
مرض السكري بجملة مختصرة هو سرطان بطيء لاشفاء منه. هذه الحقيقة استطاع أن يقهرها رجل صبور في عمل استغرق ربع قرن هو (دوجلاس ميلتون Douglas Milton)، لذا نزف مع هذه المقالة أجمل خبر لمرضى السكر.
تبدأ القصة بالأحرى محنة هذا الرجل مع طفله سام (Sam) الرضيع عام 1991م، ففي الشهر السادس بعد ولادته بدأ الطفل في إقياء مزعج.
هرع الوالدان إلى مشفى الأطفال في بوسطن. تمت دراسة الطفل لتأتي النتيجة مزلزلة: ابنكم مصاب بالسكري. لم يستوعب ميلتون الكلمة فهو أيضا عالم في بيولوجيا التطور؟ هل هو مرض خطير وهل من شفاء؟ الجواب حقن الإنسولين مدى الحياة.
محنة لايعرفها إلا من واجهها، لرضيع سوف تبدأ لدغات الأبر تتناول أماكن شتى من جسده الطري مثل لسعات العقارب؟ ولكن لابد منها؛ وإلا فسوف يغرق الطفل في (تقند) الدم فالغيبوبة فالسبات فالموت.. لا .. لا .. صرخت الأم. اكتملت محنة العائلة حين بلغ (سام) العاشرة لتلحقه أخته (إيما) بالمصيبة ويعلن لها الإصابة أيضا بمرض السكر.
عندما استفاق دوجلاس من الصدمة فكر في نفسه أنها حرب يجب الإستعداد لها فكرس نفسه لمرض السكر.
معلوماته كانت محدودة، عمد إلى المصادر الطبية والتاريخ والتعليقات وكل ماوصل إليه البحث العلمي عن هذا المرض فعكف على فهمه بعمق فقد أصبح الموضوع يهمه شخصيا في نكبة عائلته، وعرف أن ابنه واحد من ملايين كثيرة على امتداد قطر الأرض مصابين بهذه اللعنة.
نقطة البدء أن الإنسولين الذي كشف تركيبه (سانجر) في عمل شاق استغرق عشر سنين، هو مركب من سلسلتين من أحماض أمينية بينها جسور كبريتية مضاعفة.
وأن البانكرياس وهي غدة تقبع خلف المعدة فيها ضرب من الخلايا عجيبة كشفها طبيب شاب كندي اسمه (لانجرهانس) أطلق عليها (خلايا بيتا) وهي حوالي 2 مليون جزيرة، مهمتها إفراز هذا الهورمون، فإذا زاد السكر في الدم إلى الحافة الحرجة، أوعز إلى خلايا العضلات والشحم بامتصاص الزائد وخزنه ليستفيد منه الجسم في حالات المجاعة، وهذا التنظيم المدهش يعود الفضل فيه إلى غدة البانكرياس، بكلمة أدق خلايا بيتا في جزر لانغرهانس.
استطاع (خورانا) وهو امريكي من أصل هندي أن يلعب في جينات جراثيم (ايشريشا كولي) تعشش في براز البشر، ولكنها ممتازة لتصنيع الانسولين البشري فيها، فقد كان الاعتماد فيما سبق على الانسولين من البقر أو الخنازير إذا نحرت، أن يجمع منها البانكرياس في حمولات تعصر ويؤخذ منها الانسولين.
مع طريقة خورانا لم يعد ثمة لهذا، فقد تم تصنيع الإنسولين ومن النوع البشري (هناك فروق في اثنين أو ثلاث من الأحماض الأمينية ولكنها كافية، فكلمة فكر يمكن أن تقلب إلى كفر بتغيير بسيط في جدلية الحروف وارتباطاتها أو كما في كلمتي سوريا وكوريا)؟.
صمم ميلتون على قهر السكر بطريقة مختلفة، وكان ذلك بعد علة ابنه بسبع سنين حين اخترق العلم خفايا الخلايا بعد هزة النعجة دوللي، والوصول إلى اعتماد تقنية الخلايا الجذعية.
وهي الخلايا الأولى التي تؤخذ من الأجنة، ويمكن تصنيع أي نوع من الخلايا منها أيا كانت عظمية أم دموية أم عصبية، أم ـ كما في حالتنا خلايا بيتا المنتجة للإنسولين البشري، هذه الخلايا فيها السر الأعظم للحياة وتصنيع الأنسجة المختلفة التي تبلغ في الجسم نحو 210 نوعا من الأنسجة من دم ولمف وعظم وشحم (ESC=Embryon Stemm Celle).
قال ميلتون في نفسه: حسنا علينا إذن أن نصنع منها خلايا بيتا المفقودة عند المصابين بالسكري من النوع الأول (النوع الثاني لكبار السن يحصل مع ضعف البانكرياس عندهم أما الأول والصعب فغامض الهوية مجهول السبب تماما). فهذه هي الطريقة السببية والجذرية لمعالجة المرض.
قام بإنشاء مركز البحث في الخلايا الجذعية في جامعة هارفارد، ثم شركته الخاصة التي تجمع اسم ابنه وابنته المصابين (sam+emma) (نذكر أن الرجل امتحن بابنته حين بلغ سام العشرة فلحقته أخته أيما بالمرض).
أطلق على إسم الشركة سيما (Semma) تيمنا بالشفاء لولديه، وبالتعاون مع روبرت ميللمان (Robert Millman) الخبير بتقنيات الجينات أسسوا هذه الشركة وانطلق البحث عارما.
كان التحدي الأول أمام ميلتون هو كيفية إقناع الخلايا الجنينية في شق طريقها للتحول إلى خلايا بيتا التي تنتج هورمون الإنسولين، كانت الحكومة الأمريكية متشددة جدا ومتخوفة من استخدامات خلايا الأجنة.
جاء الفرج من عمل فريق أمريكي ياباني عام 2007م حين وصلوا إلى تقنية قلب أي خلية في الجسم إلى خلية جذعية تعيد سيرتها الأولى مثل أن ينقلب أحدنا غلاما في المهد صبيا، مايذكر بمعجزة نطق عيسى بن مريم.
عكف ميلتون على الطريقة الجديدة وحذقها وصقلها حتى استطاع اختراق الحاجز بخلطة سحرية تعتمد ثلاث مراحل من ثلاث خلطات تسبح فيها الخلايا بين اليوم الأول والرابع والسابع ثم حتى اليوم 35 فتولد خلايا بيتا المسئولة عن إنتاج الإنسولين، إنها الروعة بحد ذاتها لقد تم كسر السحر وقهر السكر.
الرحلة لم تنتهي بعد، لابد أولا من التجربة ليس على البشر بل البقاء في مرحلة المخبر، ثم إقناع الجو الطبي بالتعاون والسماح بالتجربة على بني آدم، وقبل ذلك إقناع المؤسسات الحكومية بالسماح للعلاج بالانتشار والتطبيق (مصلحة GMP=Good Manufacturing Practice) ثم التسويق والسماح الحكومي (FDA).
ثم هناك مخاطر شتى يجب توقيها مثل أن توقظ الخلايا أوراما ليست بالحسبان، أو أن تفرز الكثير من الأنسولين، الذي يدخل المريض صدمة هبوط السكر الحاد القاتل، أو نقل فيروسات إنتانية خطيرة من حوض التجربة.
فكر (دوجلاس ميلتون) طويلا لتفادي هذه المشاكل والأهم صرامة الجهاز المناعي في القضاء على أي دخيل من أي لون من الخلايا ولو كان فيها الشفاء، فالجسم حريص على النقاوة الداخلية من أي دخيل غريب. هل يروض الجهاز المناعي؟ هل ندخل الخلايا متخفين في ثوب جاسوس.
قام أخيرا بتجربة سماها كيس الشاي من إدخال السكر مع الإنسولين وتحييد الجهاز المناعي وهكذا شق الطريق ليس لانقاذ ولديه بل أطفال العالم أجمعين.