مع هنري تيراس
نتساءل بدورنا: ما هي أهم معالم هذا التاريخ منظورا إليه من قبل هنري تيراس، هذا المؤرخ الذي عكف في وقت مبكّر على التّاريخ الفنّي، بأمر من إدارة الحماية نفسها في عهد المقيم العام الجنرال ليوطي؟
منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، أخبرني المؤرخ المغربي الراحل د. إبراهيم حركات، صاحب “المغرب عبر التاريخ” عن مدى تأثّره ببعض المؤرخين، وركّز على هنري تيراس، حيث أبدى إعجابا به كبيرا. وأكّد لي يومها على مدى موضوعيته ومنهجيته الخ. لم آخذ الكلام مأخذ الجدّ، تساءلت: كيف يمكن لمؤرخ فرنسي أن يكتب تاريخا موضوعيا في عهد الحماية؟ كنت يومها مهتما بالتاريخ العربي والإسلامي عموما، غير آبه للحدود والهويات المتشكلة عبر التاريخ السياسي وتاريخ الذّهنيات. لم أكن أيضا أدرك بأنّ معارك الوعي تعتمد التّاريخ وتستمر في اختراقه، وهي معارك تتطلب قدرا هائلا غير مسبوق من الزّيف. كانت مؤاخذتي على العرب، كونهم لا يفكرون في إعادة كتابة التاريخ، غير أنه يبدو لي أنّ بعضهم يعيد كتابته باستمرار، لكن على حساب تاريخ عريق، تاريخ المغرب الذي تعرّض للكثير من محاولات الاختراق والازدراء. فهناك من أدرك في وقت متقدّم، أنّه ولكي نكتب تاريخا جديدا علينا أن نقتل الشّاهد؛ ولقد كان المغرب شاهدا بقوة عراقته على المنطقة، لا يمكن أن يقبل المغاربة بسيناريوهات تَتْرِيخية تقوم على تقزيم تاريخ المغرب والشخصية المغربية.
والحقيقة، هي أنّ الموضوعية التي حدّثني عنها إبراهيم حركات يومها، تكمن هنا، حينما يُقْدِم رجلٌ مُؤَمَّنٌ على دراسة أمة تحت إدارة المحتلّ، ويدفعه وهو الغالب، أن يكتب تاريخا منصفا مطعّما بالوثائق والمقاربات التاريخية والجغرافية. كتب هنري تيراس بحثه ذلك في أجواء الحرب الطاحنة من 1940 إلى 1945، وهو يرى بأنه وعلى الرغم من ذلك، وجد في ذلك سببا إضافيا ليقدم لتاريخ المغرب، الذي كان أكثر من مرة دراماتيكيا، ودائما مؤلما، كل الودّ قدر الوسع، وهذا لم يمنعه من إبداء رأيه الصريح في عدد من الأحداث والأشخاص. تذكرت عبارة إبراهيم حركات، لا سيما حين يقول تيراس بأنّ أصدقاءه المغاربة، إن وجدوا في بحثه ذاك، نقصا أو صورة غير التي في أذهانهم، فإن ذلك يعود إلى المصادر، ولكن يقول تيراس: عليهم أن يدركوا بأنني كتبت هذا التاريخ بالمشاعر نفسها التي كان بإمكاني أن أكتب بها تاريخ بلادي، ذلك لأنه ليس أكثر خيانة لشعب ما من أن تقدم له صورة مجاملة وخاطئة عن ماضيه(…)إنّ الرؤية الواضحة غير الخاطئة هي وحدها تتيح تحضير مستقبل أفضل” .
نستطيع من خلال تيراس الوقوف على معنى التاريخ ومعنى الموضوعية في كتابة التاريخ، ففرنسا ومن خلال أعتى مؤرخيها وإثنولوجييها مثل هنري تيراس أو شارل أندري جوليان أو جاك بيرك أو روبرت مونطاني أو ماسينيون أو ادوارد ميشو بيلير الخ، لم تستطع أن تتجاوز حقائق التّاريخ المغربي، فهو واضح ساطع من خلال مآثره الواضحة، ووثائقه الصادحة، وما ينطوي عليه الأرشيف المحلّي أو الأوربي في التاريخ الديبلوماسي الذي يؤكّد بوضوح على مستوى المعاملات الدولية. وقد قدّم المؤرخ والسفير المرحوم عبد الهادي التازي ما هو جدير بالاهتمام في التاريخ الديبلوماسي المغربي. والكل يتذكّر بأنّ المغرب استقلّ بدولة حقيقية بتقدير القدامى والمحدثين منذ العصر العباسي، أمّا الأتراك فلم يجدوا لهم موطئ قدم هنا، حيث كانت حدود المغرب كما تؤكد عليها الخرائط القديمة مُرسّمة بين المغرب والأتراك الذين حوّلوا الكثير من المناطق في الشرق العربي كما في شمال أفريقيا إلى إيالات عثمانية تابعة لإدارة الباب العالي، لكن ظلّت لها هويتها المجتمعية، كوحدات قبلية، أو جهوية أو متصرفية كما في المشرق العربي وبلاد الشام تحديدا، على أنّه وجب الإشارة إلى أنّ تقاليد الدول في بعض الدول المشرقية التي هيمن عليها الباب العالي بالغُلب كانت موجودة، في مصر والعراق وسوريا حتى تونس، على الرغم من تبعيتها للباب العالي. وفي تقديري أنّ الأهمية التاريخية للأتراك، هي أنّهم شكلوا من خلال تجربتهم وثيقة تاريخية على حدود المغرب، ذلك لأنّ كلّ بلد لم يجتاحه الباب العالي، فهو مغربي بدليل الخُلف الرّياضي، فلا توجد مساحة زهد فيها التُّرك العثمانيين، الذين حاولوا ثم حاولوا فحاولوا للاقتراب من الحدود المغربية فباؤوا بالفشل. وأمّا حكاية علاقة المغرب بالتُّرك، ومزاعم الترك بأنّ لهم الفضل في انتصار المغرب في معركة وادي المخازن ضدّ البرتغال، فهو نوع من الفضول والتزوير للتاريخ الحربي لمغرب أوقفهم عند حدوده بلا رجعة، حكاية سنعود إلي في مناسبة أخرى.
قلت: كانت هناك يومها فقط ثلاث دول تتوزّع العالم الإسلامي: دولة الخليفة التركي، ودولة الشّاه الصفوية ودولة السلطان المغربي التي اتخذت أسماء مختلفة عبر تاريخها المديد أو بحسب السلالة الحاكمة كالمرابطين والموحدين والسعديين الخ. كان المغرب يعرف في الشؤون الخارجية التركية بـفاس”fas” بينما في الشؤون الخارجية الإيرانية بـ” مراكش”. كانت للمغرب عند كل جولة من تاريخه عاصمة، فهي عاصمة دولة وليست مملكة قائمة بذاتها كما يحاول بعض من يبحث عن مَدْرَكٍ تاريخي لممارسة الإسقاط على تاريخ تمّ التأريخ له في حينه. لقد كان المغرب عبر التاريخ يؤرخ بقدر ما يحتفظ بالوثيقة؛ إنه تاريخ موصول، لم يكن التأريخ له استدراكا، ولك أن تبدأ من ابن خلدون إلى أبن أبي زرع وابن عذارى إلى عبد الرحمن بن زيدان حتى ليون الأفريقي والرباطي والناصري فضلا عن رحالتنا الكبار واضح خريطة العالم الأول ومحدد أقاليمها الشريف الإدريسي السبتي والرحالة الكبير ابن بطوطة الطنجي. لا يمكن الكذب على تاريخ موصول وتأريخ موثّق ومستمرّ الإيحاء.
هكذا تمّ التعامل قديما مع المغرب كدولة-أمّة بكل المعايير والآثار الرَّجعية التي يتيحها الفكر السياسي لتشكل مفهوم الدولة _الأمة. كان المغرب ثالث ثلاثة في النفوذ في العالم الإسلامي، وكان بينه وبين الترك الذين رسّموا معه الحدود الشرقية، توتّ كبير واغتيالات سنذكرها في مناسبة أخرى. لكن ما يؤكّد هذه الحقيقة التي لا تأويل فيها، هو ما تكشف عنه الوثيقة، أعني المراسلة التي تمّت الشاه الصفوي والملك السعدي بمقتضاها فتح الدولة الصفوية لها سفارة في المغرب. ترتبط فكرة السفارة بالدولة، وهكذا نحن من كان يلعب منذ الطفولة قرب باب السفراء في الحاضرة الإسماعيلية مكناسة، يدرك أنّ التّاريخ السفاري المغربي الموثّق لعب دورا كبيرا في تاريخ ما قبل الاستعمار الفرنسي نفسه. فرنسا تدرك جيدا أنّ المراسلات السفارية بين المغرب وفرنسا تعود إلى ما قبل الثورة الفرنسية، ويحتفظ الأرشيف بتواصل سفاري بين نابوليون والمغرب قبل إقدام نابوليون على احتلال مصر. وكان الأهالي بالجزائر اليوميشتكون من ظلم الترك، و يتواصلون مع المغرب لنقل تظلماتهم سفاريا إلى الديار الأوربية، كما في قضية فكاك الأسرى الجزائريين، التي اضطلع بها السفير ابن عثمان المكناسي وآخرون.
أحيانا كثيرة كان التوتر يسود العلاقة بين الباب العالي والسلطان المغربي في تفاصيل مشهودة في تاريخهما بدءا من أطماع الأتراك في مراكش المتمنعة عليهم واستمرت على صعيد المنافسة المغربية للباب العالي في موضوع فكاك الأسرى العرب والمسلمين غير الأتراك. وفي هذا السياق وجب أن أشير إلى أنه ليس تركيا وحدها من كان يعرف حدود المغرب، بل فارس أيضا أدركت حدود المغرب في العهد السعدي. يحدثنا عبد الهادي التازي عن هذا المفصل من تاريخ العلاقات الدولية المغربية بالقول: “وتتطاير أخبار المغرب إلى الصفويين في فارس .. فيبعث الشاه عباس الكبير بسفارته إلى السعديين المغاربة ليساعدوه على أشغال الأتراك الذين كانوا يوالون الغارات على الصفويين… لقد أدرك الفرس أنه لم يتم أمر لهم دون المؤازرة المغربية. وكانوا يعلمون عن مراسلات العثمانيين للسعديين حول المواجهات المسلحة بين الصفويين.. وبين الأتراك.. وعن جواب المنصور السعدي على تلك المراسلات” .
يضعنا هذا الحدث أمام حقيقة مفادها أننا كنّا إزاء ثلاث دول عظمى تتقاسم النفوذ في العالم الإسلامي: تركيا إيران المغرب، كانت خريطة المغرب قبل الاستعمار الفرنسي للمنطقة تختلف جذريا عنها اليوم، لقد كان المغرب ضحية التوسع الاستعماري ولا يزال، فلقد كان المغرب يمتدّ تاريخيا جنوبا وشرقا وشمالا، كانت الأندلس بمثابة العَدْوَة الشمالية فيما المغرب اليوم بمثابة العدوة الجنوبية. ألم ينتظر مبعوث صلاح الدين إلى المغرب طلبا للنصرة، في فاس حيث كان السلطان الموحدي في رحلة إلى الأندلس يتفقد شؤونها. والعلاقات بين هؤلاء الثلاثة لها أحكامها الخاصة ومميزاتها التي لا يفهمها إلاّ من كان على اطلاع عميق بتاريخ هذه البلدان. وهذا يؤكد على ما يجب في حق المغرب من احترام لتاريخها الذي لم تأكله الأرضة بعد.
كان المغرب كدولة هو المسؤول التاريخي عن حماية إخواننا في الجزائر اليوم، وفي ذلك كلام كثير يرجى لمناسبة أخرى، ولكن لننصت إلى مؤرخ المملكة وهو من الجزائريين الذين هاجرت عوائلهم في وقت مبكّر وطُبق عليهم ظهير السلطان عبد الرحمن، القاضي بوضع كل منهم بحسب ما يتقن من صنعة، أعني بذلك عبد الوهاب بن منصور الذي تولّى منصب مؤرخ المملكة في المغرب هو نفسه يؤكد في قبائل المغرب، بأنّه “لما شرعت فرنسا في احتلال الجزائر في 1830، وقف المغرب موقفا مشرفا وهب لنجدة جارته والدفاع عن حريتها، وأرسل قوت عسكرية إلى تلمسان وأنشأ إدارة في أقاليم الجزائر الغربية خلفت الإدارة التركية المنهارة. ثم اضطر إلى سحب قواته وإدارته تحت ضغط فرنسا الحربي والديبلوماسي” .
طبعا، هناك تداعيات لهذا الموقف انتهت إلى نشوء حرب بين فرنسا والمغرب، وبداية العد التسلسلي لفرض الحماية بعد ذلك على المغرب، قد نعود إلى هذه التداعيات في مناسبة أخرى، ولكن ما يهمنا هنا، هو ما تنطوي عليه عبارة المؤرخ عبد الوهاب بن منصور، وهي من بديهيات الذاكرة المشتركة، هو أنّ المغرب تصرف عسكريا وإداريا كدولة قائمة، تنطلق من حسابات جيوسياسية حقيقية، حيث لم يكن الغرض توسعيا، لأننا سندرك بأنّ المغرب كان يخشى فقط من وجود فرنسا إلى حدوده كما انطلق من واجبه القومي والإسلامي، ولما خرجت فرنسا، تنازل عن مناطق كثيرة كانت قد اقتطعتها فرنسا وضمتها إلى المستعمرة، وفي الوقت نفسه كحزام أمني، فعل ذلك لأنّه كان يميز بين الأشقاء وبين الاحتلال الغربي، ومن هناك نشأ سوء الفهم الكبير.
بالعودة إلى تيراس، فإنّ المغرب في نظر هذا الأخير، له مكانة في أقدم أرشيفات البشرية. طبعا يبني تيراس أيضا على المعطى الحفري حيث تمّ العثور على فكّ لجمجمة تنسب نياندرتال(neanderthalensis)،هذا مع أنّ تيراس كتب تاريخه هذا قبل عقود من المعطى الجديد بعد أنّ تمّ العثور عام 2017، على بقايا من نوع الإنسان العاقل(homo sapiens) في جبل إيغود، أضاف إلى التاريخ البشري ما يعادل 100 ألف عام إضافية، وهي أقدم جمجمة لكائن بشري فرضت تغييرا في التاريخ البشري.
لا شكّ أنّ ماضي المغرب ضارب في عمق التاريخ وما قبله، وهو له في كل سياق شأن يؤكد على أنّه كيان فريد بمعايير عصره، عنوان هذا التاريخ هو الدّولة بمفهومها القديم والحديث، لا أتحدّث عن ممالك بمعنى القبائل أو إمارات حرب، فمثل هذا احتجت به إسرائيل نفسها ضدّ الفلسطينيين حين اعتبرت قبائلها بمثابة ممالك تفيد معنى الدولة بأثر رجعي. في التاريخ المغربي توجد حقب وسياقات وحدود وقطائع، لا يمكن قراءة تاريخ المغرب بخلط الأوراق بين حاضره وماضيه، فلكل حقبة استحقاقاتها، ونظامها المعرفي، وترتيبها الإدارية. وسيكون من غرائب المضحكات أن يتحدث البعض منبها المغرب إلى خطر تقسيمه واحتلاله وقراءة تاريخه بقفزات “السعدان”.
(يتبع )