آراءثقافة

المشروع النهضوي العربي .. وأزمة الفكر

لابد أن يعبر الفكر الحر عن نفسه بحرية ولا يخضع للسياسة أوالعقائد يجب أن يكون العقل الحر مقدسا فى ذاته ” عندما نصل إلى الإيمان بهذه المقولة سيبدأ مشروع نهضتنا المأزوم .

يقول برهان غليون فى “كتابه محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية ” :” السبب الرئيسي لإستمرار الإنحباس أو المأزق التاريخى فى مشروع نهضتنا العربية هو غياب الوعي الموضوعي بأبعاد المشكلة سواء على الصعيد الإجتماعي أوالتاريخي وغياب الرؤية الواضحة والتطورالسليم والتفسيرالمقنع الذي يخلق إرادة الفعل ” [1] بمعنى آخر وكما يرى غليون إن إستمرارالأزمة هوأكبر دليل على إنعدام البديل أو ضعفه غليون لا يقصدهنا البديل”السياسى” فقط إنما يقصد المشروع الإجتماعي والثقافي والسياسي معا .

دور الثقافة غائب في مشروع النهضة العربي

 

فالتفكير فى مسألة النهضة العربية لابد أن يركز على الناحيةالثقافية والإجتماعية ثم السياسية . لذلك يدعوا غليون كل دراسة جادة أن تظهر مدى هشاشة النظام الفكرى والأيديولوجي والنفسي العربي ، لابد أن تنتقد المسبقات الأيديولوجية التى قامت عليها الخيارات الفكرية والسياسية والإقتصادية للأنظمة العربية التى أدت إلى الفشل الفكرى والإجتماعى فمن وجهة نظره أن هذا النقد هو الخطوة الأولى فى نقد وفهم الوضع العربي الراهن ،غليون يطالبنا بضرورة إحداث قطيعة نهائية مع الفكر التبريري والنخبوي بشتى صوره وأشكاله التقليدية والحداثية لابد من نقد أسس الممارسة أي نقد الدولة العربية الراهنة كدولة قهرية فهى أساس وقاعدة التدهور والفوضى مثلها مثل كل الأيديولوجيات القمعية أيديولوجيات المسبقات والمصادرات التى كانت أساس إخفاق التحرر العقلي .

فمن وجهة نظرغليون الثقافة نافذة العقل التى يطل منها فهى مجموعة القيم العامة التى تلهم سلوك الجماعة وتلهم ممارستها الفكرية والسياسية والإقتصادية على كل البنية الإجتماعية بناء على ذلك فالنظرية السياسية للنهضة لم تتبلور إلا فى مرحلة متأخرة نسبيا .

نفهم من غليون أن موضوع الثقافة موضوع أساسي فى أي مشروع نهضوي حيث يقول : “كل نقد للتجربة الماضية وكل تأسيس لمشروع مستقبلي لابد أن يناقش الأسس والمبادىء أي المفاهيم العقلية التى توجه العمل وتبلور معالم المبادرة والممارسة أي مناقشته في الإطار الثقافي أولا هذا الإطار الذى أفرزه ” . [2]

ذلك على اعتبارأن الثقافة تلخص تجربة المجتمع وتلخص وعيه بذاته فبمقدار تثقف المجتمع يتشكل مستوى وعيه بذاته. يقصد غليون من طرح موضوع “الثقافة “كميدان أساسي لطرح مسألة النهضة تحديد علاقة الثقافة بالنهضة ودورها فيها وتحديد مدى صلاحية أوعدم صلاحية النظم العربية فى توفيرالقيم والمفاهيم المساعدة على التغييرالفكري والعلمي والسياسي والتكنولوجي .

أتفق تماما مع غليون فى أن الإهتمام بالثقافة وما تمثله فى النسق الإجتماعى فى مجتمعاتنا العربية ضعيف جدا فقد اعتبرت أقل قيمة فى إحداث التغييرالإجتماعي من العوامل السياسية والإقتصادية على الرغم من أن المناقشة كلها تدور فى الميدان الثقافي .

فعندما قامت النهضةالأوروبية مهدت لها أرضية ثقافية رصينة صنعتها فلسفة الأنوار التى غيرت العقل الغربي من عقل ثبوتي جامد متلقى خاضع للاهوته إلى عقل نافر ناقد متجدد عقل وعى ذاته ومن ثم كانت نهضته .

وكما يقول غليون ” البحث العربى فى الثقافة تمحور حول دورها فى النهضة لاعلى وظيفتها لم تصبح مسألة الثقافة مسألة متميزة للبحث إلا مع تفجر مسألة الهوية فأصبحت علاقة الثقافة بالنهضة حكرا على المتحدثين بالتغيير والثورة وأصبحت علاقتها بالهوية حكراعلى المنادين بالمحافظة والتمايز والإستقلال .

لذلك أصبحت المشكلة الأساسية للثقافة العربية هى الصراع أو التناقض بين “الحداثة والتقليد” و”المعاصرة والأصالة ” وضمن هذا الصراع تعددت المواقف والآراء .
فى هذا الصراع يرى غليون أن دعوة الأصالة تتجه إلى توحيد نفسها بالدين بينما تتجه دعوة الحداثة إلى مطابقة ذاتها مع العلم ويخفض إلى التراث جانبه الديني وتتطابق الحداثة مع الحضارة هكذا أصبح الصراع بين الهوية والمعاصرة والدين والعلم والتقدم والمحافظة مركز تفجر أزمة المجتمع العربي وأداة تفريغها وحلها الوهمي في الوقت نفسه “. [3]

الثقافات التقليدية ثقافات صماء محصنة لمقاومة أي فكرة

 

ولكن فى ضوء ماسبق كيف لنا النهوض نحن أهل الثقافات المحرومة من الفكر النقدي المقلق المشاكس ؟ كيف لنا الإفلات من قبضة التخلف والجمود ؟ كيف نخرج من معبد هذه الثقافات المغلقة الثابتة الراكدة ؟ كلها تساؤلات يطرحها إبراهيم البليهي فى كتابه ” حصون التخلف “مؤكدا أن النهوض لا يأتي إلا بالنقد ، بالإنقلاب على الذات ، فالفكر النقدي يعري الأوهام يكشف الجهالات.هذا النقد هوالجدير بخلق وعي عربي مستنير يكشف الجهالات ويعري الأوهام ولكن كيف نخلق هذاالوعي المستنير؟ كيف نفلت من كل برمجيات عقولنا الطفولية البليدة؟ كيف نكسر أقفال الجهل؟ وكيف نوقظ كل الجموع الغفيرة المحصنة بالجهل والمستميتة فى الدفاع عنه ؟
كلها تساؤلات لابد أن يسألها وعي عربى للأسف لم يخلق بعد .

يقول البليهى: ” أن الإضطرار لدراسة العلوم فى المدارس والجامعات لن يخلق الوعي ما لم يكن مسبوق ومصحوب بنهضة فكرية عامة ” . [4]

مشيرا إلى أن الأصل فى الثقافات التقليدية أنها ثقافات صماء محصنة مغلقة عليها حراسات قوية متحفزة لمنع وقمع أية فكرة طارئة فتجارب الشعوب فى الشرق والغرب أثبتت أن دخول حضارة العصرلا يمكن تحقيقه إلا بجهود فكرية عاصفة مجلجة تتوجه إلى كل الأمة وليس فقط لفئة من الدراسين وأن تستخدم كل وسائل التواصل في التعليم ،الإعلام ،المنابر،لخلق وعى جديد،

الإفلات من قبضة التخلف هو الإعجاز

 

يقول البليهى :”لابدأن يعلم الناس أن الثبات على التخلف هو الأصل وأن هذا الأصل مدجج بأعمق العواطف المتوارثة المتجددة ومحصن بأقوى عوامل الإستمرار فى كيان المجتمع وفى ذوات الأفراد وأن الإفلات من قبضته هوالإعجاز بعينه لأنه بمثابة خروج عن الذات وإنقلاب على النفس إن هذا الإفلات العسير لا يمكن أن يحصل إلا إذا طرأت مؤثرات قوية جارفة تفتح الحصون المغلقة وتعيد تكوين ترتيب منظومة قيمهم ، فالتعلم المحكوم بالثقافة السائدة يكرس الثبات ويبررالإستمرارويعزز مقاومة الجديد” . [5]

لذلك ” ماأحوجنا فى عالمنا العربي والإسلامي إلى الكثير والكثير من التساؤلات التي تفتح آفاق الرؤية الفكرية الكفيلة بطرح مزيد من التساؤلات دون إدعاء يقين الإجابات الشافية وهذا ما أطلق عليه لاكان الدائرية فى مقدمته ” تحول البرهان إلى سؤال ” وبناءا على طرح لاكان يطالبنا مصطفى صفوان إلى العودة لمرجعياتنا الذاتية فهناك سيجد كلا منا جوابه فى أسئلته ذاتها فكلا منا صاحب حقيقته والمسئول عنها فليس هناك جواب أصيل فى قوي مرجعية تتجاوزنا جميعا “هذه دعوة للرجوع للذات الفردية أو الجماعية من خلال الإحالة إلى الحقيقة الذاتية وليس من خلال سلطة كلام أي سلطة خارجية .[6]

لنقف هنا ونتابع فى مقالنا القادم كيف حسم فهمي جدعان جدل حداثتنا المأزوم بأنه لن يكون إلا بقطيعة قصوى مع المقدس ولنرى كيف جزم نصر حامد أبو زيد بأن سيطرة خطاب معين على كل الخطابات الآخرى كان يتم تحت عوامل القهر السياسي والإذعان الإجتماعي .

مصادر :

1- كتاب الدكتور برهان غليون”محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية ” – الصادر عن المركز الثقافى العربى الدار البيضاء – المغرب – ص21
2- نفس المصدر السابق ص20
3- نفس المصدر السابق ص 9
4- كتاب الدكتورإبراهيم البليهى ” حصون التخلف ” الصادر عن منشورات الجمل – ص20
5- نفس المصدر [ص5] [ص20] 6- كتاب الكلام أو الموت للدكتور مصطفى صفوان – ترجمة مصطفى حجازى – صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت [ص11]

https://anbaaexpress.ma/vDsmJ

جيهان خليفة

كاتبة وباحثة وصحافية مصرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى