حاوره عبدالحي كريط
ناقد ومفكر وكاتب مغربي وأستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك – جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وهو كذلك منسق مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية التابع للكلية نفسها.
أصدر أول عمل نقدي له سنة 1989 حول “وظيفة الوصف في الرواية”،و شكل مشروعه النقدي، واحدا من أبرز المشروعات التي قامت على أسس إبستمولوجية تداولية وسيميائية، فقد اشتغل على مدار أكثر من ربع قرن في المنهج السيميائي السردي ساعيا إلى فتح السرديات العربية على احتمالات جديدة، تبحث في تشكل النص الروائي العربي لغة وبنية للكشف عن سماته الخطابية ورؤاه الدلالية، وقد أصدر خلال رحلته عديدا من المؤلفات التي جمعت بين التنظير والتطبيق، منها “آليات إنتاج النص الروائي”، و”المعنى وفرضيات الإنتاج: مقاربة سيميائية”، و”سيميائيات التظهير”، “البناء والدلالة في الرواية: مقاربة من منظور سيميائية السرد”، وغيرها
وبالإضافة إلى المؤلفات في مجالي السيميائيات والنقد الأدبي انفتح كذلك على الإبداع السردي، وأصدر في يناير 2019 سيرته الذاتية التي تحمل عنوان “رهاب متعدد” عن دار الفاصلة بطنجة، ضيفنا لهذا الحوار هو د عبداللطيف محفوظ لكي يتحدث لنا عن أبرز لمحات روايته الجديدة وادي اللبن وعن الدلالات السميائية التي جاءت بها الرواية وغيرها من المحاور ، وقد خلقت رواية “وادي اللبن” لكاتبها عبد اللطيف محفوظ، الجدل بحديثها عن التاريخ المنسي لمنطقة تيسة ضواحي مدينة فاس، ذلك أنه على الرغم من المعارك المتعددة التي شهدتها المنطقة لم تحظ من قبل التاريخ الرسمي بذكر يوازي أهميتها ، ولا أدل على ذلك من إغفال الاهتمام بمعركة وادي اللبن قياسا إلى الاهتمام الذي حظت به معركة وادي المخازن
وبعيدا عن الأحكام الجاهزة، والاندفاع الزائد حسب الناقد والكاتب المغربي يوسف الخيدر فقد قدم عبد اللطيف محفوظ رواية “وادي اللبن” بشكل يحترم ذكاء القارئ والمتلقي في تتبع متسلسل للأحداث، التي ستؤول في الأخير إلى محاكمة التاريخ على إهمال ما شهدته مناطق شتى لم تكن مركزا، ومن بينها منطقة تيسة التي كانت ميدانا لعدد من المعارك أهمها معركة وادي اللبن ضد العثمانيين سنة 1558.
وادي اللبن من الأعمال الأدبية الهامة التي حركت المياه الراكدة بالذاكرة التاريخية المغربية ماهي الأسباب والدوافع التي دفعتكم إلى تأليف هذه الرواية؟
ليست دوافع الكتابة تاريخية، أو محاولة لإعادة كتابة تاريخ مرحلة أو منطقة ما؛ أولاً، لأنني لست مؤرخا، ثانيا لأن إعادة كتابة التاريخ، أو كتابة تاريخِ يُعَدُّ منسيا، يتطلب توفر شروط متعددة من أهمها ظهور وثائق جديدة كانت مخفية عنوة، أو عفويا في خزانات خاصة، أو ظهور حقائق جديدة متولدة عن حفريات أو لقى أثرية… إن كل هذه الشروط غير متوفرة لدي، فضلا عن كونها لم تكن أبدا موضوع اهتمامي، لذلك أنفي نفيا قاطعا أن أتكون أهداف الرواية – الإيديولوجية على الأقل – مرتبطة بهذا المنحى، ثانيا، أنا في الأصل مهتم بالنظريات السردية، وأزعم أنني قدمت استبدالا نظريا، حاول توصيف آليات إنتاج النص الروائي – الذي أَعُدُّهُ نموذجيا – وآليات توصيف تلقيه. هذا البناء النظري الذي ضمنته كتابي (آليات إنتاج النص الروائي)، يوضح أن المرحلة الأولى في إنتاج الرواية هي ما سميته الدليل – التفكري، وهو، بتبسيط محايد للتجريد النظري، الفكرة المجردة حول الانسان ومحيطه، والتي هي في العمق إجابة عن سؤال راهن. وهذه الفكرة تتطلب، كي تجسد وفق قواعد جنس الرواية، سلسلة من التحولات الاستعارية التي وصفتها بدقة في كتابي النظري (آليات إنتاج النص)، ووضحتها إجرائيا في كتابي التاليين (المعنى وفرضيات الإنتاج) و(سيميائيات التظهير)، ولهذا أؤكد أن التمظهر السردي الذي يستعيد ذاكرة منطقة فاس ونواحيها وتاريخها في رواية وادي اللبن، ليس سوى استعارةٍ ضروريةٍ لتمرير الفكرة المجردة، ولا علاقة له بالضرورة بالتاريخ الفعلي…
ماهي المحددات المنهجية التاريخية التي إعتمدتها في إخراج هذا العمل الروائي؟
لعل الإصرار على أنها تاريخية ناتج عن شكل الاستعارة، وليس استجابة للتأمل في المستعارله الذي يجسد الدليل التفكري الذي لامس بعض من كتبوا عن رواية وادي اللبن عددا من مكوناته الهامة، كما هو الحال مع دراسة الناقد العميق محمد بوعزة الذي كشف التناقض المبنين تصوريا وتجريديا بين الذاكرة الفردية المشكلة لوعي معين بالواقع الراهن المتأثر بحساسية الذاكرة القريبة، والذاكرة الشعبية الجمعية الحاملة لتصورات عن ماض أغلبه مؤسطر، ومع دراسة الأستاذ السعيد لبيب – الباحث في مجال الفلسفة المعاصرة – الذي وصف الرواية بالاحتفاء بجمالية النقصان الذي يتبدى في كل الاتجاهات، ويغمر شغف القراءة التي تتفطن لأبعاد خفية لكنها متضافرة ومتراكبة من البداية إلى النهاية، وتتمثل في تجسير فريد لفلسفة الشك التي تفرز اللا معنى وتكشفه، وتؤزم التلاحم الهوياتي، وتشكك في المعارف، بدءا من معرفة الذات بذاتها، إلى معرفتها بالمحيطين بها، وصولا إلى تأزيم علاقتها بأساطيرها وتاريخها… والأستاذ مراد لمام الذي عدها رواية سيرية تجلي البحث المأزوم عن هوية ذاتية تتصالح مع هويات غيرية من طريق التصادم والالتحام بين السيري والاجتماعي. ومن الواضح أن هؤلاء النقاد – الذين أعادوا قراءتها من أجل الكتابة عنها – لم يولو التاريخ أي اهتمام. لقد اكتشفوا، لا ريب، أنه مجرد استعارة.
لكن واستجابة لطبيعة سؤالك، أرى أنه إذا كان هناك من مسوغ للحديث عن منهجية للتعامل مع التاريخ، فهي كامنة في توظيفه بعده مادة سردية تخدم فكرة لا علاقة لها بالتاريخ. ولكن القراءة الأفقية تفرض أن يدرك هذا التاريخ في علاقته بالحقيقة التاريخية التي سجلتها المراجع التاريخية. تلك، إذن، هي حدود علاقة الكتابة بالتاريخ في وادي اللبن.
مع ذلك حبذا لو حدثتنا عن الصعوبات التي واجهتك في تنسيب التاريخ المستعار منه؟
أحيانا يكون المستعار منه أكثر إثارة للاهتمام، وهذا أمر لا يخص الكاتب، بالضرورة، وإنما هو من صميم قدرات المتلقي وعزمه، حيث توجد إمكانية عَدِّهِ جوهرا للنص ومناطا لدلالته، وفي هذه الحالة تكون النوايا غير القصدية للكاتب هي التي تثير القارئ، فيحصل اختلاف الآفاق، ويحور النص – جراء ذلك – وفق ما يعتقده القارئ. والخطير في هذا الشكل من التلقي، أنه قد يغفل قوة النص، فيصير مبتذلا، محروما من بعد تفكري، ومنتميا لثرثرات بلا عدد تستند إلى تواريخ غير موجهة أو موجهة بشكل يراه البعض محرفا… ومن المؤسف أن نجد مجموعة من التلقيات المتعجلة تسقط في هذا النوع من التلقي، خصوصا منها تلك المحكومة بالزمن، مثل قراءات لجن الجوائز التي أحيانا – تحت ضغط الكثرة المفرطة والاستعجال الظالم- تظلم النصوص العميقة التي تستدعي التفكر والمعرفة الخلفية المناسبة. وهذا فعلا ما أريد أن أنبه إليه، دون أن أبخس ملكات القارئ وقدراته، أو أنزه قدرات تشخيص الكاتب… لكن تماشيا مع طبيعة سؤالك، وبانسجام، مع ما أراه – بِعَدِّي كاتبَ الروايةِ – أؤكد أن التاريخ قد استدعي، فيها، فقط، ليؤدي دورا عامليا وموضوعاتيا ( وفق مصطلحات سيميائيات السرد). وقد كلفني، كي يكون إذا نظر إليه من هذا المنظور الأفقي، قراءة أهم كتب تاريخ المغرب من الدولة الإدريسية إلى العهد الحالي. لكن على الرغم من هذه القراءة الدقيقة لم أستثمر في إنجاز الاستعارة إلا ما يخدم الرواية، ويشكل محفلا محايثا لبلورة جزء من متضمنات دليلها التفكري. ومن المؤكد، أيضا، أن الصعوبة كامنة في التوليف والانتقاء وسط آلاف الأحداث عبر قرون لتمرير جزء من فكرة عن الراهن التصوري والفكري للذات الفردية والجماعية وسط هذا التشتت العظيم الذي تعيشه الأفكار حول مكونات الهوية العربية الإسلامية…
ماهي أبرز شخصيات رواية وادي اللبن؟
تختلف التصورات النظرية حول الشخصية الروائية، وذلك على الرغم من كونها كلها متأثرة بتصور أرسطو الذي يعدها حوامل دلالية، فإذا كانت تشكل مكونا أساسا في التصور البوطيقي فإنها في التصور السيميائي ليست سوى ممثلات لعوامل مجردة. ولأنني أنحاز إلى التصور النظري الأخير، فإن إجابتي ستكون مؤطرة بمحتواها النظري مع الاحتفاظ بذكرها من أجل الارتباط بسياق الحوار.
إن أهم شخصيات رسمتها هي التي تمثل عاملي الذات والموضوع بالمعنى الذي حدده غريماس. يتجلى ممثل عامل الذات في شخصيات متعددة كلها ذات تكوين أكاديمي متخصص، كمال أستاذ جامعي – وقد ظن أغلب القراء أنه يعكس سيرتي الذاتية في الرواية – ومصطفى الذي يجسد الأكاديمي الذي خانه الواقع، فتحولت معارفه إلى متلاشيات، وجلال الباحث الأكاديمي في تخصص التاريخ. وكل هؤلاء الممثلين يشكون في معرفتهم وحقيقة مراجعها وصعوبة تشكيل أفكار ثابتة ورصينة حولها. إنهم جميعهم يوجدون في فضاء تصوري ناتج عن حقائق خارجية موسومة بوضع (بين بين)، يشاكل فضاء العتبة كما حدده باختين. أما عامل موضوع برنامج البحث الخاص بتلك الذات، يتجلى في شخصيتين، هما الفراط وأغراب. ومن المؤكد أن الباحث الناقد، الذي يعيد قراءة الرواية، لن يجد صعوبة في ربط دلالة الاسمين بسياق يساهم في تجسيد الدلالة الدينامية للدليل التفكري، فالفراط ينطوي على مبالغة في الفرط الذي له معاني شتى تتصل بالسبق إلى الماء، والتسرع في الحكم والفعل، وعدم الروية، والمجازفة بالرأي، والغرق في الضياع والفلاح في التضييع… وقد صور، في الرواية، دائم التجول بقرب الماء والنهر الدالين على الزمن… وأغراب الذي له علاقات سيميائية واضحة بالفعل أغرب الدال على الخفاء والغموض في القول والفكر… وهما معا يجسدان جزءا من الاستعارة التي تدعم الدليل التفكري المؤسس للرواية. ومن الواضح أنهما يُوَصِّفَانِ وضع الفكر إزاء التاريخ والواقع…
أما الشخصيات الأكثر أهمية فمجردة، تتصل بالتصور حول الذات والعالم…
كيف استطعتم بلورة هذا العمل الروائي التاريخي بعيدا عن النمط الإيديولوجي التاريخي؟ أو بصيغة أخرى التاريخ في فخ الايديوجيا
كما أكدت لك سابقا، أنا أكتب الرواية انطلاقا من وعي نظري، وجانبه الذي يلائم سؤالك يتصل بكون الرواية إجابة عن سؤال راهن ومهيمن، ولعله في ما أتصور إجابة عن بعض التصورات التي يروج لها منذ عقود، والتي تتصل بتجديد الهوية بناء على قراءة جديدة للتاريخ… بناء على تصوري، وأيضا على شكل استحضار التاريخ بعده استعارة وحسب، فإنني لم أكتب رواية تاريخية، وإنما كتبت رواية واقعية رمزية توظف التاريخ دون أن يكون موضوعا لها.
مامدى انعكاس الحقيقة التاريخية على التخييل الروائي في وادي اللبن؟
من الواضح أن توظيف التاريخ في رواية وادي اللبن يجسد هلامية البحث عن حقيقة راهنة من طريق اجتزاء أحداث تاريخية، وإهمال وظيفتها في نسقها الحقيقي. ومن الواضح، أيضا، أن توظيفه في الرواية مدعم لهلامية البحث عن حقيقة قريبة الوقوع. لقد حاولت الرواية أن تحدث تصاديا بين التاريخ النظري والتاريخ الأصلي. ونتج عن ذلك أنهما معا ساهما في بناء حقيقة واقعية توصف شكل البحث عن محاولات خلخلة الهويات…
كلمة أخيرة
أشكرك على الاهتمام وأتمنى أن يكون الحوار مدخلا للتفكير في موضوع الرواية المجرد.
حوار عميق الصعب فيه محاورة كاتب يجمع بين النظرية والتطبيق بين النقد والإبداع بقدر إمكانية تصنيف رواية واد اللبن في إطار الرواية التاريخية بقدر إصرار كاتبها على غير ذلك حوار ماتع رغم اقتضابه لكنه حافل بما يفيد في استغوار المتن الروائي هي الحوارات العميقة لما يكون المحاور بالكسر والمحاور بالفتح على هذا القدر من التمكن من ناصية صنعتهما بوركت أستاذ عبد الحي