آراءثقافة

حين تنطق الوثيقة (3)

مغرب أم مغارب؟ مع هنري تيراس في تأريخه للمغرب (3-4)

في البدء من يكون هنري تيراس

بإيجاز شديد، لأنّ ترجمته متوفّرة للطالب، هو مؤرخ وجغرافي فرنسي من مواليد 1895، انخرط في الجندية في 1914، التحق بعد أداء الخدمة العسكرية بالمدرسة العليا، قبل أن يتخرج أستاذا مساعدا عام 1920، وحيث كان تلميذا لجورج هاردي، وكان هذا الأخير قد تم تعيينه مديرا للتعليم العام بالمغرب، دعى تيراس للاتحاق به سنة 1921 ليتولى تدريس التاريخ بالثانوية بالرباط، ثم سرعان ما سيتم تعيينه مديرا للدراسات في الآثار الإسلامية عام 1923، وذلك بمعهد الدراسات العليا المغربية التي سيتولى منصب مديرا لها عام 1941، وعين أيضا رئيسا لمصلحة الآثار التاريخية بالمغرب عام 1935، ثم تولّى منصل كرسي الأستاذية في علم الآثار الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجزائر، خلفا لجورج ماسيه، وشغل تيراس تلك المناصب قبل أن يتم تعيينه مديرا للمعهد الفرنسي للآثار بمدريد حتى تقاعده.

لتيراس فضل في حماية التراث الفني المغربي، وتلك مهمّة زاولها في تداخلت الاختصاصات عند تيراس من التاريخ إلى علم الآثار، وظل اهتمامه بالتاريخ الوسيط له أثر كبير، حتى في التأريخ للمغرب قبل فرض الحماية عام 1912، ولا شكّ أنّ فرنسا لم تجرؤ على مواجهة المغرب في أيسلي إلاّ بعد أن ظهر الفارق في القوة، كانت هيبة المغرب بالنسبة لأوربا قد تأكدت منذ معركة واد لمخازن التي أنهت ليس فقط الاحتلال البرتغالي لبعض الجيوب المغربية بل ساهمت بتفكيك الأمبراطورية البرتغالية بكاملها، بعد مقتل أمبراطورها سيباستيان على يد الجنود المغاربة. خلف تيراس كتبا كثيرا حول تاريخ الفن المغربي، مثل كتاب “المساجد والقلاع الموحدية” الذي صدر سنة 1932 في باريس، وذلك بتعاون مع هنري باسيه، بالإضافة إلى أعمال أخرى مثل كتاب المدن السلطانية في المغرب(منشور سنة 1937)، كتاب مسجد الأندلسيين بفاس(نشر عام 1942)، كتاب تاريخ المغرب من البدايات إلى الحماية الفرنسية(منشور عام 1949)، أبحاث أركيولوجية بمراكش(1957)، كتاب مسجد القرويين بفاس(1958).
لا نستطيع حصر أعمال تيراس لا سيما في مجال التأريخ للفن المغربي-الأندلسي وامتداداته حتى تلمسان. وكان قد هيّأ مادة تصلح أن تكون أساسا لاستئناف تأريخ علمي وإكمال هذا المشوار والوقوف على نتائجه وكذلك على خصاصه.

ينقلنا تاريخ المغرب لتيراس إلى هذا التداخل بين حقائق التاريخ وحقائق الجغرافيا. إنّ المناطق التاريخية الكبرى للمغرب حسب تيراس، هي نتاج لتاريخه كما هي نتاج للطبيعة، وهكذا سعى إلى وضع الحدود وتثبيت الشخصية لكل منها.

أدرك تيراس أنّ المغرب بهذا المعنى ونظرا للدينامية التي تحدثت عنها سابقا، لا يمكن دراسته باعتبار خارجه وداخله. فداخل المغرب يوجد المغرب الداخلي الذي يعني به تيراس الأطلس المنطوي على نفسه، وما دون بالمغرب البراني. والعلاقة كانت معقدة، وكنها منفتح، بحيث كانت الهجرة تأتي من المغرب البراني إلى المغرب الجواني. إنّ الدراسات السوسيولوجية الحديثة في المغرب آثرت التعبير بالمغرب النافع والمغرب غير النافع، وربما هنا كنا نتحدث عن هذه الحقيقة نفسها بشكل آخر، أصلها عند تيراس بين مغرب داخلي وآخر خارجي. وهذا ما يؤكّد إن اعتبرنا استحالة المفهوم نفسه في الدراسات السوسيولوجية المغربية كما عند المغربي-الفرنسي بول باسكون(paul pascon)، الذي درس السوسيولوجيا القروية واستنتج أنّ المجتمع المغربي هو مجتمع مزيج.

فهذا يضعنا أمام حقيقة أخرى تعزز ما من شأنه إن لم يقرأ في إطار من الوضوح والتحقيق العلمي، أن يصبح مطية لأسوأ أشكال المغالطة. ذلك لأننا ندرك مسبقا أنّ الوضعية المزيجة للمجتمع ليس حكرا على المجتمع المغربي، بل هي خاصية لازمة لكل مجتمع بشري ذي طبيعة انقسامية وانسياح سُلالي وقبلي. لكن ما يمكن البناء عليه هنا، هو أنّ هذا التركيب سيساعد على فهم أشكال الصراع التاريخي القديم حول الأرض والمياء والسلطة داخل الكيان الواحد الذي تحرسه التضاريس الطبيعية المرسومة بعناية كأنها وضعت لتكون حدودا طبيعية للمغرب قبل أن تكون سياسية. المغرب البراني هو مجال لهذا النوع من الانسياب المرن، لكن العُلقة السياسية ظلّت قائمة. وجب التذكير أنّ الحديث عن الهوية – هوية الأمم –ليست أبدية، ولا أسطورية، بل هي جامعة سياسية وثقافية، إنّ مفهوم الدولة له علاقة بالهوية، بل هو ما يعيد إنتاجها. الفكرة التي تناول بها العروي مفهوم الدولة وسبقه إليها المفكر الإيطالي الكسندر باسران دي أنتريف(A . passerin d’entrèves) ، ألا وهي أنّ الإنسان يعيش فكرة الدولة على نحو بديهي، ومع أنها هي من يحدد حياته إلا أنه قلّما يسأل عنها. من هنا ، فإنّ مفهوم الدولة-الأمة لا يمكن أن ينظر إليه بعيدا عن هذه الحقيقة. إنّ السؤال عن الدولة، لم يعد سؤالا عن المفهوم، بل بات سؤالا تاريخيا يتعلّق بقضية الوجود، لأنّنا عجزنا عن تكوين أنطولوجيا جيوستراتيجية كتلك التي دعى إليها مارتن هيدغر، وحدها تقضّ هذا القلق الوجودي الجماعي الذي أنتج الجمود، وأيضا تقوض مرض التّاريخ بما فيه التاريخ الجغرافي، من أجل الحياة والمستقبل، كما يعزز ذلك نيتشه في محاسن التاريخ ومساوئه.

ففي نهاية المطاف، يوجد على هذه اليابسة أوادم كثير، وهوام، حشرات، وهي أيضا كما يسميها القرآن (أمم أمثالكم)، فهذا الشكل من التنظيم للجماعة في حيز جغرافي ما، هو فعل لا يرقى إلى معنى الدولة، فعند دوفيرجي نفسه، فإنّ التعريف الأرسطي للإنسان بوصفه حيوان سياسي، ليس تعريفا دقيقا، لأنّ الحيوانات هي الأخر تنطوي على تنظيم سياسي. إنّ الدولة حكاية أخرى، لا يمكن أن نبحث عنها في الحفريات، فتاريخ الدولة-الأمة في المغرب واضح جدا ولا يمكن أن يصبح موضوعا للإتنولوجيا.

(يتبع)

https://anbaaexpress.ma/8m527

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى