آراءثقافة

دور الفقه الإسلامي في تعزيز مفهوم الدولة المدنية بأوروبا

ودور المالكية في تعزيز هذا المفهوم

” تأثير الروح الإنسانية والخلقية التي جاء بها الإسلام وتجسدت في فلسفته الفقهية وفضلها على أوروبا في العصر الوسيط، حيث يذكّر بما كانت تعانيه البشرية من بؤس وتعاسة، وتأثير .القواعد التشريعية الإسلامية على ذلك، وأثرها في القانون الدولي” أستاذ القانون الدولي في الجامعة الهولندية مشيل دي توب.

نعيش في عالم متعدد الأعراق والثقافات، عالم تجمعه عدة روابط لغوية وفكرية وثقافية ودينية وتاريخية وإنسانية وتعتبر هذه الأخيرة من أقوى الروابط بين مختلف مكونات المجتمع الإنساني، رابطة طالما كانت عبر مختلف مراحل الأزمنة التي مر بها المجتمع الإنساني مؤثرة من خلال العديد من الأحداث السياسية التي أثرت بشكل جلي وواضح على المنظومة الاجتماعية للنسيج الاجتماعي الإنساني وتبلورت فيما بعد ونضجت مع ظهور مفهوم الدولة المدنية التي تحكمها سيادة القانون على فترات متفاوتة، بالرغم من أنه كانت هناك محاولات حثيثة من قبل العديد من المفكرين والفلاسفة وبعض المصلحين الدينيين، سواء من جيل المتقدمين أو المتأخرين كأمثال ابن رشد، وابن خلدون، وابن حزم، والشاطبي، وجمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا… إلخ في النهوض بمفهوم الدولة المدنية معتمدين على قوانين وقواعد العدل والحق القرآنية وعلى تعاليم الرسول – صلى الله عليه وسلم – الرحموتية الكونية والإنسانية وعلى تجارب مختلف الشعوب التي ترجمت فلسفتها وقوانينها على يد العلماء المسلمون وحفظت في مكتبات بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس وقرطبة من خلال منهج ووعاء فكري علمي يعتمد على فقه الواقع والمقاصد.

وقد استطاع الغرب أن يستفيد من كتابات وتنظيرات العلماء المسلمون وأن يحتويها ويضيف إليها، وهذا راجع إلى التلاقح الثقافي والفكري في عملية أشبه بدورة إخصابية، وأنا أقصد هنا مدونات الفقه التي هي عبارة عن أحكام وقوانين وتشريعات واجتهادات تخضع للتبديل والتغيير حسب طبيعة المجتمع الثقافية.

ولابد من الإشارة إلى أن معظم القوانين الغربية هي مستمدة من الفقه الإسلامي خاصة الفقه المالكي باعتباره مدرسة فقهية مرنة عرفت كيف تتعامل مع النص على ضوء معطى الواقع، وأيضًا المدارس الفقهية الإسلامية الأخرى المعتبرة كالشافعية، والحنفية، والحنابلة المتقدمين، لكن كانت مدونات الفقه المالكي هي الأكثر انتشارًا وتأثيرًا في التشريعات الأوروبية المختلفة، وهذا التأثير ناتج عن اعتماد الدولة الأندلسية للمذهب المالكي الذي وجد له صدى واسعًا لدى العديد من ملوك أوروبا آنذاك، ولقد أشارت بعض المصادر التاريخية إلى أن ألفونسو التاسع ملك قشتالة كتب أول مدونة قانونية في أوروبا ونشرت بتعليقات لاتينية في ثلاثة مجلدات، إلى جانب ذلك استمد فريديريك الثاني ملك صقلية وإمبراطور  جرمانيا سنة 1250 ميلادي قوانينه من الفقه الإسلامي فيما يخص موضوع الضرائب المباشرة وغير المباشرة والهياكل العسكرية والرسوم الجمركية واحتكار الدولة للمعادن وبعض البضائع وأصبحت نموذجًا احتذت به أوروبا كلها إلى يومنا هذا، ولقد أشار المؤرخون الغربيون إلى أن الفضل يعود إلى دخول الفقه الإسلامي، خاصة المالكي إلى أوروبا على يد البابا سلفستر الثاني الذي أتقن العربية، وهضم علومها المختلفة إلى جانب دراسته في قرطبة فتأثر بفقه الامام مالك، واعتنى به عناية فائقة، وانكب على دراسته لسنوات عديدة، وعند عودته إلى بلاده فرنسا نشر هذا الفقه في أرجاء أوروبا، وقدمه على أنه قانون روماني جديد، وهكذا انتشر مذهب الإمام مالك في أوروبا انتشارًا واسعًا في العقود والمبايعات والأهلية وغيرها؛ مما يشمل الحياة العامة والخاصة حتى استقرت بين الأوروبيين كعرف، أو ما يسمى بالعادة الشفوية، وما لبثت بعد في صورة قوانين مقننة، خاصة القوانين الفرنسية التي كانت هي البذرة الأساسية لمختلف القوانين الأوروبية الحديثة التي طورتها بناءً على معطيات وحيثيات واقعية.

ولقد اكتمل عقد القوانين الأوروبية أيضًا من خلال مدونة نابليون بونابرت القانونية، والتي استمدها هذا الأخير من خلال المدونة الفقهية شرح الدردير على متن الخليل، وهو من أهم الكتب الفقهية على مذهب الإمام مالك التي تعالج قوانين العقود والالتزامات، وقد أخذ نابليون هذا الكتاب خلال الحملة الفرنسية على مصر، حيث كان هذا الكتاب الفقهي المدني من أهم الكتب التي كانت سببًا في نهضة الدولة الفرنسية، وكان له أثر كبير في التشريع المدني الأوروبي، وأضحت جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الديمقراطية المدنية التي ساهمت في بناء دولة القانون، بل حتى هذا التأثير الفقهي امتد إلى قوانين الزواج المدني، ولابد من الإشارة إلى أن المشرع الجزائري قد أصاب في تضمين الزواج المدني إلى جانب الزواج الشرعي في منظومته القانونية وترك الخيار للأفراد في عقد الزواج لانه في ظل التعقيدات الادارية والبيوقراطية التي يصطدم بها الكثير من الشباب ومن الشروط المجحفة والتعجيزية التي تفرض المهر الغالي وتوابعه فإن الزواج المدني يمكن من التقاء إرادتين كاملتين الأهلية في عقد الزواج لدى مصالح السجل المدني الرسمية التي تحفظ حقوق الطرفين وتكون الدولة هي الضامن، والحامي وهو أفضل بكثير من الزواج العرفي.

فأي قارئ متمكن أو باحث موضوعي يمكن له الوصول إلى أن القوانين المدنية الغربية عمومًا ما هي إلا نتاج لمرايا فقهية إسلامية مستمدة من مختلف المدارس خاصة المالكية لاعتبارات تاريخية وموضوعية، وأن الغرب استطاع أن يستفيد من العلوم القانونية المختلفة للشريعة الإسلامية التي تنبض بالمدنية أو بصيغة أخرى الديمقراطية التي هي آلية للتعامل مع الواقع، وهذا ما فهمه مفكرو أوروبا وفلاسفتهم انطلاقًا من التأثير الفقهي القانوني المدني، فالعلماء المسلمون العقلانيون فهموا أن اجتهاد الناس في فهم النص هي جزئية متأثرة بالواقع، بدليل أن القرآن يفسر إلى آخر الزمن، وهنا أتذكر قصة الإمام الشافعي مؤسس علم أصول الفقه الذي كان يتعامل مع النص على ضوء الواقع الذي يعيش فيه، فالشافعي انتقل من العراق إلى مصر، وكانت هناك مسائل أفتى بها في العراق خلاف ما أفتى بها في مصر، وهذا هو مقصد الشريعة في جانبها القانوني، حيث إن جوهر الإفتاء أو التشريع ليس هو نحت أقوال من خلال مجتمع معين، بل هو يتغير حسب طبيعة المجتمع، وهذا هو الفرق بين علماء الأمس وعلماء اليوم الذين اعتمدوا وسائل إفتائية تقتصر فقط على رؤيتهم القاصرة لواقعهم أو من خلال تقديسهم للأعرافهم المجتمعية التي تنافي الواقع وتنافي طبيعة النص التي تتغير حسب الظروف.

https://anbaaexpress.ma/xLwVR

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى