
بقلم: أحمد القاسمي
شعر باهتزازات هاتفه في جيب بذلة العمل الزرقاء، وهو يُثبِّت بالصّواميل بطارية جديدة؛ على صفيحتها المخصصة لها من هيكل إحدى السيارات؛ كان قد أبطل الرنين؛ لأن رب محل غسل المركبات وصيانتها؛ لا يُطيق سماع الهواتف، وهي تضِجّ من وقت لآخر، ولا يَسمح بالاتصال بها من حين لآخر، لأن ذلك يُشْغِل عن العمل، فما إن انتهى مما كُلِّف به؛ حتى سار إلى ناحية؛ ماسحا يديه بخِرقة، وكان الجهاز ما يزال يُصوّت؛ ما يعني أن للمُنادي أمر عظيم، فاستقبلت أُذُنه صوتا جَهُورا، ونُطْقا مُتريِّثا للكلمات؛ يدُلان على أن صاحبها ذو شخصية خاصة، فأنصت إليه بانتباه، فسمعه يقول:
– أكون لا أخطئ في أنك تخرجت من كلية العلوم بدرجة دكتوراه، وبميزة مُشرِّف جدا؛ مع التشجيع.
أجاب بدون تردد:
– نعم؛ كانت ثمرة مجهود مُستنْزِف.
سمعه يقول مرة أخرى:
– فإذا لم أخطء أيضا، فالذي بحثت في مواضيعه، وبمنهج أكاديمي مُحكم، وتخصصت فيه؛ هو علوم النَّيازِك.
أكّد ما سمعه من المتكلم قائلا:
– نعم؛ بحثت في أدقّ ما يمُت بصِلة بالنيازك، وأحطت بجميع ما يخُصّها، ولتعلم أنها أجسام؛ تدخل في باب الأجرام الفضائية، وتسقط على الأرض؛ يتراوح وزنها ما بين وحدات من الغرامات، وآلاف من الأطنان، وهي على نوعين؛ منها ما يتكون من الصخور، وهذه تُسمى بالنيازك الحجرية، ومنها ما يتكون من المعادن كالنيكل والحديد، وتُعرف بـــِــــ…
قاطعه قائلا:
– أوه… كفى… كفى… إنك لا تُحاضر علينا الآن.
ثم أردف سائلا؛ يتعجل الإجابة:
– أقلت يا هذا أن وزنها يصل إلى آلاف الأطنان، وأنها تسقط على الأرض؟
أجاب بثقة باحث؛ مُتيقِّن بنتائج أبحاثه:
– نعم؛ ومن يَنْبري يريد أن يُنافحني، فأنا مستعد.
قال مُهدّئا للأعصاب:
– لا… لا… لا أحدا في مستوى علمك بالنيازك يستطيع أن يُحاجِجك.
صمت المتصل مدة ثوان، ثم سأله مرة أخرى:
– إنك حامل لشهادة تعليمية عليا، فأي عمل تتعيش منه الآن؟
أجاب بصوت خافت خجول:
– لا أقول بأنني لم أتوفّق في امتحانات التّعيِين، وإنما رسَّبُوني مُقررين بأن التخصص الدقيق في النيازك؛ لا يُؤهّلني لأي تدريس، ثم أن سوق الشغل ليس في حاجة إلى من يُعلمهم في جِرم فضائي؛ لا ينفعهم لا من بعيد ولا من قريب، وأن عُمُري امتدت به السنوات؛ فتجاوز سن التوظيف المقنن، فتابعت دروسا في الميكانيكا بأحد معاهد التكوين.
قال المتصل بعطف:
– أعرف؛ إن رائحة أولئك فاحت.
وأردف قائلا:
– إنّنا في حاجة إليك؛ مادام وزن النّيزك يصل إلى تلك الآلاف من الأطنان، وأنه قد يصطدم بالأرض.
قال بحماس وبيقين:
– إذا سقط بذلك الوزن على مدينة باتساع (نيويورك) أو (الدار البيضاء)، فإنه يُدمرها، وقد أتيتُ في بحثي بأمثلة لذلك، كنيزك (أريزونا)، و(كَرينلاند)، و(جنوب إفريقيا).
قال الـمُهاتف من بعيد؛ مُنهيا الاتصال:
– لهذه المعلومات نحن نحتاج إليك، وستتقاضى الأضعاف، ستنتظرك سيارة تأتي بك إلينا.
وسمع رنة نهاية المكالمة.
لم تمض عشرون دقيقة حتى اهتز هاتفه مرة أخرى، قال له مُتّصل:
– إذا خطوت في إتجاه تقاطع شارع (أحمد شوقي) بشارع (باتريس لومومبا)، ستجد سيارة بنفسجية اللون في انتظارك.
اِمتثل لفتح باب السيارة المصفح والمبطن، ورفع إلى الداخل قدميه عن الأرض؛ لم يجد أحدا يُشاركه المقعد الخلفي، واشتمّ روائح تسترخي لها النفوس؛ كانت السيارة مُسدلة الستائر؛ زجاجها أسود اللون؛ تقصد وِجهة يجهلها؛ كعهده بسنوات الاعتقالات السياسية، وهؤلاء في حاجة إلى معرفته بأحد أجسام الكون فقط، ولا إلى شيء أخر، بعد قطع مسافة؛ دُعي إلى الترجّل منها، ثم أُشير إليه إلى ممرات، وإلى باب يُفتح، وإلى حجرة فسيحة تتوسطها طاولة؛ تجلس إليها أبدان مُرهِبة؛ بأصابع بفصوص من الماس والزُّمُرُّد، ورؤوس صلعاء القُنن، وملامح صارمة؛ سمع أحدا منها ينطق قائلا:
– مرحبا بأستاذنا؛ العالم بالأجرام السماوية… ذلك الكرسي؛ وثارتُه هدية لك، فاجلس.
واستمر الصّمت مدة دقيقة، وعيون بشرية تُرسل عليه نظرات ثقة وتحمس؛ فاه أحد أصحابها؛ بيده سِيجار من ملفوف أوراق تبغ؛ مُخمّرة؛ من بلاد (كوبا)؛ قائلا:
– نحن أثرياء، لا سلطان علينا؛ نستثمر في أي مجال؛ حتى لا يتراجع مال أحدنا، فيصبح من المفلسين في يوم من الأيام، لذلك خططنا لشييد حاضرة مأهولة؛ بأجهزة ووسائل ذكية، وأنت تعلم بأن ممرا (تحتمائي) سيربط بين قارة أوروبا وقارة إفريقيا؛ عبر مضيق (جبل طارق)؛ ما يسمى بـــــ(الربط القاري)؛ هل تصورت إلى أي حد سيسنح لكل سيارات السياحة، وأخرى للخدمات، ولشاحنات البضائع؛ ولقطارات الأنفقة السريعة؛ المرور بدون تأخر، وبعدد كبير، والعبور إلى إفريقيا، أو منها؛ ستكون مدينتنا العشوائية التوسع مُستقبِلة لها أو في طريقها، لا أظنك تقول بأن أزقتها وشوراعها الموروثة عن حاجات زمن بائد؛ مثل زنقة (سبو)، وزنقة (طنجة)، وزنقة (فلان…)، أو شارع (الكفاح)، وشارع (النصر)، وشارع (الصفصاف)، أو حي (الياسمين)، وحي (قُدامى…)، وحي (الفردوس)؛ ذات الزوايا الغير الانسيابية؛ ممهِّدة لوسائل النقل تلك الكاسحة، ولأغراض كثيرة؟ لذلك رأينا أن ننسف مدينتنا عن آخرها بالدّيناميت، ولا نُبقي منها إلا جدارا مغشوش الأسمنت؛ مُشوه المِلاط للذِّكرى؛ مُحوّط بسياج؛ قضبانه من نحاس يُقاوم صدأ الزمن.
قال مُحتجا:
– ومساجدنا ومآذنها؟
رد أحدهم بنبرة صوت قوية:
– أتُشكِّكُنا في إيماننا؟ إنها من أولويتِنا، وسنبني كل مسجد بصومعته؛ في دائرة شعاعات من كل حي.
أسرع، وسألهم:
– وما هو عملي أنا في هذا التشييد الأول من نوعه؟
أجاب المتكلم الأول قائلا:
– أيقبل الجميع بخُطتنا، وتخطيطنا؟ قطعا لا، وقد اهتدينا إلى طريقة قسرية؛ جاءت على لسان أحدنا؛ حين قال: «لو أطبق نيزك على مدينتنا؛ التي لايستجيب تصمميها وبناياتها لطموحاتنا، ونفضنا أيدينا منها»، فكانت الفكرة، وهي أن نُتوّجك أنت عالما بظواهر الكون، فتُعلن بأن نيزكا بوزن آلاف الأطنان سيسقط على المدينة، وسيُحطّمها، فيُبادر السكان إلى ترك بيوتهم، ومحلاتهم، ومقرات مؤسساتهم، التي يُحِنّون بها إلى آبائهم وأجدادهم، ويستمتعون بأَرْيحِية أماكنها، وهذه العمارات الرديئة التصميم؛ تُشم منها رشاوي الصفقات، وهذه البقايا من آثار الأسلاف، التي تقف عائقا؛ من أجل قطاع هش كالسياحة، وسنبني لهم مؤقتا مساكن، ومقرات لشؤونهم العامة مُركبة؛ نُفككها فيما بعد، ونبيعها خُردة إلى الصينيين؛ بعد بناء الحاضرة، وعودتهم إليها.
برز من بينهم آخر قائلا:
– ليس ما سنفعله تمفْصُلا؛ إنه قطيعة مع ماضي الانزلاقات.
قال بوعي متواضع بالسياسة:
– سيُكذّب علماء الكون؛ من بلدان أخرى مزاعمَكم، ولكي تُصدّقنا نسبة كبيرة منهم تُؤازِرنا، فلا مناص من بناء مِقراب فضائي هائل على قمة جبل (توبقال) العليا، يُضاهي مقراب جزر (الكناري)، ومقراب جبال (البرانس)، نقول أننا رصدنا به النيزك الآيل إلى السقوط.
اِبتسم مدخن السيجار الكوبي، وقال:
– دونك ما طلبت، سيكون المقراب شامخا بأنبوب عَدَستِه بعد أسبوع.
أبرق مركز بحوث الفضاء، إلى بُرُد مواقع وكالات الأنباء والصحف الإلكترونية؛ خبرا بأن نيزكا سيسقط على مدينة بالذات؛ سيرتطم بها بقوة؛ إلى حد أنه سُيدمرها؛ مثل ما تفعل القنبلة النووية، وفي التاريخ الـمُتنبّأ به؛ تم تحديدهما بناء على حسابات رياضية لإحداثيات المكان، ولتوقيت السقوط، وهي المدينة التي يُطل توسعها العمراني من جهة الغرب على البحر، ومن جهة الشرق على ضفة النهر اليسرى، وما يزال هناك وقت لإخلائها، وبناء بيوت، ومقرات للتجارة، وتسيير الشؤون الإدارية؛ مؤقتة؛ وأن عالم الكون الذي ترقّب النيزك؛ رهن إشارة أسئلة الصحافيين.
وقد رُوّع سكان المدينة بالخبر، وهناك من حَسِبه عقابا دُنيويّا، فتركوها خالية؛ حاملين منها إلا النفيس؛ من مال، أو معدن، مُشرئبة أعناقهم، ناظرة أبصارهم إلى السماء؛ ينتظرون ظهور النيزك، ثم وهو ينزل على مدينتهم… وهذا ما لم يحدث، والذي عاينوه، ولم يكن خيالا، وهو أن مدينتهم أُقتلعت من أساساتها، وجُرفت حيطانها، ولبناتها، وأُعليت مكانها ناطحات سحاب بزجاج و(ألمنيوم)، وبخلايا شمسية؛ تجوب طوابقها مَرْكبات طائرة ذكية، ووُسِّعت الطرق، وأُقيم بُنيان هنا، وبنيان هنالك؛ يغرقان في محيط من الأعشاب والأشجار، زُيّن بنافورات تُرسل الماء في الجو؛ تعكس الأضواء حُزمةً من ألوان قوس قزح، وعُين لكل فرد وأعضاء أسرته سكن، وللمهنيين محالّ، وقد رجعوا بأمل؛ لم يدم إحساسهم به طويلا، لقد جُردت فئة من التجار، وذوي الصنعة من أسباب أرزاقهم، فما أفرزت الحاضرة الجديدة بتصاميمها وبنية طرقها؛ جنسا من المستثمرين احتكروا وسائل الإنتاج.
خرج المتضررون إلى الشوارع؛ مُشهرين بكذب أصحاب الأموال الطائلة عنهم؛ بأن نيزكا سيُبدّد مدينتهم، وأنهم فقدوا أسباب كسبهم، تقادمت وسائلها، وموادها الأولية؛ بأخرى مبتكرة في كل شيء؛ ظهرت مع المدينة الجديدة، وتوجهوا إلى مركز بحوث الفضاء، طالبين أفراد الجماعة الـمُخطِّطة، وعالم النيازك، ليجيبوا عن أسئلتهم، وإلا سيُبيدون ما بُني من المدينة الكبيرة، خرج عليهم مُدخّن السيجار؛ بعينين ضيقتين، لا تُلقي للأمر بالا، مكتنز الوجه، تبرق وجنتاه بالدم؛ قال بهدوء:
– ماذا تريدون بعد أن أهلنا مدينتنا لآستيعاب ذلك التطور؛ السريع الوتيرة في الإقتصاد العالمي.
تعالت صيحات القادمين سائلين:
– كذبتهم عنا، هي طريقة فكرتم فيها؛ لتستحوذوا بأنماط تسيير اقتصاد لصالحكم؛ ابتكرتموها.
أجاب، وهو يمص دخان التبغ، وينثره بفمه في الهواء:
– هذا عالم النيازك، له إجابة مُقنعة، فاستمعوا له…
تقدم عالم النيازك بتُؤدة؛ بوقار العلماء؛ بشعر ممشوط بعناية خاصة؛ مُسدلة خصلاته، وشارب مبروم، كان قد أُرسل إلى حلاق؛ صنع من هامته شخصا ذا هيبة علمية، وقال:
– إن النيازك على نوعين، نيازك تتكون من صخور، وأخرى من معادن، الأولى تتبخر، أو تنفجر إلى شظايا قبل أن تسقط، والثانية هي التي تهوي من الفضاء على الأرض، والنيزك الذي رأيناه في المقراب هو من النوع الأول، تبخّر وانفجر قبل أن يصطدم بمدينتكم.
قال أحد المحتجين بأدب:
– صدّقناك أنت، ولكن هؤلاء اتخذوها ذريعة؛ لبناء مدينة تستجيب لآستثماراتهم الكبيرة، فقضوا بذلك على فئات كثيرة، كانت تتعيش من تجارتها وصنْعتها.
قال رئيس الجماعة الـمُهيمِنة:
– لهذا حل.
سألوه بأمل:
– ما هو؟
أجاب باقتضاب:
– تشتغلون في مؤسساتنا أجراء؛ بأجور عالية، قد لا تحصلوا عليها من أعمالكم الخاصة.
أجاب واحد منهم:
– هكذا إذن، تجعلوننا أرقّاء وأقنانا عندكم.
وحاولوا أن يندفعوا إليه، ليُجهزوا عليه، إلا أن أفراد قوة خاصة؛ بوجوه وعضلات مخيفة، مدربون على حماية أفراد الجماعة؛ باستعمال أي سلاح، سواء كان ناريا، أو ذا نصل يطعن وينحر؛ أرجعتهم على أعقابهم.
بعد انقضاء زمن ليس بيسير، والتمدن الجديد الـمُحتكر؛ ما يزال في جلبة عدم التفاهم، وفوضى عدم التوافق، إذ نظر عالم النيازك في المقراب، فرأى ما أرعبه؛ إنه نيزك بقَدْرٍ؛ بحيث إذا سقط على الأرض؛ سيأتي على اليابس والأخضر؛ على الزرع والضرع، ويُبدد الكائنات، فخرج مُهروِلا، وهو يصيح في الناس؛ جَزِعا عليهم:
– إن النيزك هذه المرة حقيقة؛ لا مِراء فيه، لا تُكذِّبوني… وسترون بعد ثلاثة أيام حال مدينتكم، وإلى أين سينتهي، ستُعِدّون أمواتكم بالملايين.
لم يُصدّقوه، فرموه بحجارة حادّة، وأدموه بعِصي غليظة، وأودعه بُناة مشاريع الرّبح؛ أحد مَلاجِئ المجانين.