في اللقاء الذي نظمته كلية الآداب والعلوم الإنسانية-بنمسيك، بالدار البيضاء، احتفاء بأعمال الفيلسوف المغربي الراحل د. محمد سبيلا، تحت إشراف عمادة الكلية في شخص العميد عبد القادر كنكاي، وتنسيق د. عبد الإله بلقزيز، كانت مناسبة للخوض في مستوى آخر من مستويات التفكير، في أفق يسمح بالتحليق، أجبت داعي اللقاء، فذهبت قلقا وعدت في صحّة جيدة، مما يؤكّد على أنّ الفلسفة هي شفاء، هناك فقط يتراجع منسوب الكآبة، حتى حينما يتعلّق الأمر بالعدمية..
حاولت أن أتناول الأيديولوجيا كغواية ووظيفة، وهنا أوضحت بأنّنا في المغرب أنهينا هذه المعضلة، حين صارت بمثابة تعميد، لا يدخل هذا القلق من لم يعرف للأيديولوجيا سبعين وجها. وجدتها مناسبة لتحيين القول في الأيديولوجيا غواية ووظيفة، لأنّه النقاش الذي ينبغي أن لا ينتهي. المدرسة الفلسفية المغربية حسمت منذ عشرات السنين مع هذه الأزمة، وأنتجت نصوصا حول الأيديولوجيا في وقت مبكّر، أقول مبكّرا بلحاظ ذروتها أو استفحالها بتعبير محمد سبيلا نفسه. ماذا يا ترى في وسعي أن أضيف على ما سبق وتناولته في خرائط أيديولوجيا ممزقة أو ما بعد المفاهيم ونصوص أخرى؟ بلى، ثمة جديد سأتحدث عن جوانب منه بينما تفصيله في الورقة التي سأطورها على هامش هذا اللّقاء.
د. نور الدين أفاية أصاب الحقيقة حينما تناول خمس جبهات تفرض نفسها على كلّ مثقف مغربي سواء انتمى إلى حقل الفلسفة أو غيرها من الحقول. وأرى أهمية ذلك، لأنّ التفكير هنا، ما عدا ما يتعلق بالمزيفيين، هو تفكير جدّي، يجيب عن تحدّيات تفرض كلّ هذا التعقيد. هذه الجبهات قد يخوض فيها معاركه كلها، وهذا ما يصنع منه عنوان تحدي كبير، وهناك من يواجهها في حقل دون آخر، وهنا التحدي يكون بحسبه. أما تلك الجبهات فهي خمسة:
– الجبهة الأولى تتعلق بسؤال الهوية الشخصية باعتباره منتجا للمعنى
-الجبهة الثانية تتعلق بمساءلة التراث وثقل تاريخيته ورمزيته
-الجبهة الثالثة تتعلق بتصفية الحساب مع المقولات التي رسخها الفكر الكولونيالي والاستشراقي.
– الجبهة الرابعة تتعلق بالمشاركة في سيرورة التحديث الفكري والسياسي في بلده سواء بالتدريس والتأليف أو الإلتزام العملي.
– الجبهة الخامسة تتعلق بمواكبة تاريخ الأفكار ومستجدات المعرفة الكونية.
هذه الجبهات هي التي تفرض نفسها على المثقف المغربي، وتؤطر محاولاته. وأرى أنّ منها ما هو مشترك لدى ساحات عديدة، لكنها تجتمع بشكل فريد في همّ وانشغال المغربي. قد أضيف إليها تحدّي الجغرافيا والمتاخمة. وأيّا كان الأمر، فها هنا تكمن إدارة الأيديولوجيا نشأة وانحطاطا.
الفكرة الأساسية التي أفتتحت بها الحديث عن الراحل سبيلا، هو كونه كما تمت الإشارة إليه، قد حسم مع موضوع ما بعد الحداثة، فهو على منحى ألان تورين وهابرماز، يرى أنّ الحداثة تملك إمكانيات هائلة لنقد نفسها بنفسها، وبذلك وضع حدّا للفكر الجنائزي كما أشار أحد المتدخلين، والذي يسميه سبيلا، فكر: موت الميتافيزقا، موت النص، موت الأيديولوجيا، موت..موت..والحقّ أن محمد سبيلا ساعدني على الحسم أيضا في غواية المابعد-حداثة، ومن هنا مشروع: في الإمكان الحداثي والإمكان الإسلامي، كعنوان عن البحث في الممكن الثّاوي في عمق الحداثة بوصفها انبعاثا جعل العقل والنقد والتحرر في مبدئيته أفقا للتفكير والعيش، بعيدا عن مظاهر الحداثة وتداعيات من تنتجه من حاجيات وعوارض غير جوهرها الذي تعرّض بنفسه لمعيقات تستدعي استمرارية النقد الذّاتي. إنّ محمد سبيلا في نظري ليس ما بعد حداثيا، ولا حتى حداثيا من دون شروط، بل هو بهذا المعنى قد أسميه بين-حداثي(inter-moderniste)، أي باحث في إمكانات الحداثة وتخومها والمفكر فيه منها واللاّمفكر فيه من مستبعداتها.
تعاطى سبيلا مع الأيديولوجيا باعتبارها ظاهرة قديمة، إن أخذناه من حيث أنّها نظاما من المعرفة الوثوقية والعقائد التي تفرض على حاملها قدرا من التضحية، لكن المقصود هنا ارتباطها مع المنعطف الحداثي، لا سيما القرن الثامن عشر فما فوق، عصر استفحال الأيديولوجيا أو بتعبير ايكن عصر الأيديولوجيا. الأيديولوجيا كما خبرها سبيلا في أطروحته هي أيضا نابعة من تلك التي سمّاها بالحوائح العقائدية. ولعبارة حوائج محمولا خفيا من المعنى بحسب القوة التداولية لعبارة حوائج. فقد كان بإمكانه التعبير بالإكراهات والضرورات(les nécessités)، غير أنه اختار عبارة حوائج. لو اطلع عربي مصري أو شامي أو من أي بلد عربي آخر على العبارة المذكورة، فسيفهم منها ما يجود به المعجم اللفظي من معنى الجوائج، لكن المغربي يفهم منها الحوائج، والحويجات إن شئت التصغير والتلغيز، كما يمكن أن تذهب هذه العبارة عبر الانزياح التداولي إلى اللّعيبات: ذيك الحويجات، وذيك اللعيبات، وأعتقد أن الأيديولوجيا فيها شيء من ذلك، فهي جزء من ممارسة الكائن اللعبي(homo-ludens) عند هويزنغا، كائن لاعب فإذا اختلّ صار لعوبا، أي لاعبا مفرطا، يكمن اعتداله في أن يكون كائنا وسطا، كائن يمارس وثوقيته بقواعد لعبية مشروعة ككل صنوف اللعب التعاقدي الجاد. لا بد من استحضار الفعل التعاقدي_التعاقلي في تدبير معضلة الأيديولوجيا.
الأيديولوجيا لدى سبيلا تختارك قبل أن تختارها، وحين تبرد وينضج حاملها قد يكون ذلك متأخرا. لكن حسنا أنه استنادا لمدارك أنثربولوجيين كثر سواء ميدانيين كليفي ستراوس أو تنظيريين سياسيين كدوفرجي وغيرهما، ربط بين الأيديولوجيا والسحر أو الأسطورة. أي أنّ سبيلا التفت إلى وهم الحداثة نفسها حين اعتبرت عصرها عصر نهاية الوثوقيات والأساطير، عصر العقلانية الخالصة، بل إنّ الأيديولوجيا تلعب في المجتمع الحديث ما لعبته الأسطورة والسحر في المجتمع البدائي.
إنّ الظاهرة الأيديولوجيا التي استفحلت منذ القرن التاسع عشر ليست جديدة في جوهرها، ولكنها منعطف نابع في نظري من أمرين:
الأول: أنّ الأيديولوجيا التي هي أشمل وأنفذ وأقوى وأبقى من المعرفة، هي في الوقت نفسه حصيلة تفاعل مع ثورات معرفية وعلمية كبرى، فهي تستمد استفحالها ذلك من خلال المنعطف المعرفي الكبير للقرن الثامن عشر فما فوق، عصر ازدهار النظرية الاجتماعية.
الثاني: هو ثورة الوسائط، الصحافة، النشر، المذياع. إنّني أرى في المذياع ما هو أقوى من التلفزيون، إنه آلة سحرية بامتياز. الإنصات غير الرؤية. في الرؤية تلعب الصورة دورا سحريا فائقا لا محالة، لكنها تنتهي بتراجع الخيال، تربي المتلقي على الكسل المخيالي، خلافا للمذياع، الذي يحمل صوتا ويترك لك وللخيال واسع النّظر. الحاضر/ الغائب. اعتمدت الثورات على المذياع، على الصوت الأسطوري الذي يعزز الوظيفة المشتركة للأيديولوجيا والأسطورة، اليوتوبيا التي خلافا لما سنجده مع كارل مانهايم وبول ريكور، تلعبان الدور نفسه.
يبني ميشيل فوكو على تجاذب ما هو صناعة بشرية وما هو منتج لهذه الصناعة، بين البنية بوصفها ما صنعه الإنسان وفرض نفسه بقوة نظام الخطاب وفكرة التجاوز التاريخي. وعلى المبنى نفسه يذهب جيل دولوز الذي يراهن على عدم الاكتمال، إنها الصيرورة التي تعكس الحقيقة عند هيغل نفسه ما بين الوجود والعدم. إنّ البحث عن الحقيقة خارج الصيرورة وخارج التخوم واللاّاكتمال، طريق يفضي إلى الاغتراب والوعي الشقي.
ليست الأيديولوجيا في نظري هي المحدد الأسمى من منظور اجتماعي كما ذهب ألتوسير، بل هي محدد أنطولوجي، لأنّ الكائن لا يظفر بتموجده خارج المحدد الأيديولوجي. إن الوضعية التوتاليتارية للأيديولوجية تجعلها تبدو كغازي للمعرفة، بينما هناك الوجه الآخر، أي كيف تخترق المعرفة المكللة برغبتها الجامحة في موقلة الوجود والاجتماع لاختراق الأيديولوجيا باعتبارها في نظري أكثر تفلّتا من سجن المنطق والأكثر قدرة على استعماله في صناعة الزّيف. ولعلها مفارقة أن نقول بأنّ الزّيف هو ليس فقط جزء من وظيفة الأيديولوجيا كما لدى ريكور، بل الزيف والتوهيم هنا قد يكون طريقا لإعادة تشكيل الواقع خارج إكراهات عدم الاكتمال. هنا سأمضي بالنقاش إلى ذروة مفارقته: كيف تستطيع الأيديولوجيا كقوة توهيمية لإنقاذنا من قصور التّلقّي، أي كيف تستطيع أن تؤهلنا لرؤية الواقع كما هو بناء على التوهيم نفسه؟؟؟
أضرب أمثلة بأخطاء بارالاكس، التي أصبحت مفيدة في البعد الاستيثيقي، في تمكين المشاهد من رؤية الواقع ثلاثي الأبعاد من خلال التوهيم.
الصورة في التلفزيون ليس متواصلة، بل هي متقطعة، والوهم كله يكمن هنا في الخداع البصري، لكن لا غنى عن هذا الخداع لنقل الصورة كما هي في الواقع. ففي النهاية أنت ترى الصورة متواصلة على الشاشة كما لو أنها الواقع. فلو صدقت الشاشة كذبت، ولو كذبت صدقت، وهذا حظّها من مفارقة كذاب كريت.
إنني أبني إلحاحية الأيديولوجيا على كونها حاجة الإنسان إلى الوهم. ودعني أشرح أكثر، لأنّ منشأ هذه الحاجة هو الفجوة بين المتلقّي والواقع. قصور المتلقي عن الاستيعاب المباشر للواقع، إلاّ أن ينقل إليه عبر تعقيدات كثيرة، كما نشاهد اليوم بخصوص الصورة، التي تستند إلى مصفوفة (matrice) تقوم على السيستم الثنائي(biniaire)=(1,0). من يدرك القصة الكاملة للتردد(frequence)سيدرك الحكاية كلها. هذا التردد الكامن في منطق الأشياء كلها نسبة للرؤية؛ فهو موجود في الفيزياء والكيمياء والرياضيات ومجالات كثيرة. تأمّل نفسك وأنت تتجه بسيارتك وأنت منشغل بوهم أنّ كل ما في هذه السيارة مثير، هنا أيديولوجيا التمثّل بالظواهر الخادعة_الماتعة، لكن هذه السيارة الفارهة هي من الداخل عبارة عن كل هذا التعقيد الذي يعمل ضمن نظام متكامل ليحقق الحركة. إنّك تتحرك فوق كتلة من الزيوت والشحوم والانفجارات.
ويمكن أن تتصور في المجال الحيوي، أنت وحقيقته، تختفي خلف بدلة راقية وربطة عنق مزركشة، بجملة من المظاهر والرموز، لكنك كتلة من شحم ولحم، أمعاء وخلايا وعمليات عصبية وما شابه ذلك، أنت هذا الواقع. ترى، كم أنّ الوهم والأيديولوجيا تساهم في إخفاء الواقع وخلع مظاهر جمالية على كائن يقوم على كل هذه العمليات التي ينطوي عليها وقد لا يعيها لأنها تعمل وفق سيستيم عصبي لا إرادي. نحن إذن نظهر لأنفسها وننظر إلى العالم من خلال منطق الإشارة، لنتحدث عن التناسب بين الإشارة والجهد الكهربائي. التغييرات في الترددات له علاقة بتوصيل الإشارات. كل مكونات الواقع من صورة أو صوت ينتقل كإشارة ويرتهن لشدّة التّيار. كم نحن مخدوعون في رؤية الواقع، لكنّ هذا يعود إلى تعقيد نسق التلقي والاستقبال الذي أعبر عنه بقصور المتلقّي عن رؤية الواقع بعيدا عن النسق الإشاري وخداعه. هذا واقع في مجال الإلكترونيات التماثلية في التعامل مع الإشارات، فما بالك بالرمزي والذهني؟ إنّ الأيديولوجيا شمولية بطبيعتها، إنها ماثلة في العلوم وحتى في الرياضيات يمكننا الوقوف على مستويات من التدليج الماكر خلف التجريد.
الأيديولوجيا بما أنها شمولية هي أوسع وأسرع من المعرفة المقيدة بالكاطيغورياس، قد تلعب دورا كبيرا في التحفيز وقلب النموذج المعرفي. إنّ الثورات العلمية بالمعنى الباراديغمي عند كون أو برامج البحث عند لاكاطوس، يمكن أن تفهم بشكل أكثر إيجابية من خلال آنارشية فيرابند، أي الانقلاب الذي يلعب فيه المستبعد واللاّمقولي دورا في تقويض النموذج. يعزى الاكتشاف العلمي وتطوره للأخطاء، والاختراقات، وتقويض المقاولة العلمية المدججة بالمقولات، إن العلم يتقدم بهذه الثورات الباراديغمية بل بهذه الآنارشية المناهضة للمنهج المتسلط على البحث العلمي، من حيث انغلاقه. الأيديولوجيا تبدو هنا أكثر انفتاحا من العلم نفسه، وأحيانا هي تخطّئ العلم، وهنا تتمادى وتتجرّأ وتفتح أفقا آخر للتفكير العلمي خارج الإطار. إنّ الحدس الذي يحضر لماما في العلم، المقموع بشراسة الكاطيغورياس، هو كامن في الأيديولوجيا وله مساحة للفعل أكبر.
كثيرة هي القضايا التي سأتابع الحديث فيها بتفصيل في الورقة، لأنني أرى أنّ الأيديولوجيا هي موضوع راهني بامتياز، ولأنّ الوعي بها هو الذي يضعنا في قلب الصيرورة نفسها، لواقع غير مكتمل وشديد التعقيد، ولنحو من التموجد خاضع هو الآخر لزيف الأيديولوجيا بمستوييه: النافع والمُضلِّل.
القضية بالغة الخطورة، وتتطلب تعايشا مع الزيف تماما كما نتعايش مع الفطريات والباكثيريا، على أن تصعيد الوعي بالأيديولوجيا هو كتصعيد الوعي الذي يتيح لنا التمييز بين الباكثيريا النافعة والباكثريا الخبثة. فمن الزيف ما نفع ومن الزيف ما قتل.