من المعلوم أن البلدين من النوع الذي يغلب على سياستهما الهاجس الأمني، وفي تلك الفترة كانت المقاربة الأمنية تغطي على أي مقاربة أخرى، وبالتالي كان البلدان في قبضة محرري التقارير الأمنية، وهي تقارير غالبا ما تصوغها جهات لا تتمتع برباطة الجأش، ويغلب عليها الجهل والخوف، وفي ذات الوقت تستمتع ببث طقوس الخوف تمكينا لمراكزها.
كيف قرأت وزارة الداخلية المغربية أحداث مراكش؟ وكيف شرحتها للعاهل المغربي الراحل الحسن الثاني؟ وهل اقترحت عليه إغلاق الحدود البرية لكنه رفض واكتفى بفرض التأشيرة؟ هناك أسئلة عديدة، ومهما يكن وفي جميع الحالات، فقد أخطأ المغرب في قراره القاضي بفرض التأشيرة على الجزائريين. وأدرك المغرب، بعد ذلك، أنه أخطأ.
في غياب الشفافية وندرة المعطيات، من الصعب أن نفهم من كان وراء العملية الإرهابية التي استهدفت مراكش، وكيف ولماذا؟
ومع ذلك، وبقليل من المعطيات يمكننا أن نفهم الحدث في جانبه غير المرئي، إذا استعنا بالخيال وبجملة من الأدوات العلمية والفلسفية، من خلال مقاربة أكنوتولوجية متعددة المناهج، كالفينومينولوجيا، والهرمونيطيقا والتفكيكية.
لقد تزامن الانفراج في العلاقة المغربية الجزائرية مع الأنفاس الأخيرة للحرب الباردة، في غمار تمدد النسق الجيوسياسي العالمي شرقا على تخوم الاتحاد السوفياتي وما أحدثه هذا التمدد من تحولات في عدد من البلدان. فماذا حدث منذ انفراج العلاقة المغربية الجزائرية إلى غاية 1994؟
أولا: وقعت أحداث أكتوبر 1988، وخرجت الجزائر من الأحادية إلى التعددية، واكتسحت جبهة الإنقاذ الساحة السياسية؛ وتم توقيف المسار الانتخابي واستقال الرئيس الشادلي بن جديد، وتشكل المجلس الأعلى للدولة 1992، بعد استقدام محمد بوضياف رئيسا للمجلس ثم تعرضه إلى الاغتيال 1992؛
ثانيا: اجتماع القادة المغاربيين بمراكش، والإعلان عن تأسيس اتحاد المغرب العربي 1989؛
ثالثا: اتفاق وقف إطلاق النار، ونهاية النزاع المسلح بين جبهة البوليساريو والمغرب في سبتمبر 1991؛
رابعا: الشروع في إنجاز أنبوب الغاز المغاربي الأوروبي حيث حدث الاتفاق على المشروع عام 1992، بين وزارات إسبانيا والجزائر على إنشاء خط الأنابيب. وفي الوقت نفسه وقعت كل من سوناطراك وإناغاز اتفاق إمداد طويل الأجل. تلى ذلك اتفاقية مغربية على بدء إجراءات إنشاء وتشغيل واستخدام خط الأنابيب. وفي نفس السنة، تأسس مشروع شركة خط أنابيب المغرب العربي–أوروبا المحدودة. في عام 1994، انضمت ترانسغاز البرتغالية للمشروع. بدأت الأشغال في 11 أكتوبر 1994.
لقد حدث التقارب بين البلدين تجاوبا مع تمدد النسق الجيوسياسي العالمي، في سياق، تفكك الاتحاد السوفياتي بفعل هذا التمدد، وبالموازاة، ولأن سياسة الدولتين كانتا تحملان في صلبها قابلية الصدام مع هذا النسق انقلب الانفراج إلى انفجار إثر العملية الإرهابية التي استهدفت فندق أطلس أسني في مراكش بتاريخ 24 أغسطس 1994. وما يعيشه العالم اليوم في أوكراينا، مثلا، ناجم عن صدام النسقين إثر انكماش النسق الجيوسياسي العالمي وتمدد الاتحاد الروسي كنسق مضاد، وسيمر العالم بوضعية صعبة قبل أن يستعيد النسق العالمي توازنه.
لقد كان القرار المغربي متسرعا ومتجاهلا ليس لطبيعة العلاقة بين البلدين فحسب، بل تجاهل مبادئ النسق العالمي المتمثلة في ضبط النفس وعدم الارتجال في إصدار أي قرار إلا بعد استكمال إجراءات التحقيق وإطلاع البلد الجار على أي مستجد في إطار ما تنص عليه القوانين والمواثيق والأعراف. من وجهة نظري لم يكن القرار المغربي متبصرا، ولم يترجم ثقافة حسن الجوار فحسب، بل كشف عن قصور في النظر السياسي.
جاء الرد الجزائري أكثر تطرفا، ومع أن الجزائر كانت في وضعية تسمح لها بلعب دور استراتيجي، إلا أنها فضلت التصعيد، ففرضت التأشيرة وأغلقت الحدود البرية. كانت للجزائر فرصة أن تقوم بدور الأخ المتبصر وتصدر بيانا تندد فيه بالعملية الإرهابية وتتأسف فيه عن القرار المغربي، وتؤكد أنها لن ترد بالمثل، واحتراما للشعب المغربي، تؤكد أنها لن تفرض التأشيرة؛ وبهذا الرد تكون قد أحرجت المغرب وتكسب ثقة الشعبين وثقة الشعوب العربية ومحيطها الأممي.
لكن للأسف، اختزل أصحاب القرار “العظمة” في التصعيد وفي معاقبة الشعبين بقطع التواصل بينهما. لقد أدرك المغرب فداحة الخطأ الذي ارتكبه بإصدار ذلك القرار المتعجل، وعمل كعادته على مراجعة أخطائه وتسديد خطاه بالشكل الصحيح، فتراجع عام 2004 عن فرض التأشيرة، ولم يتوقف عن تصحيح تمثلاته السياسية، وظلت القوى السياسية الديمقراطية في المغرب تقاوم القوى المعادية للتغيير، كان هذا التطور لافتا، وقد تجلى ذلك في الخطابات الملكية التي ظلت تحرص على نبرة التواضع وعلى معجم يخلو من مفردات العنف والكراهية.
ومن المؤكد، أن الخطاب السياسي الجزائري سيعثر على المفردات التي تليق بروح الأخوة بين البلدين، وسيكون البلدان قد تحررا من حالة الفوبيا التي ظلت تسيطر عليهما وتؤثر في قراراتهما المصيرية.