هل كان المفتي المعزول الصادق الغرياني موفّقا في إطلاق فتوى التحريض بالقتال ضدّ الشرق الليبي الآمن، في لحظة تاريخية تحتاج فيها ليبيا إلى كثير من الإلتئام والتوافق؟
هل تحريضه لرئاسة حكومة الوحدة الوطنية والميليشيات المقاتلة، هو فتوى لتفجير الوضع وإدخال ليبيا في حرب أهلية؟
ماذا يعني تحرير ليبيا في نظر مفتي تجاهل مقاصد الشريعة وعلم السياسة في تحرير فتوى من دون استدلال وإجماع علماء بلد لا يمكن الاستبداد فيه بالفتوى. وتبدوا فتوى الحرب الأهلية للغرياني في حاجة إلى نقاش وتأمّل من زاويتين: سياسية وشرعية.
الزاوية السياسية: في سياق دولي وإقليمي تحتاج فيه ليبيا إلى بيئة آمنة لاستكمال بناء الدولة الليبية، يكون من الخطأ أن يصبح مصير ليبيا في قبضة إفتاء غير مستقل إلاّ شكليا. ونظرا لموقعية دار الإفتاء الليبية في تعديل 20 فبراير 2012 الذي أقرّ قانون رقم 15 الخاص بدار الافتاء الليبية، الذي بموجبه تم تعيين الغرياني رئيسا للدار نفسها ، التي اعتبرها المجلس الوطني الانتقالي برئاسة مصطفى عبد الجليل، جهة مستقلة تابعة لرئيس الجمهورية أو من يحل محله.
وفضلا عن التحولات التي عرفها الوضع الليبي، وفضلا عن النقاش حول مدى دستورية وشرعية دار الإفتاء، فإنّ الغرياني مارس سلطة الفتوى على نحو الإلزام، وتدخَّل في كلّ تفاصيل السياسة الليبية.
كيف يمكن لمفتي أن يمارس خطابا تحريضيا يشوش به على السياسة الداخلية والخارجية، ويساهم في تقسيم البلد عبر التحريض على حرب أهلية بين أبناء الوطن. من يسعى إذن لتقسيم هذا البلد؟
استقلالية دار الإفتاء رغم عدم صلاحيتها، لا تعني استقلالية المفتي عن الخطّ التنظيمي في الخطاب والممارسة. الغرياني لم يصدر فتوى واحدة ضد برنار هنري ليفي، كما أفتى بما يسهّل بسط النفوذ التركي على الغاز الليبي، كما دعى إلى شكر قطر باعتبار أن من لم يشكرها فهو أدنى مستوى من كلب(حسب تعبيره).
هل هي فتوى جامعة للشروط الفقهية ام هو موقف سياسي؟ هل هي فتوى تنظيم ام فتوى امة؟ فمن المنظور السياسي، هي فتوى تمثّل تنظيمات معينة ومصالح قوى إقليمية، وهي في نهاية المطاف فتوى لا تساعد على بناء دولة واستمرار مجتمع.
الزاوية الشرعية: لم تقم بعد الدولة الليبية الموحدة بكامل سيادتها التي تتنزّل في معيار الشرع مقام مبسوطية اليد للحاكم الشرعي، كي تصبح فتوى النّزال مُلزمة.
من شأن الفتوى التي تنطلق من مُداراة واصطفاف مع مصالح إقليمية أن تفقد صاحبها شرط العدالة. وحيث أنّها فتوى تفتقر إلى الإلزام، وهي غير مُمَكَّنة بقضاء قوي وموحد ومستقل، تصبح الفتوى جماعاتية وليست مجتمعية.
يبدو السؤال بديهيا: ما هي السلطة التي تُخول الغرياني توجيه فتوى النفير ضدّ أبناء الشعب الليبي في شرق البلاد؟ وما هي المصلحة في إعلان الحرب على القوات المسلحة العربية الليبية وهي العمود الفقري للدولة الليبية المفترضة؟
في شرق ليبيا هناك نموذج قائم، قوات مسلحة من أبناء الشعب الليبي، يمتلكون حسّا وطنيا، وإرادة لتحرير ليبيا من الإرهاب ومن التدخل الأجنبي، لا يمكن أن تزايد عليهم مجموعات تتغذّى على شعارات أيديولوجية غير واقعية. فالفتوى الأخيرة جعلت من جزء من الشعب ومنطقته، دار الحرب، وهذا إشكال فقهي.
لا تحتاج ليبيا إلى إنشاء جيوش إضافية. والتحريض على الشرق الليبي تحت طائلة أي دعوى، هو زعزعة استقرار منطقة عاشت كل هذه الفترة حالة من الاستقرار. وقد تأكد أن فتوى الغرياني، تجاوزت النظام الدولي والشروط الخطيرة التي تمرّ منها المنطقة، لتعيد الوضع إلى المربع الأوّل، وتدخل المنطقة في الإضطراب.
يراهن الغرياني في هذه المعركة التي ترفع شعار تحرير ليبيا، على التدخل الإقليمي والدولي، وإفشال برامج القوات المسلحة التي هي المكسب الوحيد المتبقي من عناصر قيام الدولة. هل هي دعوة لتحرير الشرق الليبي من إرادته الشعبية؟
ليبيا أكبر من أن تظل رهينة لهذا المزاج التحريضي، وهي في حاجة ماسة إلى كتلة تاريخية، خارج شقاوة العقل السياسي والفتاوى التي تخالف مبنى العقلاء والمتشرّعة معا، إذ مقتضى المقاصد حفظ الحياة، بل حفظ الحياة الجماعية هو مقصد أسمى، بل حفظ الحياة والاستقرار في ظرفية حساسة تمرّ منها المنطقة، تتطلّب الأخذ بالاحتياط وجوبا، أي الاحتياط في المقام هو أوجب الواجبات.
ومثل هذه الفتاوى هي تحريض على إراقة الدماء الحرام وقتل النّفوس المحترمة. ومن لا يقدّر هذه الاعتبارات في الفتوى الشرعية، ومن يتسامح في أحكام الاقتتال، ومن يستهدف استقرار منطقة قطع أبناؤها مشوارا في تطهير المنطقة من الإرهاب، سيكون عونا لأعداء ليبيا على ليبيا.
التّسرع في أحكام الاقتتال معرّة المفتين، وهو ليس مؤشّر على ضعف استنباط الأحكام من مواردها المقررة، وضعف في تشخيص موضوع الحكم ومقاصده فحسب، بل هو أيضا مُقوّض للعدالة، وغير العدول لا تُؤخذ منهم فتوى.
لا يمكن أخذ شيء بالحرب، لأنّ شرق ليبيا منيع، والحرب عليه ليست نزهة، فما الفائدة من التحريض؟ لا مخرج إذن لليبيا إلاّ بالحوار الوطني الشجاع، بوحدتهم وتوافقهم، وإنّ فتاوى الحرب الأهلية تُعقد مسار الحلّ وتسهل رهن ليبيا للتدخل الخارجي.