آراءثقافة

كيف عاش الإسبان بيننا في الحسيمة..ذكريات طفل مخضرم

كانت بيا سان خورخو(الحسيمة) مدينة صغيرة ولكن جميلة جدا، عندما رأيت النور هناك لأول مرة ذات فصل ربيع 1950، كان غالبية سكانها من الإسبان ولا يتجاوز عددهم بضعة آلاف، كانوا أناسا طيبين وفي نفس الوقت مجتهدين ومفعمين بالحيوية،كانت النساء والرجال فخورين بالانتماء إلى هذه القطعة من الارض المنتصبة على صخرة كبيرة محاطة بالبحر من جميع الجهات والتي جاؤوا اليها حالمين بفردوس فوق ارض إفريقية ولكن قريبة جدا، لقد رحلوا اليها من كل مناطق الجزيرة الايبيرية هاربين من المجاعة والفقر.

لم يتأخروا كثيرا في الوصول الى الأرض المجهولة، مباشرة بعد النزول العسكري بدأ العشرات من النازحين يستقرون فوق التلال المطلة على شاطئ كالا كيمادو وعلى المرفأ الطبيعي الذي سيتم تحويله بسرعة فائقة الى ميناء مهم وحيوي، بموارد قليلة ولكن بحب كبير وبكثير من الصبر، شيد المعمرون الجدد عسكريين ومدنيين بأيديهم ثكناتهم، منازلهم، مدارسهم ومستشفياتهم، ولكن أيضا مصانعهم الصغيرة دون نسيان الميناء الذي كان هو القلب النابض للمدينة وحلقة الوصل الوحيدة التي تربط مدينتهم الجديدة بأخواتها سبتة، مليلية ومالقا.

كان منزلنا يوجد في باريو أوبريرو، أحد الأحياء الشعبية حيث كان كل طفل ريفي يتمنى أن يولد هناك ويترعرع، جيراننا كانوا في اغلبيتهم من الصيادين وعمال الميناء ومصانع تعليب السمك،كان الباريو فضاء جميلا وممتعا بنوافره، مقاهيه وحاناته، عاش الريفيون والإسبان جنبا الى جنب، في احترام متبادل، وتقدير لعادات ودين كل جانب. لم يكن هناك أغنياء ولا فقراء، وكانت هناك الكثير من مظاهر التضامن عندما تكون اسرة ما محتاجة إلى المساعدة أو كانت تمر بأوقات عصيبة. كان الشارع والمدرسة ولعب كرة القدم والحفلات وحتى مغامرات الحب كلها كانت دواعي لتقربنا أكثر إلى جيراننا الإسبان، وكان الأطفال يلعبون الدور الاهم في تكسير كل الحواجز الاجتماعية والثقافية والدينية.

لازلت أتذكر وأنا طفل لم اتجاوز بعد السادسة في عمري الايام الاولى من إعلان استقلال المغرب في أواخر سنة 1956. لم يكن هناك أدنى علامة لأعمال انتقامية او عدوانية ضد جيراننا الأجانب ،كانت بعض الأحداث الدامية التي وقعت في الأشهر الماضية تبدو بعيدة بالفعل ولم يعد أحد يتذكرها. ومع ذلك بدأ المستقبل يبرز لجيراننا قاتما. كما كان بارزا، الجنود الاسبان بدأوا يشعرون أن صفحة من تاريخ مدينتهم بدأ في طيها بدون رجعة وأن هناك قوة اخرى كانت في طريقها لكي تحل محلهم.
أما الاسبان المدنيون، فمباشرة بعد عودة الهدوء وساد النظام في كل ارجاء المدينة ونواحيها، استأنفوا حياتهم الطبيعية بسرعة مذهلة كأن لا شيء قد وقع. تنفس الناس الصعداء وتظاهروا بأنهم نسوا كل شيء. انصرفوا إلى مشاغلهم كما كانوا يفعلون فيما مضى ،شرعوا أيضا في الخروج والتجول في أزقة المدينة. تجرأ الرجال والنساء مرة أخرى على التحرك ليلا دون خوف من إزعاجهم. وفي المساء كانت قاعة السينما الوحيدة بالمدينة والحانات تمتلئ دائما.

مرت الشهور وتغيرت معها كثيرا من الأشياء في مدينتي ولكن أسلوب حياة وتعايش ساكنتها لم يتغير إلا قليلا ومع ذلك كان لا بد على الناس أن يبذلوا جهدا أكثر لكي يتأقلموا مع الوضع الجديد على الرغم منهم.

جاءت الأحداث الدامية التي هزت المدينة ونواحيها نهاية سنة 1958 فتغير الوضع، انتشرت بسرعة البرق الأخبار الغير السارة والمؤلمة فتغير كل شيء. بدت لي مدينتي الهادئة وكأنها مدينة تحت إحتلال أجنبي جديد. كان أثار الوجود الهائل والمتغطرس للجنود في الشوارع يقلق السكان. استولى العسكر على جميع الثكنات التي أخلاها الجيش الإسباني عندما رحل.

كان باديا للعيان أن مزاج السكان الاسبان قد تغير. كانت وجوههم ونظراتهم تحمل ندوب المعاناة الداخلية العميقة كأنهم في خوف منا ومن أنفسهم. أصبحوا صامتين ومتباعدين من جيرانهم، لقد أصبحوا هادئين، وباتوا لا تثار ثائرتهم بنعم أو لا، كما كان الحال في السابق في المقاهي او الحانات. كانوا يبدون وكأن الخوف والملل قد سيطر عليهم وكأنهم فقدوا كل أمل في الحياة. وحتى أكثر الناس منهم تفاؤلا لم يحتفظوا إلا بأمل صامت وهش.

أما بالنسبة لي، فقد كنت أمضي وقتي وحيدا حزينا أتساءل لماذا أصبح جيراننا الاسبان غرباء عني؟ لماذا صديقتي “كارمن ” بدأت تبتعد عني؟ كل هذا كان يؤلمني.

على الرغم من كل هذه التغييرات التي كانت تقلقني كثيرا كنت أواصل الاعتقاد بأنني يجب أن أقدرهم أكثر، وأنهم بحاجة إلى تفهمي، الى حبي. كنت أترصد أدنى كلمة وأدنى إيماءة لمحاولة التقاط وفهم تلك المشاعر التي كانت مدفونة في قلوبهم ولا قدرة لهم ان يطلقوا سراحها ويعبروا عنها. كنت أحاول جاهدا أن أصدق أن هذا المشهد الجديد بالكامل لم يكن سوى لعبة مؤقتة قد تعرف النهاية بمجرد رحيل العسكر المغربي من المدينة. لم تكن لي القدرة لأصدق انهم كانوا لا يفرقون بيننا نحن اصدقاءهم وجيرانهم وبين القادمين الجدد من الجنوب وانهم يكنون اتجاهنا نفس الإحساس ونفس الكراهية العميقة. لم أكن أفهم كل شيء، ولكنني كنت أعاني كثيرا لأنني كنت أرفض أن أصبح بدوري شخصا بغيضا وحقودا. مع الوقت في الأخير تأكدت أن الضرر قد حصل وأن حياتي لن تكون أبدا كما كانت،ما أصبحت متيقنا منه هو أن لا شيء سيكون على ما كان عليه مرة أخرى، وأن صفحة من تاريخ مدينتي يجري طيها بشكل نهائي وأن مستقبلا غامضا ينتظرني كما ينتظر أصدقائي وجيراني الاسبان.

وهذا ما حصل بالفعل ،في الأشهر التي تلت نهاية تلك الاحداث الدامية سارع الاسبان إلى بيع منازلهم وممتلكاتهم وأجبر العديد منهم على مغادرة مدينتهم التي أضحت بين عشية وضحاها يتيمة مهجورة. عندما رحلوا عنا كانوا قد تخلوا عن كل شيء ولم يأخذوا معهم سوى الدموع والأحزان، ولكن أيضا ذكريات لا تنسى وصداقات ثمينة ستستمر دوما وإلى الأبد.

بعد رحيل جيراننا، لم أعد أطيق الحياة في مدينتي التي بدت لي مقفرة، لم أعد املك في مواجهة هذا الفراق الصعب وملئ الفراغ حولي وتجاوز وحدانيتي سوى البدأ في التفكير من اجل الاعداد لمشاريع واحلام جميلة للإيام القادمة تحلق بي عاليا وبعيدا، بدأت اتخيل نفسي اتنقل بسرعة فائقة من مستوى دراسي الى آخر، بدأت أرى نفسي وقد أصبحت مراهقا كبيرا سالكا طريق الفضول للهروب من رتابة بيتي وضيق مدينتي لأجد لوحدي الطريق الذي سيقودني إلى مدينة كبيرة لمتابعة دروسي وأصبح رجلا حرا وأحقق كل أماني.

https://anbaaexpress.ma/i3kou

امحمد لشقر

طبيب وكاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى