آراءثقافة

دماغ ألبرت أينشتاين وأسرار العبقرية الفذّة (3-3)

النسبية: هل يولد المرء عبقريا أم يصبح هكذا؟

هل أراد الدكتور توماس هارفي أن ينقذ أعظم دماغ عرفته البشرية عندما انتشله من الجثة بعد التشريح وقطّعه إلى أكثر من 200 قطعة ومن ثمة حفظها في أواني زجاجية (مستوعبات)؟ أم أنه ارتكب أبشع جرائم السرقة التي عرفها العصر؟ لم يكن من الواضح أن قَدَر أينشتاين أن يصبح فيزيائيا كبيرا. كان مولعا في طفولته بالموسيقى ولم يكن له أدنى اهتمام بالفيزياء. يقول في حوار أجرى معه: غالبا ما كنت أفكر بالموسيقى وكنت أعيش أحلام يقظتي بها، فلو لم أكن عالم فيزياء لكنت على الأرجح موسيقيا.

لكن حياة أينشتاين تبدلت عندما أُعطي كتابا عن الهندسة المدنية مليء بالأرقام والحسابات. نهم الكتاب في فترة وجيزة وكان قادرا على شرح مادته لرفاقه ومن حوله. نشأت فيه بعد ذلك حب التدبر في الكون والأفلاك والخلق والجاذبية سيما عندما أهداه عمّه بوصلة كانت محل اهتماماته الكبيرة.  أدرك فيما بعد أن الكون قد يكون كله متحركا من خلال الأرقام، ومن هنا كانت الانطلاقة الجبارة لهذا العالم التي اتخذت فيها السيطرة على موسيقى الكون إحدى أهدافه الأساسية كباحث فيزياء. خلال حياته غيّر أينشتاين مفاهيمنا حول الفضاء والزمن بشكل جزري: لقد ربط ما بين الطاقة والكتلة وسرعة الضوء في أشهر معادلة عرفها التاريخ. ف = ك2  أي إن حاصل ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء يساوي طاقته.

ما الذي جعل من دماغ أينشتاين فريدا؟ دكتور جين الخليلي هو عالم فيزياء مثل أينشتاين وهو مهووس بإنجازات بطله. ومن جهة أخرى يبحث أخصائي الدماغ الدكتور مارك ليتكو عن أسرار الخلق داخل العقل البشري. يخاطب د. مارك ليتكو زميله د. جين الخليلي ويقول: أظن أن عبقرية أينشتاين جاءت من خياله، ولا يستطيع أي إنسان أو آلة قياس ذلك! يرد عليه الدكتور الخليلي قائلا: أظن أن عبقرية أينشتاين تأتي من الخلايا العصبية القابلة للتحليل. يمكننا معرفة ما الذي جعل من أينشتاين رجلا عبقريا.

إذا أي وجهة نظر هي الصحيحة؟ من أجل حل لغز عبقرية أينشتاين على مارك وجين أن يسافرا إلى أميركا للعثور على دماغ أينشتاين المفصول عن جسده ودرسه وتحليله.

الطبيعة أم التنشئة؟ البيولوجيا أم التدريب؟ هل يولد الانسان عبقريا أم يصبح كذلك؟ إن عالم الوظائف العصبية الدكتور مارك ليتكو مولع بالتسلق وقد أوجد توازنا بين هوايته ومهنته. الآن توجد قصة حول طريقة عمل الدماغ. الأولى تعتبر أن الدماغ هو كالعضل. والآن تمرنت على تطوير قدرة التحمل في عضلاتي آملا أتمكن من البقاء هكذا لفترة من الوقت.

أما الثانية فتعتبر الدماغ كهيكل عظمي والتمرين لن يغير شيئا على الاطلاق. ولن أكن قادرا أبدا على الصمود في هذه الوضعية (عند التسلق). يقول مارك: كان المعتقد السائد أيام أينشتاين أن الدماغ هو كهيكل عظميّ له حدود طبيعية، لكن هذه النظرة تبدلت في أيامنا هذه. بدلا من ذلك، اليوم بات مفهوما أن الكثير من أجزاء الدماغ هي كالعضلات وبالتالي يمكننا زيادة قدرتها. إذن إذا كان دماغنا كله يعمل كالعضلات، فهل نملك كلنا القدرة على أن نصبح أينشتاين؟

في الأسابيع التي تلت نزع دماغ أينشتاين كان الدكتور المشرح هارفي يتعرض للضغوط الكبيرة من جهات عدة. أراد عدد من العلماء الاطلاع على الأمر. لكن هارفي لم ينكسر أمام هذه الضغوط فراح يفصح لا يلوي على شيء سوى التعمق بدراسة هذا الدماغ الفريد؛ أراد أن يكون هو فقط ولا أحد سواه مؤتمنا على أعظم دماغ عرفه العلم. يقول: كنت أعرف أنه دماغ مميز جدا، فاعتنيت به جيدا. قمت بحقن الشرايين بالسائل الحافظ وهذا ما لا نفعله عادة في مجال التشريح. التقطت الكثير من الصور من زوايا مختلفة فور إخراج الدماغ من الجثة ثم بدأت بتقسيمه.

يكون د. هارفي هو أول وآخر شخص حمل دماغ أينشتاين كاملا.

في الخمسينيات من القرن الماضي كانت الموضة في طب الأعصاب أن يوضع الدماغ تحت المجهر ويفحص. تمت تجزئة دماغ أينشتاين إلى ٢٤٠ جزءا. كل جزء أعطي رقما وغلف بالسلويدل وحفظ في الكحول. أعطى الدكتور هارفي عينات لعدد قليل من العلماء البارزين في مجال علم الأعصاب. هل كان جوهر العبقرية كامنا داخل هذه المادة الرمادية؟ إن صح هذا فسوف تنكشف أسرار طب الاعصاب ويسترد د. هارفي سمعته ويصبح الرجل التي أنقذت سرعة بديهته الدماغ، خدمة للبشرية جمعا.

قبل خمسين سنة أي قبل نزع دماغ أينشتاين أحدث هذا الدماغ مفاجأة كبرى: فيزياء الفضاء ثابتة لا تتحرك: هذا كان الفهم الشائع منذ القرن السابع عشر في زمن اسحق نيوتن. لكن في العام 1950 قام أينشتاين بنشر ثلاث أوراق بحث قلبت الموازين المعتقدة بنظريات جديدة عن الكون. قامت نظرية النسبية بتحويل مفهوم الحركة لنيوتن، حيث نصت أن كل الحركة نسبية. ومفهوم الوقت تغير من كونه ثابت ومحدد، إلى كونه بُعد آخر غير مكاني، وجعلت الزمان والمكان شيئاً موحداً بعد أن كان يتم التعامل معهما كشيئين مختلفين. لذا فقد جعلت مفهوم الوقت يتوقف على سرعة الأجسام، وأصبح تقلص وتمدد الزمن مفهوماً أساسياً لفهم الكون، وبذلك تغيرت كل الفيزياء الكلاسيكية النيوتونية. رغم عظم هذه المفاهيم النظرية نجد أن نظريات أينشتاين سقطت على أرض صخرية. إذ تجاهل علماء الفيزياء وعالمها وثائقه. لن يعطه ذلك أي شهرة ولم يلق أي ترحيب. وبالكاد عرف الناس به. توالت الشهور ثم في العام 1906 ظهر بصيص أمل في الأفق من خلال رسالة واحدة. نعم، رسالة واحدة لكنها من أهم فيزيائي في ذلك العصر: ماكس بلانك. قرأ بلانك وثائق أينشتاين عن النسبية وأدرك أهمية مضمونها. لن يعود العالم كما كان من قبل.

الدكتور جين خليلي والدكتور مارك ليتكو انتقلا بسبب هذه المهمة إلى جنوب كاليفورنيا. سوف يبحثان عن دماغ ألبرت أينشتاين. د. مارك متأكد أن دماغ أينشتاين سيعطي تفسيرا واضحا لعبقرية هذا الرجل. لكن د. جين غير مقتنع. يقول مارك لجين: أظن أن عبقرية أينشتاين كانت في أفكاره ولا أعتقد أنك ستجد أفكارا موجودة في المستوعبات التي تحفظ أجزاء هذا الدماغ الذي أحدث في القرن العشرين ثورة في علم الفيزياء. انبثق كل شيء من نظريته عن النسبية: الانفجار الكبير، انتشار الكون والثقوب السوداء. لحظة واحدة انتظر: كل هذه الأشياء: التخيل الخلق، العبقرية والذكاء كلها جاءت من عقله، جاءت من دماغه، جاءت من أفكاره الواعية. لكن أفكاره الواعية لم تعد موجودة الآن وفي هذه اللحظة. لكن ما خلق الأفكار الواعية سواء أكان أجزاء معينة من الدماغ أو اتصالات داخل التشابك العصبي فالدماغ هو الذي أنتجها وبالتأكد هنالك بعض الأجزاء منها. أنا لا أتوقع أن أجد شيئا لكنني أحب المفاجآت.

إن أي تطور بهذه الاستثنائية قادر على انتاج نظرية تجريبية ومعقدة كنظرية النسبية هو بالنسبة لعالم الفيزياء د. جين الخليلي غير قابل للتفسير من خلال البيولوجيا المجرّدة.

كان أينشتاين يعمل كموظف خاص وقد منحه عمله المضجر أكبر الوقت للتفكير. إن الضجر الذي عاشه أينشتاين قد غير العالم كله. ذات يوم وأثناء عودته إلى المنزل بواسطة القطار نظر أينشتاين إلى الوراء نحو برج الساعة. لمعت ساعتئذ فكرة طفولية في رأسه. تصوّرت الفكرة القطار يبتعد عن البرج بسرعة الضوء، عندها كيف ستبدو الساعة؟ سرعة الضوء لا تتغير؛ حينها أدرك بسرعة بأن الساعة ستبدو متوقفة طالما أن الضوء لن يصل إلى القطار. أما الساعة التي يضعها في يده ستعمل بشكل طبيعي. كان لأينشتاين رؤية: باستطاعة الضوء أن ينتقل بنسب مختلفة عبر الكون بحسب السرعة التي ننتقل نحن بها. تختلف نظرة كل فرد منا إلى الزمن بحسب مكان وجوده في الكون. من هنا ولدت النسبية.

بينما كانا متوجهين نحو وجهتهما الأولى، توقف جين ومارك في بلدة مهجورة حيث تبدّى الزمان متوقف. قال أحدهما للآخر: وكأن الزمن قد توقف عن الدوران في هذا المكان. الأمر أشبه بجزء من الزمن الكوني. يستخدم جين هذا الأمر ليلقي على مارك الدرس الأول في نظرية أينشتاين حول الزمن الكوني القائلة إن الكون والوقت لا ينفصلان. تقول نظرية أينشتاين حول النسبية. إن الزمن والكون يجتمعان معا فيما يسمى بالزمن الكوني الرباعي الأبعاد وفيه توجد الأزمنة كلها معا مرّة واحدة. هذه البلدة المهجورة هي كقطعة من الزمن الكوني. يجري الزمن بنسب مختلفة لدى مختلف الناس في أماكن مختلفة من الفضاء.

يقول:

 إذا الأمر مختلف بالنسبة إليّ وبالنسبة إليك وبالنسبة إلى ذاك الرجل. يجيبه: نعم،

النسبية تعني أن الوقت يختلف عبر الكون.

يرى العلماء لمن أمثال مارك مفهوما متوازيا في الدماغ البشري. باستطاعة عقولنا أن تعدد الطريقة التي ندرك بها الزمن.

يقول د. جين محدثا مارك:

إذا أنت تظن أن النسبية تتعلق فقط بالزمن، أليس كذلك؟ حسنا، أظن أن هذه هي النقطة التي يلتقي فيها عالمي الخاص بالفيزياء بعالمك الخاص بالأدمغة، وأستطيع القول صراحة، امنحني بعض القوت فسوف تستمتع بهذا.  ثق بي أنا عالم جهاز عصبي.

يتبع

https://anbaaexpress.ma/wbddt

محمد بدوي مصطفى

كاتب وباحث سوداني مقيم في ألمانيا

تعليق واحد

  1. من بين اجمل المقالات التي نشرت على انشتاين العبقري وهذا يعبر ويدل على ذكاء الكاتب محمد بدوي مصطفى مقال في المستوى .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى