آراءسياسة

النسق الجيوسياسي العالمي: الغرب وما تبقى من العالم

منذ أن انشغلت بالأزمة الجزائرية المغربية، واشتغلت عليها، وصلت إلى القناعة التالية: ليس هناك أزمة بين البلدين، بل هناك أزمة يعاني منها كل بلد على حدة وانعكست على علاقتهما، بمعنى أن ما يسمى بالأزمة الجزائرية المغربية مجرد عرض من أعراض مرضية عديدة ناجمة عن أزمة عميقة  داخل كل منهما، وأن العلاج السياسي يبدأ من داخل كل دولة، وأن البلد الذي يعرف كيف يعالج أمراضه الداخلية هو من سيضطلع بدور ريادي ليس على مستوى المنطقة المغاربية فحسب، بل على مستويات عدة، إقليمية وأممية.

في المقال السابق “العلاقة المغربية الجزائرية في ضوء نظرية الفراغ”، طرحت وجهة نظر مفادها أن النسق الجيوسياسي العالمي في علاقته بالأزمة الجزائرية المغربية، لن يسمح لأي طرف أن يستقوي على الآخر، من منطلق أن هذا النسق ينطوي على خاصية تدمير كل ما يتناقض مع القيم التي نشأ عليها، وهو في ذات الوقت مفتوح على “الشعوب” التي تتوفر على قابلية الاندماج فيه بناء على احترامها لجملة من المعايير والقيم السياسية.

النسق الجيوسياسي العالمي مفهوم  صغته لأول مرة في المقال السابق محاولا فهم الانسداد الدبلوماسي بين البلدين من جهة وعلاقتهما بالقوى العظمى من جهة ثانية. النسق الجيوسياسي العالمي له صلة بمفهوم “الغرب” ويختلف عنه من حيث أن الثاني هو جزء منه وجوهره في آن.

فهذا النسق نشأ منذ نشأة الدولة الحديثة “دولة الأمة المدنية”، منذ حوالي قرنين ونصف، غير أن جذوره تعود إلى أربعة قرون في سياق عصر النهضة والنزعة الإنسية والإصلاحات الدينية والسياسية، أي في سياق تراجع البراديغما الكنسية إزاء البراديغما الوضعية. مع نهاية الحرب الباردة اتضحت ملامح النسق الجيوسياسي العالمي في سياق العولمة، واتضحت معه الفجوة بين فضائين جيوسياسين متناقضين: فضاء السلام وفضاء الفوضى.

مع نهاية القرن الماضي، ظهرت كلمات ذات صلة بمصطلحي “الجيوسياسة” و”الجيواستراتيجيا”، من ضمنها: “الجيواقتصاد” و”الجيوثقافة”. ونسمع أحيانًا أيضًا بـ”الجيوتاريخ”. وقد تزامن تعميم هذه المصطلحات مع تكاثر تحليلات ظاهرة العولمة في جميع حقول العلوم السياسية والاجتماعية، مما استدعى الأخذ في الحسبان عدم تجانسية الفضاء العالمي. هنا، أصبحت نظرية التحديث محل مساءلة. في الواقع، فقد منح الحديثون (les Modernes) الامتياز للزمان وقللوا من قيمة الفضاء/المكان لاقتناعهم بحتمية تجانس هذا الأخير، وبالتالي، لاقتناعهم بعدم اكتراثه بتطور العالم. كل ما كان عليهم فعله هو انتظار منجزات التقدم البشري التي جعلت “حالة التمدد الفضائي/المكاني «spatialité» صامتة، على حد تعبير إدوارد سوجا (Edward W. Soja) (نحو جيوبوليتيكا نسقية، (جيرار دوسوي).

منذ بضعة أعوام لاحظ محللون أن نهاية علاقات شرق-غرب أدت إلى تغيير جذري في النسق الأممي (système international)، والذي كان، من الواضح، ثنائي القطب حتى ذلك الحين. لكن مشروع النظام الأممي الجديد (Nouvel ordre international) الذي أراده الرئيس بوش الأب لم يتحقق. بعد ربع قرن، سادت حالة من عدم اليقين والمخاطر غير المتوقعة.

ظلت أمريكا ضعيفة بشكل دائم. الاتحاد الأوروبي لم يتحول إلى قوة سياسية، بينما مشروعه الفيدرالي كما لو أنه اختفى. وقد أظهرت روسيا قدرة على الإرباك أكثر من قدرتها على التعاون. تواصل الصين صعودها الاقتصادي المدهش، لكنها ليست بأي حال من الأحوال قوة سياسية كبرى. أما بالنسبة للبلدان الناشئة، فهي تعاني أو ستواجه نقاط ضعف داخلية؛ ومعظمها لا يشكل حتى أقطابًا اقتصادية.

في سياق العولمة، وفي سياق تطور عوامل ووسائط التواصل الجدلي بين المجتمعات والثقافات، ظل هذا النسق الجيوسياسي يتمدد بحسب الظروف التي تسمح له بالتمدد، أو يتقلص تحت ضغط الأنساق المضادة التي تنشط في مقاومته كلما توفرت لها عوامل المقاومة؛ وهي أنساق من مخلفات البراديغما القديمة (الثيوقراطية)، أو المستحدثة من أيديولوجيات العصر الحديث.

وما يعيشه العالم اليوم من فوضى في عدد من البلدان ليس سوى تجل للتفاعل بين هذا النسق الجيوسياسي العالمي والأنساق المضادة. بل حتى البلدان التي أسست لهذا النسق تدفع ضريبة هذا التحول. بمعنى آخر، يمر النسق الجيوسياسي العالمي بمحطة جديدة في صدامه مع الأيديولوجيا من داخله ومن خارجه. أما المؤسسات والقوانين الأممية التي أنتجها هذا النسق، أصبحت محل نقد ومراجعة، وستخضع إلى التطوير في الأفق المنظور.

https://anbaaexpress.ma/PzhAm

سعيد هادف

شاعر جزائري وباحث في الشأن المغاربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى