للتجديد.

فشلت النخب السياسية في الغرب عموما، من تنزيل نموذج سياسي انساني بالدرجة الأولى، نموذج بآفاق فكرية إنسانية، بعيدا عن كل تصنيف أو تمييز بين الجنس البشري.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية ،كانت أوروبا عبارة عن ورش كبير، خضعت لإعادة تأهيل البنية التحتية ،من مرافق عمومية و بنيات أساسية و إعادة إعمار بسرعة فائقة، لتأهيل الاقتصادات، و تأهيل أوروبا حضاريا لتلعب دورها الريادي في العالم.

كان التعليم قاطرة لكل إصلاح مجتمعي و قاطرة لتقدم أوروبا، من جميع النواحي، سياسيا و إقتصاديا و إجتماعيا و ثقافيا و فكريا و عسكريا  و حقوقيا .

عادت أوروبا الغربية إلى الحياة، بعد خطة مارشال ،خطة إنقاذ شاملة للبنيات التحتية و الإنسان معا، كانت أوروبا على موعد مع التاريخ ،حيث تشكلت اول نواة لوحدة أوروبا الغربية سياسيا و اقتصاديا و عسكريا سنة 1949، فيما تم انضمام باقي دول أوروبا الغربية سنة 1979 و تم توسيع نطاق الاتحاد الأوروبي ليشمل بعضا من دول شرق أوروبا، بعد سقوط جدار برلين سنة 1989، و كان توحيد العملة الأوروبية ،نقلة نوعية في ترصيص الاقتصاد الأوروبي، و جعله أكثر تنافسية ضد الغزو التجاري الصيني، و منافسا قويا في السوق الدولية للدولار الأمريكي، و كذلك مناعة من أي تفكك للاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب، بترسيم سياسات مشتركة و موحدة تحمي المصالح البينية بين دول الاتحاد الأوروبي و مع  العالم الخارجي.

كانت الأجواء السياسية يطبعها نوع من التداول السلمي على السلطة بين تيارات سياسية متعددة المشارب الفكرية و الايديولوجية، كان التنافس بين اليسار و الليبراليين و أقصى اليسار و المحافظين و كذلك تيار القوميين و بعض التيارات الطارئة أو تيارات تصحيحية لأحزاب تقليدية، ظهرت لتضيف قيمة مضافة لحركية المجتمعات داخل أوروبا.

وقد كان التنافس شديدا بين الأقطاب السياسية الكبرى، الاشتراكيين و الليبراليين أو المحافظين الجدد و القوميين، و كانت التناوب على السلطة السمة الغالبة في أغلب الأحيان، لكن ما كان يميز هذا التداول على السلطة، هو المشاركة الفعلية للنخب السياسية في الفعل السياسي و الفعل الرقابي معا، عبر المؤسسات التشريعية والتنفيذية، و هذا يخلق ذلك التوازن المطلوب و حتى التغيير داخل مؤسسات الدولة في إطار قانوني و يضمن نزاهة و سلامة العملية السياسية بشكل عام.

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، برزت في الساحة السياسية الأوروبية الأحزاب السياسية ذات التوجه الوطني الراديكالي و العلماني و العنصري ،أي الأحزاب اليمينية بشكل عام، و كانت لها نجاحات كبيرة في بعض البلدان الأوروبية، خصوصا في شمال أوروبا و شرقها، كما أصبحت أكبر منافس للأحزاب السياسية التقليدية ك الليبراليين و الاشتراكيين بنسختهم الجديدة، بعدما أفل نجم الأحزاب اليسارية في كل أوروبا، بل أصبح اليسار أقرب إلى الأحزاب اليمينية المتطرفة، و يمكن ان نتحدث عن ولادة  اليسار اليميني ذو النزعة القومية و الإقصائية.
و قد سطع نجم الأحزاب القومية مؤخرا في أوروبا الغربية و خصوصا في كل من فرنسا و بلجيكا و ألمانيا و هولندا و أصبحوا قاب قوسين او أدنى من الحكم بأوروبا. و بالتالي يمكننا الحديث عن دخول التمرين الديمقراطي في أوروبا في النفق، و قد تكون لذلك انعكاسات سلبية على الحياة السياسية، و تداعيات خطيرة على السلم المجتمعي.

شكل خروج ابريطانيا من الاتحاد الأوروبي، نكسة كبيرة تهدد إنفصام عقد الاتحاد الأوروبي بشكل كامل، وبدى المشهد السياسي الأوروبي مرتبكا و مشوشا و منقسما، بعد الحرب الأوكرانية الروسية، كما طغت لغة المصالح الفردية لكل بلد أوروبي، على المصالح المشتركة، بل كان للتيارات القومية رأي جريئ بمناصرة جهة معلومة و تبني وجهة النظر الروسية.

و هنا لابد من الإشارة إلى أن مسألة الهجرة و المهاجرين بصفة عامة و الإدماج داخل النسيج المجتمعي الأوروبي و قضية الإسلام السياسي أو الاسلاموفوبيا، أو أسلمة أوروبا، كانت الشغل الشاغل للطبقة السياسية بأوروبا، كما كان لهذه القضايا تأثير كبير على الساحة السياسية في أوروبا. و تم استغلال هذه القضايا إانتخاباويا و في المزايدات السياسية و في الساحات الفكرية، مما جعلها تطفو على السطح، كلما جد جديد في الساحة السياسية الأوروبية و المجتمعية.

و يبدو أن النخب السياسية الحاكمة في الغرب عموما قد فشلت فكريا و سياسيا و إجتماعيا و إقتصاديا و ثقافيا و نفسيا، في تدبير الأزمات الداخلية المجتمعية و في تحصين الجبهة الداخلية و المتنوعة باعراقها و دياناتها و ثقافاتها المختلفة.

تعاني أوروبا من ضيق أفقها الفكري، لهذا فبدل ما تبحث نخبها السياسية عن حلول للمعضلات الإقتصادية والاجتماعية، و سبل الإدماج في النسيج المجتمعي الأوروبي بشكل كامل، دون قيد أو شرط، و  بتسهيل المساطر القانونية الخاصة بالهجرة وولوج الفضاء الأوروبي، تعكف النخب السياسية على التراشق فيما بينها، و هذا يظهر عجزها التام عن روح التجديد المطلوبة لإضفاء الحياة على أوروبا من جديد.

و من هنا يمكن ان نستنتج بأن صعود نجم الأحزاب القومية و اليمينية و المتطرفة بأوروبا، نتيجة طبيعية لذلك الفراغ السياسي و الضمور الفكري للنخب السياسية ذات التوجه الإنساني و المعتدل.

هل فعلا نحن أمام بداية النهاية لهذا النموذج المتميز  في التمرين الديمقراطي،؟ و أن أوروبا مقبلة على  خريف سياسي و فكري قد يطول، و ربما صراع مجتمعي، قد يؤدي إلى فرط عقد الاتحاد الأوروبي بشكل كامل.

يتبع

https://anbaaexpress.ma/vsryg

أحمد الونزاني

كاتب وباحث مغربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى