تقاريرثقافة

المغرب كوريث للتراث الأندلسي

هناك أكثر من سبب يجعل المغرب هو الوارث الشرعي للثقافة الاجتماعية والرمزية للأندلس. ويمكن استعراض بعضها موجزا في النقاط التالية:

-تدخل الحقيقة الجغرافية كعنصر أساسي، لأنّ المغرب هو أقرب بلد عربي وأفريقي للأندلس من الناحية الجغرافية، حيث يمكن بلوغ الضّفة الأخرى للمتوسطي سباحة(14 كلم).
– تدخل الحقيقة التاريخية كعنصر أساسي أيضا، حيث فتح الأندلس انطلق من المغرب، وبقيادة مغربي أصيل هو (طارق بن زياد)، وهو مغربي حسب ما تؤكده الوثائق التاريخية وكذا القرائن، حيث يظهر حسب إحدى المنمنمات التي تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي، إلى جانب ملك القوط لوردريغو، واصفة إياه بزعيم أفريقيا طارق أمير المؤمنين ملك المغرب، كما جاء وصفه في موقع فوربيس الأمريكي بالجنرال المغربي، كما ظهر في صورة على ورقة نقدية لحكومة جبل طارق، معلقا عليها(the moorish empire) . فهو حسب المؤرخ بن عذارى المراكشي طارق النفزاوي نسبة إلى نفزة الواقعة في الناظور، وهو ما رجّحه أيضا المؤرخ التونسي هشام جعيط.
– تنضاف إلى ذلك، أنّ الأندلس ضُمّت إلى المغرب نهائيا في عهد القائد المرابطي يوسف بن تاشفين، بل باتت شبه الجزيرة الإيبرية تابعة إداريا إما إلى العاصمة مراكش أو فاس، حيث استقلّ المغرب بدولة مركزية منذ العصر العبّاسي عن الخلافة الإسلامية. ولهذا فهي في المعجم السياسي المغربي تسمّى العَدْوَة الشمالية، والإدارة المغربية باتت إدارة للعدوتين، وهو تعبير عن المكان المرتفع.
– حصل تداخل واندماج كبير بين الثقافتين، سواء عن طريق الذهاب والإياب بين العدوتين بالنسبة للعوائل والعلماء، حيث كانت مراكش وأيضا جامعة القرويين بفاس محجّا لهم، نتحدث عن ابن رشد آخر الفلاسفة الأرسطيين في القرن الوسيط، والذي توفي في مراكش قبل أن يُنقل جثمانه بعد ثلاثة أشهر للأندلس، نتحدث عن ابن عربي، ابن خلدون ، المعتمد بن عباد، أبو العباس السبتي، الخ.
-سقوط الأندلس كان له أثر كبير في نفوس المسلمين، لكنه بالنسبة للمغاربة كان الأثر مضاعفا، ليس فقط نفسيا بل ترتبت عليه آثار كثيرة اجتماعية وسياسية لعلّ أهمها:
– هجرة كل المضطهدين في الأندلس، أهمهم الموريسكيون الذين استوطنوا المدن العريقة في المغرب شمالا ووسطا وجنوبا، واندمجوا اندماجا كاملا في النسيج المغربي، فكان المغرب بحكم القرب الجغرافي وكذلك بحكم الآصرة الثقافية والسياسية هو الملجأ الأكبر للموريسكيين. وكان المغرب قد ترك آثارا في الأندلس تحمل الفنّ المغربي الذي ازدهر في العصر الموحدي، وجعل منارة لاخرالدا توأما لصومعة الكتبية، وهذا ما يفسّر أنّ تفوّق الصانع المغربي في النقش والفسيفساء والصناعة التقليدية مستمرا موصولا حتى اليوم لا يبزّهم فيه أحد.
– ويبدو الأثر السياسي كبيرا، حيث أنّ ارتدادات الموقف، والثّأر هو الذي جعل إسبانيا تقتطع مناطق من المغرب. ومع أنّ إسبانيا التي تبعد عن المغرب ببضع كلومترات، امتدت في عصرها الأمبراطوري لاحتلال مستعمرات تمتدّ من الفيليبين شرقا حتى أمريكا اللاتينية، فإنها واجهت الكثير من المقاومة المغربية، حيث كان يفترض أن تحتله إسبانيا التي باتت أمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، فلئن لم تكن فعلت ذلك، فللمقاومة الشرسة التي أبداها المغرب، حيث قصة مقاومته للأطماع الاستعمارية بدأت قبل الموجة الحديث للاستعمار، من هنا التعقيد الذي تعرفه بعض المناطق المحتلة من ترابه، لأنها حصلت قبل نشأة عصبة الأمم بقرون.
استمرّت مشاعر الثأر الموروثة، حتى حرب تطوان بين الجيش المغربي والجيش الإسباني، المغرب وحده دفع ضريبة مشاعر الثأر الاسباني، حيث ظلت المرأة الإسبانية تخيف ابنها بالمورو. كان ميراثا ثقيلا لم تتخلّص منه إسبانيا حتى اليوم، وهو ميراث تاريخي ذي طابع سياسي وديني منذ وصية الملكة إيزابيلا الأولى التي امتد ملكها إلى قشتالة وليون وعموم إسبانيا، وحفزت كولومبوس في رحلته لاكتشاف أمريكا، أوصت إيزابيلا بتدمير المغرب قبل شهرين من وفاتها عام 1504م، ونصّ الوصية يقول:
” أوصي وأنصح وآمر بالطاعة النهائية للكنيسة الكاثوليكية والدفاع عنها دائما وأبدا بكل غال ونفيس من الأموال والأرواح وآمركم بعدم التردد في التخطيط لتنصير المغرب وإفريقيا ونشر المسيحية فيهما ضمانا حقيقيا لكل استمرار كاثوليكي في جزيرة إيبيريا الصامدة، ومن أجل ذلك فالخير كل الخير لإسبانيا في أن يكون المغرب مشتتا، جاهلا فقيرا مريضا على الدوام والاستمرار”.
عند تأمّل السياسات الموروثة عن عهد إيزابيلا وفرانكو، نكتشف أنّ الهدف عو التمزيق، والتدمير، والتخريب للكيان برمته، أي محو شيء إسمه المغرب وسلبه كلّ مكتسباته التاريخية والجغرافية، لا يمكن تفسير كلّ هذا إلاّ في ضوء الحقد التاريخي والعدوى في السياسات.
– استمرت مشاعر الكراهية الإسبانية يدفعها المغرب، وتنتقل كالعدوى عبر الفرونكوية لتتعدّى إسبانيا نفسها، وهذا ما يفسّر أيضا جريمة استعمال السلاح الكيماوي لأوّل مرّة في العالم وقبل استعمال القنبلة الذرية في ناكازاكي وهيروشيما، في منطقة الريف، وآثار ذلك لا زالت حتى اليوم في انتشار أمراض خطيرة، إن استعمال غاز الخرذل الذي عجل باستسلام ثورة الريف أنذاك بقيادة بن عبد الكريم الخطابي، مؤشر على طبيعة الكراهية، مما يشكل اليوم موضوع ترافع لدفع تعويضات للمتضررين، وقد أكد على هذه الحادثة مؤرخون غربيون مثل المؤرخ البريطاني سيباستيان بلفور وكذا المؤرخ الإسباني أنخيل فينياس.
– لا زال اللوبي الإسباني يراقب التسلح المغربي، ويعبر عن شجبه لأي صفقة سلاح للمغرب، كما أنّه ظلّ طرفا في تأزيم العدوة الجنوبية التقليدية، والحساسية المفرطة ظهرت في مشكلة جزيرة ليلى التي لوحت فيها مدريد بدعم من أوربا بمحو المغرب من الخريطة. المغرب الذي أسقط إمبراطورية سيباستيان البرتغالية وحكم شبه الجزيرة الإيبيرية لقرون من الزمن، لا زال هو العدو الأوّل لإسبانيا.
ومن هذا المنطلق، وجب استحضار هذا العنصر في التحليل السياسي، لأنّ ما يزعج إسبانيا في المغرب هو تجاوز أزماته المزمنة التي هي طرف تاريخي فيه، لذا لازلنا نعيش تحت كآبة وصية إيزابيلا التي باتت برنامجا سياسيا يعكس إرثا يتجاوز مفهوم صناعة العدو عند كارل سميث. إذا لم نفهم قصّة هذا التحدي البنيوي، لن نفهم شيئا في جيوستراتيجيا المنطقة والميراث النفسي الثقيل للكراهية المنتشرة منذ إيزابيلا حتى فرانكو ثم الميراث العظيم لهذه الكراهية الذي تدفق خارج المحيط الإسباني ليصبح حالة واسعة في اللاّوعي السياسي الإقليمي، وكانت نتيجة هذا الميراث، تنامي التناقضات وغياب الثّقة وسوء الفهم الكبير.
آثار الثقافة الأندلسية واضحة في المغرب، يكفي أن تحطّ الرحال في الشمال، لتجد مظاهر في اللباس والأكل لا تكاد تجدها سوى في الأندلس ومدن مثل تطوان وشفشاون ومعظم بلاد جبالة والريف. تجده في المقام الموسيقي، في القراءة، في الطرب والمديح، في الحكايا والأساطير، في القفطان والجلباب، في الباسطيلا وتشورو وكرينتي، وباقي الأطباق الموريسكية المندمجة مع المطبخ المحلي…
كانت العدوتين الجنوبية والشمالية من خلال إدارة العاصمة فاس، بيئة لتدفّق الميراث العلمي على أوربا الناهضة من قرونها الوسطى، في العلوم والفلسفة واللغة والفقه والتصوف والتأريخ وما شابه ذلك. ولا زالت القراءة والمقام والخطّ الأندلسي-المغربي حاضرا بقوّة.
أن يكون المغرب منسيّا ومتجاهلا لأنّه لا يستهدف العالم بتفاصيل تجربته الخاصة هذا موضوع مؤكّد، لكن أن يكون المغرب موضوع كراهية ممنهجة ومستهدفة في شخصيته وثقافته وتاريخه، فهذا إساءة للتاريخ والحقيقة، فالمغرب عُرفت حدوده حتى كاد يصبح جزيرة، وهذا الوصف منحه إياه ابن خلدون ، وأكده تيراس، وأحياه عبد الله العروي: المغرب جزيرة.

https://anbaaexpress.ma/buwpQ

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى