بعد مرور عقد من الزمن على أحداث الربيع العربي، أو كما أسميته الهبة الشعبية الكبرى لشعوب المنطقة العربية أو الدفع الأكبر نحو عودة الأمة العربية والإسلامية إلى ريادة العالم من جديد.
لم تستطع، جل الأجهزة الأمنية المحلية و الدولية و الإستخباراتية توقع حدوث تلك الهبة الشعبية بذلك الزخم الكبير و في تلك الفترة الزمنية بالتحديد، كان التسويف و الوعود الرنانة بالإصلاح شعار جل الأنظمة العربية في المنطقة.
وعود موسمية تظهر في المناسبات الإنتخابية عند فتح الدكاكين الإنتخابية من قبل نخب سياسية انتهازية و وصولية تدعي الوطنية و القومية و الدفاع عن حقوق المواطنين من أجل العيش الكريم و الحياة الكريمة، لكن التجربة أثبتت أنها تسعى فقط لتنال نصيبها من الغنيمة السلطوية و الدفاع عن المطالب الفئوية و النخبوية، وصدق المثل الذي يقول “لا يوجد في القنافذ املس”.
فجل التنظيمات السياسية و النقابية و حتى المدنية، من أحزاب سياسية و نقابات عمالية و مجتمع مدني، إستهوتهم الغنيمة السياسية و المصالح الشخصية بدل الاشتغال من أجل مصلحة الوطن والمواطن و إقامة دولة المواطنة الحقة، حيث تتساوى الحقوق والواجبات، دولة العدل و الإحسان .
توالي الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية ولدت احتقانا شعبيا بدأ في التنامي مع مرور الوقت و السنوات، و بذلك شهدت دول المنطقة العربية انتفاضات شعبية بصفة دورية على مدى السنوات و العقود التي مضت، تعاملت معها الأنظمة بسياسة العصى تارة والجزرة تارة أخرى.
هذا الاحتقان الشعبي التراكمي ولد ذلك الانفجار التلقائي و الهبات الشعبية في كل الوطن العربي، انتفاضات شعبية عفوية غير مؤطرة و لا مسيسة تحمل لونا واحدا و مطالب محددة جمعت في شعار واحد “عيش كرامة عدالة اجتماعية”.
انطلقت الشرارة من تونس الخضراء، لتنتقل بعد ذلك لكل ربوع هذا الوطن الممتد من المحيط إلى الخليج العربي، اعتبرت سلمية الاحتجاجات الشعبية نقطة قوة في صالح هذه الهبات الشعبية المحكمة التنظيم و المتواصلة الزخم و التصاعدية التفاعل محليا ودوليا.
بدى المشهد دراماتيكيا بالنسبة للفاعل السياسي المحلي، فكل الهيئات السياسية و الأحزاب السياسية، كانت غائبة عن هذا الدفع و الحراك الشعبي، لأسباب ذاتية و أخرى سياسية و التردد في المشاركة خوفا من فقد الغنيمة السياسية و رضا السلطة عليها و انتظار الضوء الأخضر من الجهات الخارجية، خصوصا من امريكا في كل من مصر و الشام و اليمن ،و فرنسا بالتحديد بالنسبة لدول شمال افريقيا، فالتبعية السياسية والإقتصادية والثقافية كلفت الشعوب العربية والإسلامية الكثير و ساهمت في تأخير قطار التنمية المستدامة و النهوض بالمنطقة وشعوبها نحو مستقبل أفضل، و خصوصا وأن جميع مقومات ذلك متوفرة و بشكل كبير: الطاقات البشرية و الثروات الطبيعية و الموقع الاستراتيجي.
كان الغرب يلاحظ عن كثب ما يحدث في المنطقة العربية و يسارع الخطى لإيجاد البدائل الممكنة، حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة، فكان حتما عليه مساندة تطلعات الشعوب العربية ضمنيا للحفاظ اولا على مصالحه في المنطقة و التفكير في البديل الاوثق و الشريك المثالي للحفاظ على أمن وسلامة الكيان الصهيوني في المنطقة، كانت الخيارات صعبة سياسيا، أمام الأنظمة العربية، إما الذهاب نحو التغيير السلمي للسلطة، أو المواجهة الصفرية مع الشعوب.
وقد إقتنعت بعض من هذه الأنظمة بالتغيير السلمي و الذهاب نحو إصلاح متدرج لحين مرور العاصفة، فيما كانت المواجهة الصفرية خيار أنظمة أخرى.
فيما كانت الأجهزة الأمنية و الإستخباراتية و السياسية في الغرب تراقب الوضع عن كثب و ترسل تقارير آنية ليتم اتخاذ القرارات المطلوبة، فيما تكفلت المكاتب الدبلوماسية بالعمل على الأرض بفتح حوارات جانبية مع النشطاء السياسيين و مع فصائل المعارضة و قادة الجيش.
وقد كان لهذا العمل الدبلوماسي التأثير الكبير في استمالة المعارضة وإقناع قادتها بالتفاوض مع الأنظمة للخروج من الأزمة بأقل الأضرار و القبول بالخروج السلمي للأنظمة من السلطة، أو خيار تداول السلطة في دول أخرى.
تم التمهيد لكل شيء بدقة عالية و بمكر كبير حتى لا تعم الفوضى في كل المنطقة العربية و لا تتضرر معها المصالح الإستراتيجية و الإقتصادية للغرب في المنطقة.
كانت الرسالة واحدة لكل النظام العربي، التنحي عن السلطة سلميا أو تسليم السلطة للمعارضة أو مواجهة الشعوب.
كان التنحي عن السلطة في تونس و مصر، فيما كانت سياسة الإحتواء و الإصلاح في اليمن و المغرب، لكن لغايات أخرى اختار النظام السوري و الليبي المواجهة مع الشعب.
لم يكن من مصلحة الغرب إسقاط نظام الأسد في سوريا، لاعتبارات سياسية كثيرة من أهمها حماية أمن إسرائيل الاستراتيجي، لأن البديل المهيأ لاستلام السلطة في سوريا هم الإسلاميين و هنا تكمن المشكلة، فلا يمكن السماح بوجود شوكة قوية في خصر الكيان الصهيوني.
و هو الذي يعاني المر مع فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة بالتحديد، التهديد كان سيكون أكبر إذا ما تم السماح للإسلاميين بحكم سوريا، فكانت المجزرة و الفتنة الطائفية و الدينية و المذهبية و الاقتتال بين الفصائل المسلحة و الدعشنة، و التدخل الأجنبي أي العمل على أن لا يكون هناك استقرار ولا دولة في سوريا.
في مصر، جرت الأمور بالشكل الذي يريده الغرب، فقد كانت وصاية الجيش المصري هي الفيصل للتنحي عن السلطة، و بذلك ربحت الدول الغربية شوطا كبيرا في اللعب على ورقة الانقسام بين الفرقاء السياسيين فيما بعد و الشيطنة فيما بينهم و السماح للجيش بالانقلاب على اول سلطة مدنية منتخبة ديمقراطيا في مصر.
لم تكن للإسلاميين في مصر الخبرة و لا الدهاء الكافي للتعامل مع ما دبر بليل، فقد سقطوا في الفخ و مكر الليل والنهار من حيث يعلمون و من حيث لا يعلمون. كانت المؤامرة على مستوى عالمي و بهندسة و كومبارس محلي لكن المحزن في الأمر هو ذلك الكم الهائل من الضحايا الذين سقطوا في مصر من أجل حلم اجهضته أيادي الغدر والخيانة.
في ليبيا، كان المشهد مختلفا، إجماع الغرب على إسقاط نظام معمر القذافي بالقوة و التدخل العسكري، كان لاستقدام المرتزقة الأفارقة دور كبير في تأخير سقوط النظام الليبي، كما أن كثرة المتدخلين في الساحة الليبية أدى إلى تعثر الثوار ميدانيا على الساحة العسكرية، لقلة الإمدادات و لتبعثر الجهود بين ثوار شرق ليبيا و ثوار غرب ليبيا.
وقد استغلت هذه الثغرة فيما بعد لشق صف الثوار بعد إسقاط النظام الليبي و بعد بداية ناجحة للثوار في وضع أسس لبنات دولة متعددة الأقطاب.
لكن الانقسام جاء ليدخل ليبيا في متاهة الاحتراب و الاقتتال الداخلي بتدخل أطراف خارجية إقليمية ودولية تتنازع من أجل الظفر بخيرات ليبيا، مستغلين عدم الإستقرار بها، و عدم النضج السياسي لدى النخبة السياسية في ليبيا و الارتهان و التبعية للغرب.
في تونس الخضراء، تنفس الثوار الصعداء بتخلي بن علي عن السلطة، و تم تنصيب حكومة انتقالية لحين إجراء انتخابات برلمانية ووضع دستور جديد للبلاد بصفة دائمة، تم الإتفاق على الدخول في تجربة جديدة تضمن التداول على السلطة، بشكل توافقي و تخرج البلاد من نظام صوري غير ديمقراطي و غير تعددي، كان لزاما التوافق الوطني بين مكونات الهيئات السياسية بكل أطيافها و تم انتخاب مجلس تأسيسي يقوم بوضع دستور جديد للبلاد و انتخب رئيس للجمهورية من قبل المجلس التأسيسي لضمان سلامة العملية الانتقالية و السهر على نتائجها و تحقيق العدالة الإنتقالية و المصالحة الوطنية.
كان التنافس على أشده بين التيار الإسلامي و التيار العلماني بتونس، وزاد من حدة التوتر قرب الاستحقاق الانتخابي و قبله التصويت على الدستور الجديد.
كانت العوائق في السنوات الانتقالية كبيرة، خلقت جوا من التوتر السياسي مما أدى بشكل كبير إلى عدم الاهتمام بما فيهالكفاية بالمعضلات الاقتصادية والاجتماعية، الشيء الذي كان له تأثير على نتائج الاستحقاقات الانتخابية التي جرت في 2014 و التي أعطت الفوز للتيار العلماني بفارق ضئيل عن التيار الإسلامي مما جعل مستحيلا الانفراد بالسلطة و كان لزاما على التيار العلماني الدخول في توافقات مع الإسلاميين لتمر المرحلة الانتقالية بسلام.
كان التجاذب قويا بين التيار اليساري و الإسلامي مما افقد العملية السياسية الدور المنوط بها و أثر ذلك سلبا على العمل ذلك قبة البرلمان و تعقد المشهد السياسي و تعقدت معها القضايا الاقتصادية والاجتماعية و دخلت تونس في النفق المظلم بفشل النخبة السياسية في إيجاد حلول للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية ووضع خطة طريق سياسية تنقد تونس من أن تصبح في مصاف الدول الفاشلة.
وقد ازدادت الأمور تعقيدا بوصول الرئيس قيس سعيد إلى سدة الحكم، بحيث في خطوة جريئة إنقلب على الشرعية الدستورية و أعلن تجميد عمل البرلمان والحكومة و ألغى الدستور، وبذلك أعاد تونس الخضراء إلى المربع الأول، اي أجواء ما قبل ثورة الياسمين.