آراءثقافة

رحيل شاعر ليس كالشعراء ..مظفر النواب إلى مثواه الأخير

في يوم الجمعة المشهود عند الساعة الثانية والنصف من شهر ماي 2022م، ترجّل شاعر ليس كالشعراء، أصدق لهجة، وهو في نظمه يستئنّ ناي القصيد، اعني الشاعر العربي العراقي ابن الهور، مظفر النواب، بمشفى الجامعة بالشارقة بعد مصارعة طويلة مع المرض.

تغنّى مظفر بكل مآسي العرب، مشى بشعره صادحا يحمل رسالة تظلّم لا تبرد أبدا. مظفّر معلمة من معالم العراق، ما أكثرها، حملت قصائده معالم المجد والمروءة، وبها فقط حاكم الانحطاط. إنّه ترجل حين استيقظت القدس التي زفّها يوما عروسا للعرب: القدس عروس عروبتكم.

طاف مظفر بشعره بين عواصم شتّى، انتقل من ليبيا ولم يجد له عاصمة تأويه يومها ماعدا الشّام حيث ضاقت به الدنيا ذرعا. كان قد استعاد بعضا من حيويته بالشام، سألته ذات مرة عن شعوره هناك، فأبدى بعضا من الانشراح، على الأقل لم يشارطوه على وجوده، ككائن لا يفتر عن الأنين. وهناك كتب مزيدا من الشعر، فعل ذلك في طقس وسعي يومي بين مقهى الهافانا والروضة. مظفر من الشعراء الذين يصعب تعويضهم، فوفاته ثلمة في مبنى القصيد وروح الشعر وصدق لهجته. رحل مظفر وقد كان في حالة انتظار، حين كتب مغاضبا:
فوالله لولا المجاذيفُ مكسورةٌ
ما تَرَكتُ عَلى الأَرضِ هذي السَفينة
إلهي أَعِنِّي لِأَهزِمَ هذي المجاذيفَ
من قَبلِ أَن يَهِنَ العَظمُ منّي ويَكسِرني الحِملُ
إنِّي أُعاهِدُ وجهَكَ ألّا أَعودَ ليابِسَةٍ يُمتَطىٰ النّاسُ فيها حَميراً ..

في حالة مظفر ليس أصدق الشعر أكذبه، فهناك فائض من مجازاتنا التي بها نتجاذب المعنى، بل أصدق الشعر في قصيد مظفر هو أصدقه وكفى. كلمة واحدة من مظفر تؤرّخ لأنين النكبة، تغسل دموع يتامى الخراب العربي. كيف تكون الحروف مثقلة بالمعنى الخالد، حين يتوارى كل الزّيف. سيرحل مظفر لتكتسب قصيدته رونقا آخر، سيمنحها رحيله لا محالة ولادة جديدة في هذا المنعطف الكبير. قصيدة مظفر بوصلة تحدد وجهة المشاعر الصادقة، وتخرق البحور والمقولات، لتعانق الحقيقة في المنحدر الوعر، في المتاهة اللانهائية للعناد العظيم الذي تمنحه إرادة الكلمة الحرّة. جفّ الهور ولم يجفّ ابنه البارّ الوفيّ للمعنى والقضية. ترحل عنّا روعة الكلمة الحرّة وبقاياها، كم هو مرعب هذا الآتي الذي يتهدد المعنى ويقوّض روح الشّعر، لما كان هذا الأخير في نشأته العربية نهرا يجري في صحراء توحي بالظّما. لقد ارتوى العربي الأوّل شعرا، فإذا ما انقرض الشعر فهل سيبقى العرب؟

رحيل مظفر والآتي المرعب

رحيل رمز شعري مثل مظفّر، ليس حدثا عابرا ثمّ ننسى، إنّه: عنوان نحيب
على أمّة ضاقت بمُكثه ذرعا كانت القصيدة وطنا
عزاء ومأوى
وجغرافيا بديلة
سالت فيها أودية
من حروف ثكلى
ما هو مؤلم، أنّ مظفر هو من الرعيل الذي بات يودّعنا زرافات، بينما لم تكتمل ملامح جيل نابت من مشاتل الزّيف، حيث الكلمة خاوية الوفاض، وحيث الحروف طائشة بين التخوم. مات الشعر قلبا وقالبا، لا هو يلامس الأحاسيس في مخدع الشعور، ولا هو ينتفض متحرّقا في وجه الرّداءة، سيمضي الشعر مع الفكر في موكب جنائزي ليترك للاّمعنى فسحة التّبضّع في سوق مشرعة على الدّجل.

مظفّر شاعر متمرّد، تفضحه حروفه الحارقة، لا يسكن خلف الحدث في لا مبالات احترفها المثقّف المزيّف، بل هو حاضر كالوجود نفسه على الرغم مما يحيط به من نسيان. حين يرحل جيل الكلمة الصادقة، علينا أن نخشى من صبيب الكلمات التي لا تنطوي على مضمون، ماعدا التكرار القاتل معرفيا وجماليا.

رأيته مرّة وهو يكتب شعرا..دنوت أكثر لعلي أميز ما بين تلك الخطوط، كأنها خريطة معقدة لجزيرة الكنز..يكتب أفقيا وعموديا..يمينا ويسارا..ما هذا؟ لم أفهم شيئا. لكنّه شاعر دمث ، لطيف، يكاد سمته يضللك، حتى ليتعذر أن تصدّق أنّ مظفّر هو نفسه صاحب هذه الملاحم من الاحتجاج. لكنك تستطيع أن تدرك عمق ذاك الأنين.

استدرجته مرّة للحديث خارج الشعر، وفعل ذلك، بعد أن قلت له: لقد توارت لوعة الشعر فينا فبات الشعر شكلا من الاحتراق الدّاخلي. تحدّثنا في مجال آخر يتعلّق بالعلوم الدّقيقة وعلاقتها بعلوم الإنسان والمجتمع. إخراج مظفر من حوض الشعر أشبه ما يكون بإخراج سمكة من حوض الماء، لذا كنت أشعر بالحرج، في حين لمست منه أنه وجد في ذلك استراحة شاعر.

أنين مظفّر جدول يجري منفردا، شاعر الدمعة والأسى، في زرازير البراري تُنحت مسالك الدموع ومنازل الوجع، يختلط الفصيح بالزجل، الوجه ينطق بكل اللغات :

جفنك جنح فراشة غض
وحجارة جفني وما غمض
يلتمشي بيه
وبه نبض
روحي على روحك تنسحن
حن بويه حن

شعر مظفر الزجلي إضافة تصيغ الألم بلهجة الهور الذي لا زال يحمل آلامه في مجرى نكبته. وأحبّ منه اللّهجي أكثر من الفصيح، لأنّ لغة الضّاد أضاعت عفويتها في ليل عربي يتجاهل بلاغته. هل رأيت معنى يفوق إحساسا: حن بويه حن؟!!
رحل مظفر في زمن عربي رمادي، في تردّي سبق أن وصفته كلماته حتى طفح الإحساس. كان مدركا أنّه سيمضي غريبا. ومهما أحاطت به أكاليل الورد وسارت في ركبه الجنائزي جموع غفيرة، فهو غريب غريب، وتلك الغربة التي باتت قدره، سابقة في قصيدة اللون الرمادي حين يقول:

هذي الحقيبة عادت وحدها وطني
ورحلة العمر عادت وحدها قدحي
أصابح الليل مطلوبا على أمل
أن لا أموت غريبا ميتة الشبح

وقف صامدا ضدّ الغزو، مدركا بحسّ الشاعر المرهف مآلات الخراب، بكلمات تحفر في الذّاكرة وترسم أفقا للتفكير، يرمي الجموع بشعر الحماسة، مذكّرا بقيم الفروسية، شاعر الحماسة لا يفتأ يمشي ساخرا فوق جٌثث الغازي المندحر. مظفر الذي ظلّ سائحا متأبّطا مزماره الشعري، جعل من شعره ديوانا لهزائم العرب، وكما في رائعة الأساطيل:

…إيه الأساطيل لا ترهبوها
قفوا لو عراة كما لو خلقتم
وسدوا المنافذ في وجهها
والقرى والسواحل والأرصفة
انسفوا ما استطعتم إليه الوصول
من الأجنبي المجازف واستبشروا العاصفة
مرحبا أيها العاصفة..
مرحبا…مرحبا…مرحبا أيها العاصفة
مرحبا أيها العاصفة…

صدقت لهجة مظفّر، وفي مواقع النزاع كان الشّعر يتدارك ما تجاهلته قرارات الأمم ولعبتها. في العراق الذي عاش النكبات، في فلسطين التي باتت ملح الألم كله، حاضرة في مدمع القصيد. غدت “القدس عروس عروبتكم” أيقونة انتفاضة شعرية لخّصت خيبات الأمل كلها. لم ينس مظفّر القدس وهو يرحل على وقع أنين القدس، كيف ينسى شيخا ما كان تشرّبه صبيّا؟! هذا العراق ككل العرب له من القدس وجع، ولأزقتها حنين، جفّ المداد ورفعت الصحف. الشعر كالتاريخ لا ينسى. وفي “السلخ الدولي وباب الأبجدية” جُماع بوح صادح لا مرية فيه:

عراقي هواه وميزة فينا الهوى
خبل
يدب العشق فينا في المهود
وتبدأ الرسل
ورغم تشردي
لا يعتريني بنخلة خجل
بلادي ما بها وسط
وأهلي ما بهم بخل
لقد أرضعت حب القدس
وائتلفت منابرها بقلبي

رحل مظفر والشعر العربي في أزمة، كما سياساته، كما اجتماعه، سوق مشرعة على كلّ صنوف اللاّمعنى، أخشى من هذا الرحيل، يرهبني الآتي، أين يا ترى نضع الكلمة، وأيّ نهر يغسل هذه الأحاسيس في مسغبة المعنى. يرعبني رحيلهم ، لأنّهم آخر من مارس النّضال بلهجة صادقة تخلد في الأجيال، لا حساب ولا صفقة ولا سمسرة في مهزلة الانحطاط البشري. هؤلاء يرحلون ويتركون خلفهم فراغا تنشأ فيه سوق عامرة من التّفاهة في القول والعمل.
ماذا عساي أن أقول؟ أنّى لي أن أرثي من كانت رؤيته تؤثّث لمهجر رشفت منه رشفة، زميل غربة إنّما خفّف عنها أنّها كانت منعطفا في الزمن الجميل والمكان الجميل، يوم كان للكلمة، للفكرة، لغواية الانتظار لحنا. سأقول:
إن كان لي رثاء
ففي مظفّر احترق الدّمع
وانكسر القصيد
يتوارى جسدا أنهكته الغربة
بعيدا هناك..
عن كلمات نُثرت فوق النعش
ورودا

وداعا مظفر..والرحيل لم يندمل

لن تعرف معدن الكلمات إن جهلت أو تجاهلت منبع هذا الاحتراق، فالشّعر ثورة عارمة ضدّ الاغتراب. ولكن مفارقة هذا التموجد السّائل والمضطرب، هي أن تقويض الاغتراب يقذف بك في الغربة؛ لا خيار. كان مظفّر النواب شاعرا يحبك الشعر على منوال الغربة؛ شريدا مستأنسا، كأنّه يرى في ذلك ثمن الخروج من طوق الاغتراب. إنّه شاعر يدري أحيانا ما يقول وأحيانا لا يدري ما يقول؛ وهناك بالضبط، فيما لا يدري ما يقول تكمن ذروة الشّعر النّوابي. في قصيد “البقاع البقاع”، يتدلّى الحزن من مآقي مظفّر، عابرا نحو الـ: ها هناك، حيث لا أفق ولا مرفأ، حيث يقول:

لم يعد في المحطة إلا الفوانيس خافتة
وخريف بعيد…بعيد
وتترك حزنك بين المقاعد ترجوه يسرق
تعطي لوجهك صمتا كعود ثقاب ندي

لست في نعي مظفّر آت بجديد، من لم ينعه لحظة فيض عبقره، لم يفعل شيئا. فلقد حمل تابوته في كلّ آه وشهيق، حروفه موكب جنائزي موصول عبر صبيب الأيّام. أنعاك في يومك الثالث بما أمكن، ولي في مظفر نعيّ آخر:

أنعى رحيل المعنى
فتشوا جيوب مظفر
عن ذلك المفتاح
كي لا يدفن
مع الجثمان بدار السلام
أخشى ردى الكلمات
أن ترحل معه كالظّلال
أقاموا للفقيد سرادقات
هل للكلمات عزاء
رحلت وما الرحيل بدعة
كيف الرحيل لراحل
أضناه التيه والغربة
الموت حقّ
فلا ضير من مجازي
والنعي حقّ
والحزن قاسي
رحيل كهذا ينكث الحنين
لفظ الفقيد أنفاسه
والمعنى
نعته عواصم العُرب
بلا كلل
ومن استوطنت في وجدانه..
كلمات مظفّر
بقايا رعيل ناذر
صقيل المعدن، لامع
صنع من وجع الغربة
قصائد هائجة
كالموج يلطم الصّخر
ثم يتشظّى
وأنين البواكي ورجع الصدى
احتراقُ الفؤاد ونزيفُ المآقي
ولوعة هائمة في اللاّمكان
وحنين ثلاثي الأبعاد

https://anbaaexpress.ma/QPk45

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى