آراءسياسة

العلاقة المغربية الجزائرية في ضوء نظرية الفراغ

الطبيعة تخشى الفراغ، أو الطبيعة لا تقبل الفراغ، مقولة للفيلسوف اليوناني أرسطو ومن وجهة النظر العلمية والطبيعية، لا وجود لشيء يسمى “فراغ” بالمعنى المطلق. هناك عبارة شهيرة نضرب بها مثلا في خضم الجدل حول مساوئ ومحاسن شيء ما، فيخاطب أحدنا الآخر: لماذا تنظر إلى النصف الفارغ من الكأس وتنسى النصف الملآن؟ هذه الصورة المجازية التي يستعين بها المتجادلين تحيل سامعها إلى كأس يحتوي نصفه على الماء بينما النصف المتبقي فارغ، النصف الفارغ هنا يعني أنه لا يحتوي على الماء، لكن كونه فارغا من الماء فهذا لا يعني أنه لا يحتوي على شيء آخر، بل هو يحتوي على الهواء وربما ذرات من الغبار، وبالتالي فهو ليس فارغا كما نتوهم،الأمر نفسه ينسحب على أي مجال.

المجال السياسي لا يقبل الفراغ، وما يوصف أحيانا بالفراغ السياسي يعني أن البلد أو المنطقة الجيوسياسية تفتقر إلى نشاط سياسي بالمعنى العلمي لمفهوم السياسة، أو أن البلد يعاني من غياب رؤية سياسية متبصرة، وبالتالي يدعونا هذا الأمر إلى طرح السؤال التالي: إذا غابت السياسة فما الذي يحل محلها؟ بطبيعة الحال تحل الفوضى والفساد وكل ما يترتب عن ذلك. وهذا معناه أن ما يسمى بالفراغ السياسي ليس وصفا دقيقا، أو بعبارة أخرى هو وصف ماكر يخفي حقيقة الأزمة، وعليه فإن الوصف الصحيح للوضع المسمى بالفراغ السياسي هو “الفشل السياسي” الناجم عن طبقة متطفلة على السياسة تعيث فسادا وتمسك بمفاصل الدولة باعتماد أدوات القمع والترهيب وشراء الذمم وتصفية الحسابات فيما بينها. هذه الطبقة المتطفلة على السياسة تشمل كل من في الحكم وفي المعارضة.

في ضوء ما تقدم، فإن الفراغ السياسي في السياستين الداخلية والخارجية والمجالين الاستراتيجي والجيوسياسي يترجم قصور النخب السياسية المغاربية منذ نشأة الدول المغاربية المستقلة، بل منذ الحركات المغاربية المطالبة بالاستقلال.

العلاقة الجزائرية المغربية نموذجا

منذ أن دخل البلدان عصرهما الحديث إثر الغزو الفرنسي طفت إلى السطح كل الأمراض الأيديولوجية ذات الصلة بالهوية والذاكرة المشتركة. بدأت مقاومة الغازي الفرنسي باسم الهوية الإسلامية، وباسم نفس الهوية نشب الخلاف بين الأمير عبد القادر ومعارضيه، وبين السلطان عبد الرحمان ومعارضيه، وبين الأمير والسلطان. في سياق آخر طفا إلى السطح دعاة الهوية العربية ثم الحركات القومية المغاربية ثم حركات الإسلام السياسي والحركات الأمازيغية، فضلا عن الهويات الأيديولوجية ذات الصلة بالريجيمات السياسية: الاشتراكية، الرأسمالية…

الآباء المؤسسون للقوميات المغاربية لم يبلوروا مفهوما رصينا للقوميات التي طالبوا بحقها في الاستقلال (القومية التونسية، الليبية، الجزائرية والمغربية)، أما موريتانيا فقد حازت على استقلالها خارج هذا الحراك القومي.

إلتباس هذه المفاهيم ذات الصلة بالهوية هو ما نعاني من تبعاته حتى اليوم، وهو ناجم عن جهل فادح بالمفاهيم المؤسسة للدولة الحديثة. وشاءت الأقدار الجيوسياسية أن تنشأ الدولتان (المغرب والجزائر) في غمار هذا الالتباس الهوياتي بمعناه السياسي، وسعى كل تيار قومي داخل بلده أن يقضي على خصومه في بلده وعلى البلد الجار.

هل هناك خلل في هذا الوضع الجيوسياسي بين البلدين؟ في تقديري ليس هناك خلل، بل هو وضع طبيعي ناجم عن فهم بدائي للسياسة، ولو أن أحدهما إستسلم لتغول الآخر لابتلع المنطقة برمتها، وهذا ما يرفضه النسق الجيوسياسي العالمي، لذلك لن يسمح لطرف أن يستقوي على الآخر.

هذا النسق العالمي بطبيعته وباعتماده بيداغوجيا العصا والجزرة يعمل على إنضاج مفهوم الدولة في البلدين بالطريقة التي تناسب كل بلد على حدة من جهة وتدبير علاقتهما البينية من جهة ثانية. ما المقصود بالنضج هنا؟ إنه الأوتونوميا، أو الخروج من حالة القصور بالمفهوم الكانطي؛ إنه النضج السياسي بالمفهوم الحديث، إنه الانخراط غير المشروط في بناء دولة الحق والقانون، والتحرر من النزوع التسلطي والاستشفاء من أمراض الهوية السياسية بمعناها البدائي.

هذا النسق العالمي الذي يخشى الفراغ، هو من يملأ الفراغ بما يعثر عليه في ذلك الفراغ من طاقة، بصرف النظر إن كانت طاقة مبدعة أو طاقة مدمرة.

لا شك أن النخب السياسية في البلدين تتفاعل مع الرسائل التي تأتيها من هذا النسق العالمي، وتتلقاها بطريقة مباشرة تارة وغير مباشرة تارة أخرى، ولا شك أنها تجتهد بهدف الخروج من حالة القصور السياسي، ويبقى الفرق في جهاز التلقي، في جودة هذا الجهاز أو في رداءته، في الإرادة الحسنة والمهارة والذكاء والخيال الخلاق.    

ملاحظة: أستعمل مفهوم القومية بدل الوطنية، باعتبار أن القومية (Nationalisme) نسبة إلى (الجماعة البشرية) القوم/الأمة (Nation)، بينما كلمة وطن (Patrie)  لا تحيل على الجماعة البشرية بل إلى الأرض، أرض الآباء والأجداد بالمعنى البيولوجي والروحي.

https://anbaaexpress.ma/FuXMO

سعيد هادف

شاعر جزائري وباحث في الشأن المغاربي.

تعليق واحد

  1. مقال رائع …والكاتب نجح في تفكيك المعادلة..وهذا هو النوع من المقالات التي نحتاجها هذا المقال والمقاالات الاي رأيتها في هذه الجريدة تظهر لمسة أستاذ عبدالحي الصحافي الكاتب والمثقف الذي يرفض الابتذال الإعلامي وفقكم الله ووفق كل طاقم ادهذه الجريدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى