آراءثقافة

الطوطم والتتريخ

عندما أصبح أَصْدَقُ التاريخِ أكذبه؟

الحاجة إلى التاريخ حاجة تاريخية، وهنا مكمن الخطر الذي يُمثّله التّاريخ ويبعثه على الانزياح من الصناعة العلمية إلى الصناعة الأيديولوجية، الحاجة إلى التاريخ هي غواية راهنية دائما، كلّها تُختزل في البحث عن الشّرعية السياسية بوسائل غير مشروعة.

تنزاح الصناعة التاريخية عن الأصول والقواعد العلمية في التحقيق والتوثيق، ويصبح التّأريخ أكثر شيئ جدلا. فالكتابة التّاريخية ليست جدلا بل تحقيقا وتوثيقا، والمائز بين التحقيق والجدل لا ينفي المشترك الزّائف الذي تعكسه عملية استحضار المُعطيات في عملية ربط جدلي بين الأحداث، تسمح بها الرغبة الجامحة في البحث عن الشّرعية السياسية والتعويض السيكولوجي الجمعي.

نتأمّل أنماط التّأريخ واستدراك التّأْريخ، فنقف على صناعة انزياحية بامتياز، تعطينا فكرة كاملة عن التّاريخ بوصفه أيديولوجيا زائفة. وسنذكّر بمفهوم الأيديولوجيا بقيد الزّيف، حذرا من الخلط بينها وبين الأيديولوجيا الحميدة. فالأولى في تماديها اللاّمعرفي هي مرض خبيث، وحالة مسرطنة، تدمّر أسس علم التّاريخ، وتتحوّل إلى حالة تعسكُر غير آبه بالحقيقة، لأنّه موجّه فاشستيا لخرق كل قواعد الاشتباك التّاريخي.

ممارسة كهذه هي تمرين خاطئ من شأنه أن يكرس تقاليد مضرّة بأصول التفكير عموما فضلا عن التفكير التاريخي. فالتّأريخ الزّائف هو على طرف نقيض مع النزعة التاريخية نفسها التي تمنح الحوادث الواقعة دورا مرجعيّا في الوعي التّاريخي، فالتأريخ الموضوعي هو تأريخ يقبل بالانتصارات والإخفاقات، وهو بذلك يخاطب الوعي ويراهن عليه، بينما التّاريخ التمجيدي الفاشتي يخاطب اللاّوعي ويراهن عليه. إنّ المهمة التي سيفرضها فعل تحقيق التّاريخ بعد انزياحه، هي مهمّة صعبة ومعقّدة، لأنّ لا أخطر من إعادة التّاريخ إلى الواقع، وتحريره من سطوة الأسطورة.

ولا يخفى أنّ الأيديولوجيا لدى واصفيها تلعب دور السّحر والأسطورة في العصر الحديث، وهي الشّكل البدائي المتجدد للسحر ودوره في الحياة العامّة. فإخضاع الصناعة التّاريخية للأيديولوجيا هو ضرب من الهلوسة السحرية، وهكذا منذ ليفي شتراوس وآخرون، تمّ إدراك اندكاك المسافة بين أنماط السحر الوحشي والحديث.

وجب استعادة المعنى التاريخي، إذ لا طريق لذلك إلاّ بالمصالحة مع الواقع. والأحداث في الواقع هي جدل من الإخفاق والانتصار، من المجد والانحطاط. هذا يعزز رأينا في أنّ المطلوب أن نصنع التّاريخ لا أن نعيد تصنيع التّاريخ في أوراش أيديولوجية، تعتمد الإفتئات على الوثيقة، وتروم الإقناع بالجدل. فالتاريخ إمّا أن نصنعه أو نخسره، ما قيمة تاريخ نصنعه على مقاس الرغبة والتّوقّع؟

لا شكّ أنّ تحريف التّاريخ ظاهرة إنسانية، فردية وجماعية، لأنّ لها صلة بالوعي. هذا الكائن الذي لا يمكنه أن يعيش بلا تاريخ. وفي منطق الدّول، يلعب التاريخ دورا أساسيا في تعزيز القوة الناعمة. فالجغرافيا وحدها لا تكفي، بل ستصبح وعاء فارغا إن خلت من الجاذبية الرمزية التي يعكسها تاريخ البلدان. لكن حين نكذب على التاريخ، نكون بصدد التلويح بقوة ناعمة زائفة.

ونستطيع أن نقرأ صور الماضي من التحريف التاريخي في أساليب تحريف التاريخ الحديث، فلقد تعرّض التاريخ العربي والإسلامي إلى أشكال من التحريف، جعلت التّاريخ عبارة عن خطاب ديماغوجي، هذا وقد تفطّن مؤرخون، وعلى رأسهم ابن خلدون في رصد مظاهر هذا الزّيف في التأريخ وكذا بيان علله إلى هذه الظاهرة، ومع أنّ تاريخ ابن خلدون لم يف بمزاعم المقدّمة، بل هو نفسه وقع في أنماط من التوجيه، بعضها له صلة بالاتجاه العام، وبالآثار نفسها التي علّل بها أخطاء من سبقوه، بل أضيف إلى أنّ التزييف ليس له صورة واحدة، بل هو مستويات، بعضها يتعلّق بتأويل الحدث تأويلا يستجيب لمتطلّبات التحيّز، وبعضها يعتمد التجاهل والصّمت، ففي التّاريخ، يصبح الصّمت إزاء الوقائع، شكلا من التحريف والإستقالة، إلاّ أنّ ابن خلدون أضاف شيئا أعتقد أنّه على درجة فائقة من الأهمية، وهو ما يتعلّق بالعنصر السوسيولوجي.

الذي يمكن المؤرخ من فهم طبائع العمران البشري وتنزيلها في مقام تأويل الحدث، هذا يفرض بتعبير آخر أن يكون المؤرخ في الوقت نفسه سوسيولوجيا وأخباريا، لأنّ موضوع التاريخ في نهاية المطاف هو أحوال الاجتماع البشري؛ بل حتى حينما نؤرخ حَوْلِيّا للأشياء والطبيعة والجغرافيا، فإننا نفعل ذلك من حيث ما لها من عُلقة موضوعية بالاجتماع البشري، وذلك لدخولها في مشمولات العوارض الذاتية لموضوع علم التّاريخ.

وفي إدخال ابن خلدون للعنصر السوسيولوجي في الخطاب التّاريخي قيمة في تعليل أسباب قيام وسقوط الحضارات، وكذا دور الشوكة والعصبية في فهم الحوادث التاريخية، لكن الأهم هو تمكين المؤرخ من فهم حركة التاريخ بوصفها رصدا لأحوال العمران البشري، فالتحقق من حقائق العمران البشري تمكننا من امتلاك أدوات تحليل الوقائع التاريخية، باعتبار أن الظفر بحقائق العمران البشري هو ظفر بالقانون الذي يرى فيه ابن خلدون وسيلة تمييز بين الحق والباطل في الإخبار كان ابن خلدون، على الأقل في مزاعمه في المقدمة قد أرسى ما به تتحول الكتابة التاريخية إلى صناعة برهانية.

لكم هو مُهلك للمنطق تحويل الصناعة التاريخية إلى صناعة برهانية. لأوّل مرّة يصبح البرهان حالة مثالية أفلاطونية. فحرّاس معبد التّاريخ لن يسمحوا بإخراج التاريخ من الحالة الدّيانية، وهذا ما تفعله الفاشستية، التي تجعل من التّاريخ خير العون على تدارك فوت الماضي، وأفضل وسيلة لقراءة التّاريخ بأثر رجعي. فالدّول الفاشلة كالجماعات السياسية الفاشلة كالأفراد الفاشلين، يكذبون على التّاريخ، ويعيشون حالة تقمّص حادّة، وهي بالمفهوم الأنثربولوجي تعني كما عند بروهل، تعبيرا عن مبدأ المشاركة، أي الوضعية الطوطمية التي تجعل الجماعات كالأفراد في حالة تمثّل طوطمي لاشعوري، إنّ هذه الحالة الطوطمية حاضرة في الكتابة التاريخية الأيديولوجية، تزيد حدتها وتنقص حسب سُعار التحريفية. هل اقتربنا من القول بأنّ أصدق التاريخ أكذبه كما كنا نقول: أن أصدق الشعر أكذبه؟

خرقا لهذه العدمية، يمكن الحديث عن الوجه العلمي الذي يمكن أن تمدنا به تأمّلاتنا لظاهرة التحريف، ولعلّ أهم تلك النتائج العلمية التي يتعين الوقوف عندها، وهي أنّ ظاهرة تحريف التاريخ تؤكّد على مدى علاقة التّاريخ بالوعي، وهو كذلك لأنّها موصول لا يخضع للقطيعة النظرية. كما أنّ ذلك يعزز من قناعتنا بأنّ التّاريخ حقّا ليس علما بالماضي بل هو خطاب مُعاصر، عناصره تكمن في الماضي، وهو ما يُضاعف البُعد الرمزي للتاريخ ويجعله أكثر قدرة على اختطاف الحاضر. فالتاريخ هنا صناعة مُعاصرة تستند إلى رموز الماضي لتحقيق مصالح راهنة.

الصراع حول التّاريخ لا يتمّ من دون تحريف، بل إنّ التحريف ولد مع بروز التدوين، وهو فعل قديم، عادة ما تسقط فيه الكيانات الزائفة التي لا تاريخ لها، مهما بلغ نفوذها، كالكيانات الاستعمارية. وهو الأمر نفسه بالنسبة للدّول التي تراهن على شكل من الوطنية لا يمكن أن يقوم إلاّ على أساس هذا الزيف، الذي يعتبر وظيفة لا غنى عنها للدولة الوطنية التي تسعى لكتابة تاريخ خاص مفصول عن التاريخ العام البشري أو تلك التي تقع في المنزلق الفاشستي. إنّ الوطنية بهذا المعنى، وكما ذهب الشاعر الألماني غوته، هو مفسد للتّاريخ.

إنّني أعتقد جازما كما فعل أورويل بأنّ كتابة التاريخ اليوم لا يمكن أن تتم من دون تحريف، وهي صفة تميّز عصرنا بل في ظنّي هي ظاهرة في كل العصور لكنّني أستطيع أن أخرج من هذه العدمية بكثير من التحدّي والأمل، وهو أنّ التاريخ كُتب بالرغبات ذاتها التي نشهدها اليوم في تحريف الأحداث والأخبار، وأضيف إلى العنصر السوسيولوجي، الميديولوجيا وعلم التواصل، لندرك كيف يتم تزييف الخبر أمام أعيننا، فبالأحرى تزييف تاريخ من قبلنا، إنّه تحدّي أركيولوجي يفرض استخراج الحقيقة من داخل طبقات ورواسب جيولوجية كرستها التحريفية، فعلم التاريخ في نظري لم يعد علما بالماضي، فهذا تعريف بات ساذجا، بل هو علم بما تخفيه الكتابة التّاريخية، علم بالماضي قبل إعادة إنتاجه وفق رغبات المؤرخ ومن يمثِّلُه المؤرّخ.



https://anbaaexpress.ma/aPu4i

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى