آراءثقافة

في أنثربولوجيا النذالة أو إصطياد المجتمعات الهاربة

في البحث عن أنماط جديدة لتجاوز التأريخ التقليدي للأحداث، لا زال الفكر العربي يتلكّؤ في طريق استجماع ما تفرضه عليه مهمّة إعادة تصوّر الحدث. وييبدو أنّ في مقدّمة هذه الإلحاحية هناك إعادة النّظر في التّاريخ السياسي كما ذهب جاك لوغوف، وهو من المبرّزين في التّاريخ، أي ما شكّل في نظره المهمة الرئيسة للآنال ما بين 1924 و1939، التاريخ السياسي الذي لطالما تبرّم منه لوسيان لوفبفر ومارك بلوخ، لا سيما -يقول لوغوف – التاريخ في شكله الديبلوماسي كما جسدته محاولة إيميل بورجوا في: موجز السياسة الخارجية. الغاية كانت هي البحث عن تاريخ يتجاوز كل أشكال التبسيط و ” تحطيم التاريخ الفقير المحنّط”.

يحسب للآنال أنّها عبدت الطريق لازدهار حقل حيوي جديد هو الأنثربولوجيا التاريخية، وهي بالدرجة الأساس معنية بدراسات تاريخ العادات، وهو ما أضاف إلى الصناعة التّاريخية جيبا من جيوب حقيقة الماضي في ديناميته الاجتماعية، مخفّفا من سلطة الحدث الذي عادة ما يخفي نظام البنية العميق وراء الحدث الذي عادة ما يفرضه مزاج المؤرّخ ، وينقله عبر تقنية الإخبار المتكرر إلى ناشئة تمنحه بدورها زخما لاعقلانيا.

وهنا أقترح الأنثربولوجيا التاريخية، لكن هذه المرة لدراسة تاريخ العادات السياسية، تاريخ الذهنيات والعادات الفكرية، تاريخ الأساطير الحديثة، كل ذلك الذي من شأنه أن يقلّل من أهمية الإنسان على الأرض وفي الزمن. فلا شكّ أنّ الأحداث العظام يصنعها البشر، لكنها تخضع لتعقيد الشروط والسياق، مما يجعل التّاريخ صناعة لإخفاء ما هو إنساني، والخضوع لرغبة التدوين، لأنّ التاريخ، هذا البحر المتلاطم لا يمكن اختزاله في نوبات حدثية، لتاريخ حدثاني(Histoire évènementielle).

ما الذي يجعل نقاشا جادا بداية السبعينيات بين ميشيل فوكو ونعوم تشومسكي، يكتسي طابعا تأسيسيا، وماتعا إلى حدّ أنّه شكل بدوره حدثا تاريخيا؟ إنّ دور المثقّف هو إرباكي، نغمة ناشزة على نسق أسطوري يبدو ضرورة لاستمرارية اللاّمعقول، بوصفه حاجة أنثربولوجية. ربما لم يوفق في نظري تشومسكي حين اعتبر أنّ الاختصاص – اختصاصه اللغوي – ليس له دخل في السياسية، موضحا بأنّ السياسية هي حقل يمكن أن يخضع للتحليل من أي جهة أخرى، يكفي في ذلك الحس المشترك عند ديكارت. تكمن المعضلة هنا في أنّ الحس المشترك الديكارتي الذي بدا له موزعا بعدالة بين الناس، في أن ذلك أكبر خطأ ، نابع من عدم التمييز بين القوة والفعل، بين العقل الهيولاني وبين العقل بالفعل، ذلك لأنّ المقسم بالسوية هو العقل بالقوة. ولو أثخنّا في التجريد، لقلنا أنّ الهيوليات نفسها كما تراءت للحكيم، هي نفسها واقعة في صقع الاختلاف والتفاوت بحسب الفاعل. لكن استباحة السياسة للحس المشترك يحتمل الكثير من الخطورة، ولربّما كان مدخلا للشعبوية. غير أنّ حضور المثقف في المشهد من شأنه الحؤول دون استقالة العقل وبروز ملامح مبدأ المشاركة، والأخطر استفحال الوضعية الطوطمية في تصوراتنا السياسية.

إنّ المفتاح الذي أقترحه لدراسة تاريخ الذهنيات والعادات السياسية من منطلقاتها الأسطورية الجديدة في ضوء نظام القرابة العربية وشروطها العصبانية، هو تداني أساطيرها، وغياب النبل وتفكّك طيبة البدائي. نحن أمام نسق مفروم من حذافيره، نسق كالحلوى يُلتهم عند كلّ مساء، التناقض هنا ليس منطقيا، بل هو أساس الأسطورة حين تؤمّن طريقا لاستقالة العقل وهروب الحقيقة. إنه شكل من الكاموفلاج(تقنية التخفي) تؤمّنه الأسطورة في كل الحقب، وهو جوهر البنية المغلقة للأسطورة. وتتميز الأساطير السياسية الجديدة في البيداء البدائية العربية بحضور “النُّهزة” السياسية، بخلاف ما يقتضيه مبدأ المشاركة في التجمعات البدائية، حيث تحضر المصلحة الجماعية وتحتوي الفردانية. لم تكن المجتمعات البدائية تعيش مرض الفردانية ولا داء الانتهازية، ولربما كنا أمام انتهازية جماعية ضدّ الطبيعة، لكن الاجتماع البدائي العربي اليوم هو انتهازي بامتياز، لا يقف عند مصادرة الأشياء والخدمات، بل يسعى لانتزاع الحق في الوجود والتعبير. إنّ المجتمع السياسي البدائي، لنقل مجتمع اللاّدولة بتعبير بيير كلاستر، هو مجتمع اجتماعي وأيضا هو متماهي مع النّسق، وليس مجتمع السادة والعبيد، لكن البيداء السياسية العربية مهما تغيرت مورفولوجيا، فهي وفية لهذه العلاقة التي تكاد تكون ثابتة. فالعبودية حاضرة في المجتمعات العربية، في نظمها السياسية، في أحزابها السياسية، في جماعاتها، تتغير الألفاظ والعناوين وتحضر العبودية بأشكال مختلفة يجمع بينها ملمح واحد، هو الرغبة الأبدية في التّسلط والهيمنة والاستبعاد.

ثمة دراسات يتيمة أنجزت على مستويات شتّى، ميدانيا وأفروديا حول الأحزاب السياسية، من منظور أنثربولوجي، وهي بالفعل تنقلنا إلى حقائق خارج المورفولوجيا المضلّلة، لصالح العلاقة المترسبة للسادة والعبيد. ولعل الأنثربولوجيا التاريخية هي الحقل الذي يوفّر لنا فهما أعمق مما يضللنا به التاريخ العام، لأننا سنكتشف بأنّنا لم نتطوّر إلاّ شكلانيا، أي تضليليا، بينما جوهر العلائق ظلّ وفيّا للأنساق التقليدية.

لا زلنا في البيداء البدائية العربية غير مؤهّلين للحديث عن فكرة التّقدّم، ولا حتى فكرة النمذجة، لأنّنا غارقون جميعا في هذا الإرتباك التّاريخي، ولأنّنا لا زلنا مستعمرين في صورة أحرار. يدفع العربي فاتورة تحرره المنقوص، إحساسه العميق بالعبودية، الفئة الأكثر اطمئنانا في هذه البنية المأزومة هم تجار الأزمات والأنتهازيون، هؤلاء هم الأكثر وعيا برداءة الوضع، ولكن مصالحهم تدفعهم للاستثمار في الرداءة.

تاريخ العادات السياسية أيضا كفيل بأن يعزز الوعي التاريخي بالأزمة. إنّ ما يبدو ممارسة سياسية وتحليل سياسي وخطاب سياسي وجب قراءته في ضوء الأنثربولوجيا التاريخية، دراسته كما لو كان عادة، كعادات الطهي، والزراعة، والصيد، والإحتفال، والزواج، والحرب…ستحرص الانتهازية على التبرم من المقاربة الأنثربولوجية، لأنّها تجد في الشعبوية، وتسطيح الحدث، والهياج، والعصبية، مُرادها.

لازال الحقل السياسي في البيداء العربية غير ناضج لاحتضان المفاهيم الكبرى، لا زال حقلا لتقاسم الأوهام والأساطير، ولا زال حقلا للعصبية والنزعة المُفارقة. ولا أخفي أنّني منذ سنوات وأنا في تجاربي السياسية كنت بالأحرى أمارس مهمّة أنثربولوجية داخل قبائل مغلقة، ولكم كان كل هذا مفيد في تكوين رؤية أنثربو-سياسية، ساهمت في تعزيز قناعات قديمة في لا جدوى السياسة في مجال مفارق ونسق كالعهن المنفوش، وأيضا لكي تفهم أساطير القبيلة، عليك أن تضع ريشة فوق الرأس وتردد أنشودة السحرة، و -لم لا- تنخرط في رقصة المطر.

خلصت من خلال معايشتي للقبائل السياسية المغلقة في بيدائنا العربية إلى أنّ مجتمع اللاّدولة الموصوف بالبدائي في المقاربات التاريخية التي عارضها كلاستر، باعتبارها تنطلق من المركزية الأوربية في تشخيص المختلف في تلك السهوب والهضاب، هو مجتمع متقدّم مقارنة مع مجتمعاتنا العربية الحديثة، أي بتعبير آخر، إنّه مجتمع سياسي وعقلاني ومنسجم ومتين وحرّ أيضا بالمقارنة مع المجتمع السياسي العربي. وإنّ مجتمع اللاّدولة “البدائي” هو غير مجتمع الآنارشية المعاصرة، ذلك لأنّ الآنارشية هي بيئة لنشوء مظاهر الانتهازية وتراجع الروح الجماعية، وأيضا هي تحوّل فقط في الولاء والطاعة والعبودية، من عبودية أوليغارشيا الدولة إلى عبودية أوليغارشيات الحزبية أو الطائفية أو المفيوزية. ثمة تداخل مزيج في بنية الحقل الأنثربولوجيا السياسية العربية بين الأليغارشيا والآنارشيا والباترياركية. ومن لم يقف على هذا المزيج، لن يفهم ظفر أوزّة في السياسات العربية وانفعالات المنفعل السياسي – وليس الفاعل السياسي- مع الحوادث، وفق تلك النزعات الثلاث، التي لا غنى عنها في مجتمعات اللاّمعنى، أو لنقل مفهوم الدولة السائلة إن شئت أن تنسج على منوال باومان.

إنّني لا أقترح قراءة المشهد العربي بأصول التأويل الأنثربولوجي للمجتمعات “البدائية”، بل هذا سيكون خطأ كبيرا، ولكن نروم إلى إنجاز حقل أنثربولوجي تفترضه الطبيعة المزيجة لمجتمع خاضع لثلاثية الألغارشيا والآنارشيا والباترياركية، أدوات دراسة هذا الاجتماع قد تكون نقيضة للمجتمع “البدائي” والمجتمع “الحديث”، لكن ما يميز هذا المجتمع، هو التناقضية العميقة لاجتماع متصدّع في العمق، ويدبّر أزمته بأدوات تفكير مضلّلة.
تمرّ الحوادث بحمولاتها المعقدة، وتتكرر أساليب التفاعل معها، ويُعاد إنتاج الوعي اللاّتاريخي بالحدث عبر منطق التحليل السياسي الذي لم يرق بعد إلى مزرعة جورج أورويل، تلك المزرعة التي كانت كما هي مزرعة ابن المقفع أو دي لافونتين، مزارع مؤنسنة، عامرة بالحكمة السياسية. والخشية اليوم، ليس من قوة الحوادث وقسوتها على الإنسان، بل تكمن الخطورة اليوم في إعادة إنتاج الوعي اللاّتاريخي برموز ودلالات الوعي التاريخي. وعندما تتأمّل هذا الوضع، ستدرك لا محالة، بأنّ حقل السياسة اليوم، هو حقل مفارق، غرائبي، وهو بالفعل حقل يصنّف في خانة أنثربولوجيا النّذالة.

https://anbaaexpress.ma/os6rz

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى