آراء

البلاجيا وعنف التّلاص

(فراقشية الأفكار وصباغة الحمر المستوحشة)

لماذا تُمَكِّنُ العلوم الدقيقة مجالها من الكثير من إمكانيات الحماية، إذ يصعب اختراق هذا المجال من خارج مجتمع العلم، ليقظة أعضاء المجتمع العلمي، ولأنه حقل دلالي لا مجال لممارسة للنصب فيه والاحتيال. هذا لا يعني أنه مجال يخلو من الأغاليط، بل كل شيء فيه بما فيه الخداع، يتمّ بلياقة استدلالية كبيرة، فنظرياته حتى إن أخطأت الواقع، فهي علمية، ما دامت قابلة للدحض بالمعنى البوبري، ولكن ليس كلّ تَمَوْقُلٍ هو قابل للدحض، وبالتالي، العلمي هنا ما يقبل الدحض، والنظرية تكتسب قيمتها بالدفاع عن نفسها، لكن كيف يمكن الدفاع عن نظرية في علوم اجتماعية رخوة؟ وحين يصبح التلاص والتناص مجرد رأي ورأي آخر؟

في مجال العلوم الاجتماعية تظهر بوادر إبداعية، تحمل تصميمها في شجاعتها وابتكاراتها، كما تظهر أخرى أقرب إلى صباغة الحمير في الأسواق، وحتى هذه الصباغة تتطلب مهارات: كيف تصبغ حمارا أشهب باللون الأسود، للرفع من قيمته التجارية؟

في موضوع البلاجيا هناك مذهبان لا علاقة لهما بالتّناص، بقدر ما لهما علاقة نسب بالتّلاص، وهذان المذهبان هما:
– بلاجيا الصبيب الهمجي، الذي لا يكلف نفسه مهارة صباغة الحمير، فيقطف من قطاف النصوص بضمير فاسد ولصوصية بالغة، ولأنه غير معني بالنسق، فهو قد ينقل حتى الانطباعات، والتجارب، وما تفرد به النص الأصلي، حتى أن أحدهم نقل نصوصا من كتاب لامرأة، ونسي أنه يخاطب نفسه بتاء التأنيث، ينقلون حتى الأخطاء الإملائية والمطبعية نفسها، بل تخونهم المفاهيم، لأنهم في تلاصهم يتجاهلون وضعية المفاهيم محلّ النزاع، فيصبح سارق النصوص كل يوم في شأن ومفهوم بحسب عدد المفاهيم في كيسه، وقد يخفون ذلك في الحشو والإكثار، وعادة ما يفقدون القدرة على التنسيق أو يخفونها بوضع متاريس من التمنهجات التي باتت لعبة للإخفاء وليس لتدبير البحث؛ هذه ظاهرة تتهدد العلوم الاجتماعية بمخاطر شتّى، فضلا عن المشكلات المزمنة التي تواجهها على صعيد التّمنهج والمفهمة.

– المذهب الثاني، نسميه بلاجيا صباغة الحمير، أي أن يبتلع اللّص المتن، ثم يستعمل مهارة التلوين، حتى يبدو لك أنّ المُتلاص هو مبتكر المضمون، قبل أن تكتشف أنّه صبّاغ للمتون قبل أن ينتقل بها إلى سوق الاستحمار. وهذا الصنف أحيانا أخطر، لأنّه يشوش على الأجيال التي تخونها ملكة ضبط الصيرورة التراكمية لتاريخ الأفكار، يرثون أصحاب النصوص وهم أحياء، بل لم تعد لهم من هواية سوى أن يخضعوا النصوص التي اجتهد فيها كتابها لورشة الصباغة.

أي قيمة للمجتمع العلمي إن لم يكن قادرا على ضبط اللّصوصية بمذهبيها، لا سيما وأنّ النظام التربوي بات شريكا في هذه المهزلة-دعه يمرّ- وما قيمة الوعي إن لم يبدأ من التمييز بين الأصل والتقليد، بين المتن الأوّل والمتن الملوّن؟

تدخل جملة عوامل تمنح اللصوص عبورا سلسا إلى مجتمع العلم، منها جهل المتلقي بتاريخ الأفكار العامة والخاصة، منها قيم المجاملة في المحاسبة، فيها فوضى المفاهيم وتنازعها. غير أنّك تستطيع أن تضع حدّا لهذه المهزلة، وذلك بمداهمة لصوص النصوص بأسئلة حول منعطفات عميقة في المتن، تتبع تاريخ التحول في آراء المتلاصين، التاريخ مهمّ جدّا، اعتماد منطق التناظر، وإحالة النص المنحول إلى النص الأصلي، وأخير تمنحنا الثورة الرقمية والتطبيقات المتاحة اليوم أن نكشف عن جريمة التلاص الموصوفة.

إنّها صباغة الحمير في سوق “الفراقشية”، بأسلوب فيه استهتار واستغباء للمتلقّي، مثل لصّ بليد يسرق نصوصا تحت ضوء البروجكتور(سارق وبيده شمعة). لكن، أي علاقة جادة بين النص الأصلي وبين لعبة التّلاص، التي تجعل سرّاق النّصوص يقعون في مفارقة لعنة الواقع، بل لكن أي مقصد للتلاص الإنسانوي حين يقف في النّصف.
تنفضح قصة التّناص في الواقع، لا سيما في خطاب التّأنسن، حين ندرك أنّ فعل التلاص نفسه هو فعل عنفي، وبأنّه استهتار بالآخرية، وحالة متربّصة ومفترسة للنصوص ذئبيا ومتحايلة عليها ثعلبيا وقاضمة لها ضبعيا. فسارق النصوص هو ليس كائنا كسولا، لأنه يقضي الليل والنهار في صباغة متن النصوص، ولكنه عاجز عن أن يفكر خارج الإنشاء وتقنيات صباغة النص الأصلي دون التفاعل المنطقي الذي يتيحه فعل التناص المشروع. التّلاص جريمة، والمتلاص كائن فاقد للضمير والإنسانية فضلا عن ضعف الإبداع.

رحم الله د. محمد أركون، والذي عاش محنة التمزق، ليكتشف في وقت مبكر الأنسنة في الإسلام، في متن ابن مسكويه وأبي حيان التوحيدي، وأنجز مفهمة فيها التناص لا التلاص، متقنا لتاريخ عارم من الأفكار، وقال كل ما يمكن قوله من قبل، وكان مثالا في الواقع للتسامح، غير مهرول ولا متلصّص ومبرّم. هل يا ترى نعيش وضعية انحطاط؟ ومن المسؤول عن هذه الوضعية؟ وهل نحن أمام بداية انهيار هيكل علوم المجتمع؟ وهل ثمة جهاز لكشف التّلاص كما ثمة جهاز لكشف الكذب؟ أي قيمة للعلوم الاجتماعية عند استفتائها في قضايا كبرى، إن كان هذا هو وضعها المزري؟

انتشرت ظاهرة التلاص بشكل فاحش في بيئتنا الثقافية والاعلامية، واختلط الأصل والأصيل في سوق فراقشة التفكير، حيث لا حسيب ولا مجلس أعلى للمحاسبة على الفساد والتهريب الفكري. فالنصب والاحتيال في مجال الثقافة والفكر هو واحد من الأسباب التي تدعوا عزوف المثقف عن الحضور، ولكنه وهو من برجعه العاجي يدرك للتفاهة سبعين إسما، وللتلاص المبتدا والخبر. إن فراقشة التفكير يعتقدون أن التقادم يساعد على التهرب الضريبي، لكن للتلاص نهاية لا بد منها.

شخصيا لم أعد أثق في رأي يمتاح من حالة الإيمائية المفرطة والتّلاص المزمن، من يا ترى يعيد الثقة والمصداقية لهذه العلوم؟ إنّني أفضل أن أستمع للأطفال وآرائهم النابعة ببراءة وشجاعة من خارج قوالب التلاص والتناص معا.

https://anbaaexpress.ma/vkrii

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى