آراء

التراث والتجديد الديني أو الثنائيات القاتلة

جزء من تمسؤلاتنا الوهمية لها صلة بتهريب المفاهيم عبر الترجمة اللاّفلسفية، أي ما تثيره جريرة الإنشاء غير العابئ بمفاصل الدّلالة، ومنها مفهوم التراث والحداثة، الذي تفاحش التّمَسْؤُلُ فيه ردحا من زماننا الثقافي العربي المتوقّف.

استعملنا عبارة التراث على الرغم من التباسها نزولا عند تعيّنها في التفكير العربي، قبل أن نكتشف أنّها اكتسبت لها سرديات، ما فتئت تبتعد عن جوهر الإشكالية، مما جعلها في نهاية المطاف إشكالية بلا موضوع حقيقي.

نباشر التراث بمزايدات في العقل والمعقول، ولكننا لا نكاد نحقق في معيار العلم وماهية العقل التي بها يتقوّم التراث، وإن كان فعل التقويم والتجديد هنا لا معنى له في موضوع التراث كما سنرى.

لم أعد أبحث عن العقل في رأسي ولا في قلبي، العقل شيء يتموضع خارجي، يفعل في التاريخ بقدر ما يفعل التاريخ فيه، هو تجلّي لخبرة الممارسة، للفعل، الذي يمنح الجوهر فسحة الحركة والشوق والتعالي، هناك حيث ألفيت أناسا يتحدثون عبثا حول ماهية العقل، إمّا كامتلاك نهائي: جوهر ثابت قارّ، أو فعل مشروط بالتاريخ، لكن قلما نُظر إليه كماهيات مكتسبة من خلال حركة الجوهر التي تجعل العقل يتحرك في شروط تاريخية معينة في جدل يتحدد بإرادة المعرفة، وهي إخضاع خبرة الحياة لسلطة المقولات.

قبل أن نتحدث عن إشكالية التراث، وجب القول بأنّ الثنائية المحفورة في سجل السجال العربي حول التراث والحداثة، ثنائية وهمية، لأنّ التراث هنا كما سيدرك لفيف مهمّ من الباحثين أيضا له علاقة بالتقليد أو (tradition)، وهذا يعني أن التراث هو معطى، وميراث رمزي لأمة من الأمم، خارجٌ موضوعاٌ وتخصصا عن قضية التجديد. إننا لا نتحدث عن ميراث(patrimoine)، بل عن موقف ونمط في التفكير. التراث معطى لكل العصور، فللحداثة نفسها تراثها، والتراث ميراث غير قابل للتجديد، وإنما المعني بالتجديد هو الذّهنيات، طريقة تفاعلها مع الشروط الراهنة.

حدث أن انزاح الإنشاء العربي، فتحدث عن معادل آخر: الأصالة والمعاصرة، علما أنّ التجديد والتحديث لا يتمّ من دون أصل وأصيل، أو آرشي (arkhè) بتعبير موران عن أصل العبارة اليونانية. هو إذن المبدأ أو بداية التأسيس، فتصبح الحداثة هي إعادة إنتاج الأصيل نفسه.

الغرب غرب قبل الحداثة وبعدها، لا معنى هنا لسؤال الهوية حينما يتعلق الأمر بتطور تاريخي للأنماط. في التجديد الفلسفي الغربي هناك إلحاحية للعودة جينيالوجيا إلى الأصل اليوناني والروماني لتحقيق انطلاقة جديدة. نحن على كل حال لا زلنا نفكر هيلينستيا على طريقة الاسكندر المقدوني، متى ما أردنا أن نتمنطق. التراث حاضر، وأرسطو لا زال حيّا.

في التراث يوجد ما يلزم وما لا يلزم، وفي الحقب الأولى كنا أمام خلاف حول المعنى والفهم، فثمة من كان أكثر وفاء للعقل وثمة من كان أكثر وفاء للفهم الظاهري، لقد كان التجديد والنظر والتأمّل، قضية جارية في التراث أيضا.

لقد تراجع مفهوم الاجتهاد اليوم في الممارسة، نتحدث عن الاجتهاد المطلق في تشخيص المجتهد، لكن عند الممارسة يتسلط الاحتياط. جانب من هذا له صلة بالمهمة المزدوجة للقادة الدينيين أنفسهم، المتهمون بحراسة التراث:

– مهمة علمية قوامها تنمية الفقه الاستدلالي.
– مهمة سوسيولوجيا قوامها تحقيق مقصد حفظ الدين عبر صناعة الفتوى.

في المجتمع العلمي المطلق تظهر شجاعة المجتهد، لأنّ المجال متاح للدفاع عن أطروحته بلغة الرأي الصناعي، لكن عند مباشرة الجمهور، تبدأ مهمة الفُتيا حيث يتسلط الاحتياط في إسناد العرف وهو معتبر في التشريع، وذلك حفظا للنظام العام كشرط أساسي في حفظ الدين وهو من المقاصد. لكن أي عرف يا ترى هو معتبر في العملية التشريعية، العرف المعتبر في ضوء مبنى العقلاء.

يحدث أن يحصل اختلال بين المهمة الأولى والمهمة الثانية، وهناك تكمن معضلة دور المؤسسة الدينية في عملية التجديد والاجتهاد. حين تتراجع مهمة الفقيه السوسيولوجية، يركن إلى رأيه الصناعي، فيحدث ارتجاجا في ذهن العموم، وهنا لا نكون أمام عملية تجديد، بل أمام حالة من التمرد وأحيان حالة من تصفية الحساب، لأنّ تدبير العملية الاجتهادية تأخذ بعين الاعتبار التوازن.

لا يكفي أن نلوّح بالفكر المقاصدي كصكّ للعبور إلى نادي التّقدّمية، بل المقاصد نفسها باتت بلا ضابطة، وهي تدور مدار الوضعية التاريخية للفقيه، حيث تتقدم وتتخلف بقدر تقدمنا وتخلّفنا. فالسؤال التاريخي الأهم والأولوي ليس هو المقاصد، بل العقل ومصيره في الثقافة الإسلامية. أما المقاصد فهي فرع لا قيمة له إذا لم يتمّ الحسم في موقعية العقل في عملية التشريع.

يكمن إذن سوء الفهم الكبير هنا، حين نخلط بين الدين والتراث، وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه كما يقول المنطقي. التراث يشمل أيضا مستويات تاريخية من الفهم الديني. البعد التكييفاني للدين، هو أن يُوجِد شروطا مثلى داخل كل نمط تاريخي. لم يقم الدين باستباق الأنماط التاريخية، بل حاول أن ينتج داخل شروطها أفضل استجابة تشريعية، وهذه هي مساحة فعل الدين في التاريخ: التكيف الخلاّق. نشأ الحدث الديني في القرون الوسطى وفي العصر العبودي، لم يستطع أن يلغي نظام الرّق، لأنّ دور الدين ومهمّته هي التكيف الأمثل مع كل نمط تاريخي، فقدم أفضل شروط للعبيد في العصر العبودي. وهذا سنجده واضحا في دفاع انجلز عن واقع العبودية في الحقبة العبودية، اعتبارا لحركة التاريخ وسننه. وفي عصرنا هنا أنماط وجب البحث عن تَكَيُّفٍ أمثل داخل شروطها.

التراث إذن هو حصيلة إنتاج وصراع وجدل مراحل قوم لهم ما كسبوا وعلينا ما كسبنا. مهمتنا حياله هو محاولة الفهم، تأويل تراثنا، استحضار المستبعد، محاسبة المتمركز منه، الإنصات لأنين التراث الآخر المهمّش، لنجعل العصر فرصة لفهم ما لم يكن بالإمكان فهمه في التاريخ.

الاهتمام بوجوه التراث ودراسته لم تعد ترفا بيداغوجيا، بل ضرورة حضارية تمكن من فهم آثار هذا التراث في حاضرنا. إننا إن لم نفعل لن نفهم آخرنا الداخلي فبالأحرى فهم آخرنا الخارجي. الخوف من التراث يعني أنّنا لم نتحرر من إيحاءاته التي ترتبط ليس بالتراث، بل بإرادة المعرفة، بشروطنا المعاصرة، أي نحن من يحدد ما يجب أن نعرف وكيف، ونحن من يمنح للتراث وظيفة أن يفعل في التاريخ فعلا زائفا، حينما نحشر الذّهنيات في مقولات بدل أن نجعلها تنتج علاقة خلاّقة مع حدس الوجود المتدفق في التاريخ وخارجه.

سنساهم في هذا الوهم إن لم نسلط الضوء على هشاشة تمسؤلنا حول التراث. نحن لا شكّ نسكن في التراث، لأنّنا افتقدنا المبادرة في الحداثة، ولأننا أيضا نلوّح بالتراث لأنّنا لم ننتج تراثنا الحديث ونؤمّن الاستمرارية، فكنا نحن حقا من يستدعي سلطة القطيعة. علاقتنا بالتراث، حتى لدى التراثيين، ليست حقيقية، بل هي خداع.

لدينا تراث، لكننا مختلفون حول التركة. لم نستطع تقسيم الميراث الرمزي، لأنّنا لم نكن عادلين في ذلك، وهكذا باتت مشكلتنا ليست هي التراث، بل هي مشكلتنا نحن، لأنّنا لم نستطع اهتبال الفرصة التاريخية لتجاوز العصبية. فلقد ورثنا تراثا مشحونا بعصبية من كانوا قبلنا، ثم أخضعناه لعصبية من هما بين ظهرانينا، ومستعدون أن نترك هذا الميراث وننسفه ولا نستفيد منه، لأننا لا نتخلّى عن العصبية. هو مأزق سيكو-تاريخي، لذات عربية مرتهنة لعصبية التراث وليس التراث، فالتراث منشأ الـ(الآرشي)، الأصل الذي يحرّك تجدد الأمم في التاريخ، لكن الحنين إلى العصبية، يحول بيننا وبين المقاربة الجينيالوجية والتأويلية للتراث، يحرمنا من شذراته، لأنه تعابير شتّى وإمكانات مختلفة، هو نفسه ما نعته يوما بالالتئام المفترض بين الممكن التراثي والممكن الحداثي.

المشكلة هي أننا نشعر بامتلاك التراث دون الحداثة، بينما الحقيقة هي أن الحداثة نفسها تراث، هو نزاع بين تراثات، لكننا نحن غائبون في تدبير ما هو أمثل من خلال الآرشي، بمعرفة ما يلزم وما لا يلزم، بأن نكون الإنسان العاقل الذي يمنح ميراثه الرمزي صبغة التجدد، والذي ينخرط في الكون الحديث باجتهاد غير آبه بعصبية التقليد القديم ولا عصبية التواهم الحديث، بل الحضور الحادس لمن يدرك حاجته من التاريخ وما به يتحقق مطلب التكييفانية الخلاّقة التي هي مقوم أساسي في التبني الحضاري والتجدد الجذري.

https://anbaaexpress.ma/rkc0h

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى