لقد علمتنا الفلسفة الفينومينولوجية أن الوعي لا يدرك موضوعا ما إلا في علاقة قصدية تجعله يتجاوز الشيء المرئي لكي يدرجه داخل سياق لا مرئي. إن التركيز على مقولة القصدية يبين بما فيه الكفاية بأنه لا يمكن أن توجد أية معرفة بدون وجود حركة يمارسها العقل في اتجاه الشيء، باعتبار أن الشيء يحتوي على أمر آخر مخالف للشيء ذاته. فـ”الاتحاد” الذي ظل محل رغبة، ظل في الآن ذاته مُتمنّعا ومُتعذّرا على التحقق (من مداخلة ساهمت بها في إطار لقاء تحت عنوان”الاتحاد المغاربي : واقع وآفاق” نظمه الفضاء المغاربي، بوجدة مساء الإثنين 18يونيو،2002).
منذ أن أقمت في المغرب نهاية 1998، أصبحت مسألة الحدود انشغالا مركزيا من انشغالاتي البحثية والنضالية، ولاسيما أني كنت أقيم بوجدة المدينة التي لا تبعد عن الحدود سوى ببضعة كيلومترات. كانت الأزمة المغربية الجزائرية بالنسبة لي كمواطن وجدي تتجلى في هذه الحدود المغلقة.
عند المعبر الحدودي “زوج بغال”، توجد مقهى يرتادها الوجديون، وحدث مرات عديدة أن قصدت تلك المقهى رفقة أصدقائي. كان ذلك المعبر المسدود هو ما يثير تساؤلاتنا وحيرتنا، ويثير فينا مشاعر الألم والغضب، لم تكن مدينتي وهران تبعد عن وجدة سوى بساعتين ونصف، لكن كلفة السفر من وجدة إلى وهران بعد إغلاق الحدود تضاعفت في الوقت والجهد والمال والأعصاب.
فحتى تسافر إلى وهران تضطر إلى قطع مسافة تتجاوز ألف كيلومتر، تستقل القطار من وجدة إلى كازا ومن هناك تأخذ الطائرة إلى وهران. وقد تضطر إلى المبيت في كازا، وعليك أن تحسب ما تنفقه من وقت ومن مال ومن جهد لتصل مدينة لا تبعد عنك سوى بمئتي وخمسين كيلومتر.
في عام 2002، استبشرنا خيرا بعد أن تداول الإعلام أن البلدان المغاربية ستلتقي في قمة بعد انقطاع طويل. تضاربت التوقعات حول مستوى التمثيل في القمة المغاربية التي كان من المقرر أن تنعقد يومي 21و22 يونيو من عام 2002، ثم بدأت بعض المصادر تتحدث عن تغيب العاهل المغربي محمد السادس وعدم مشاركة الرئيس الموريتاني معاوية ولد سيد أحمد الطايع، ثم تم الإعلان وبشكل مفاجئ عن تأجيلها إلى أجل غير مسمى. جاء قرار التأجيل بطلب من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، وتساءل محللون عن معنى هذا التأجيل، تأجيل أول اجتماع للزعماء المغاربة منذ 1995، وكتب الباحث والمحلل نورالدين قلاله أن الوهن الذي يعانيه الاتحاد يرجع إلى عدة أسباب أهمها أزمة القيادة وأزمة السيادة، ورأى أن الاتحاد المغاربي بلغ مرحلة الموت الإكلينيكي (جريدة الخبر19يونيو2002).
نظرت إلى عبارة “الموت الإكلينيكي” برهة من الوقت، وغصت في صمتي، لم أصدق ولم أكذب ما ذهب إليه نور الدين قلالة لقد قرأت مقاله بعد يوم من مداخلتي. وكنت قرأت أعمال بعض السياسيين والمثقفين الذي اهتموا بالمسألة المغاربية (محمد لبجاوي، الحبيب المالكي، آلان جوبير ومحمد مواعدة وآخرين”.
في المداخلة أعلاه، حاولت أن أفهم العوائق التي حالت دون نجاح الاتحاد المغاربي، وفهمت أن “التمنع” الذي تسبب في تعطيل الاتحاد، “هو الذي يمنح الوعي قدرته على الإدراك من خلال حمله على تجاوز مسألة الاتحاد كموضوع جاهز (مرئي) وإدراجه ضمن سياق لا مرئي. ويعني هذا أن المفاهيم السائدة حاليا (أقصد نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين)، وفق الدكتور محمد مواعدة، المفاهيم التي ناضلنا من أجلها وتبنيناها هي الآن جميعها محل تساؤل وبدون استثناء، و بالتالي فإن جميع التنظيمات سواء كانت سياسية أو اقتصادية، أو اجتماعية أو غير ذلك هي اليوم موضوع تساؤل، وبطبيعة الحال ومادام النظام العالمي يعاني من الانحدار والاضطراب وباعتبار أن النظام العربي يعد جزءا منه فلا بد أنه ينعكس ذلك عليه وباعتبار أن المغرب العربي جزء من النظام العربي، فسينسحب هذا الانحدار والاضطراب على المغرب العربي أيضا ويضيف مواعدة، ليس بإمكاننا كمثقفين وكمناضلين ومن مختلف المواقع أن نتحدث عن المغرب العربي بمعزل عن إطاره العربي والإسلامي وإطاره الإقليمي والأممي”.
مع الوقت، بدأت أدرك أن المشروع أكبر من الحالمين به، وأن “الاتحاد” كلمة لا تليق بالمرحلة، وأن الاتحاد بناء لا ينجزه إلا بُناةٌ مَهَرة يتمتعون بالحكمة والبصيرة، وأن كل ما نحتاج إليه هو ثقافة تحترم الحوار والجوار وثقافة تسمح لنا بالتواصل، ونحتاج إلى سياسة لا تسارع إلى إصدار قرارات شعواء تحرم الشعوب من حقها في السفر والتنقل.
فهل أخطأ المغرب حين فرض التأشيرة على الجزائريين عام 1994؟ وهل أخطأت الجزائر حين أغلقت الحدود البرية ولم تكتفي بفرض التأشيرة على المغاربة؟