آراءمجتمع
أخر الأخبار

المعارض الدوليّة للكتاب.. تطرح اشكالية النشر والقراءة

بعض الكتّــــاب: هل يكتبون أكـثر ممّا يقـرأون؟

يُتَّهم الجيل الجديد من الكتّاب الشبّان بأنه جيل لا يقرأ، بل إنه جيل يكتب أكثر ممّا يقرأ، والمفروض أن يفعل العكس. توجيه هذا الاتهام جاء نتيجة رغبته أو هوسه في النشر (في الصحف والمجلات) الذي يشكو منه بعض الشباب الكاتب في العالم العربي، أو في سواها من بلاد الله الواسعة. والمقصود هنا بهذه الأزمة هي الرغبة الملحّة التي تراود بعض الكتّاب من الشباب وتدفعه إلى الاستعجال في عملية النشر المبكّر.

أمّا الأزمة بمفهومها الواسع، فلا يشكّ أحد في أنها قائمة بالفعل، خصوصاً لدى الشباب الذي اكتملت لديه عناصر النضج الفنّي، وتوفّرت عنده بالفعل مؤهّلات النشر، إلا أنه مع ذلك يعاني ويواجه أزمة نشر حقيقية، ولا يجد جهة تسانده في تحقيق أحلامه أو بلوغ مأربه، رسمية كانت أم غير رسمية.

العبرة ليست بـ “الكمّ المهلهل”

إن الشباب دائم الحماسة والاندفاع، كما إنه سريع السعي نحو الشهرة والذيوع المبكّرين، وهو يجعل من ذلك مقياساً لمعرفة نفسه من خلال طاقاته وإنتاجه. والواقع أن العكس هو الصحيح، إذ ليست العبرة في “الكمّ المهلهل” الذي ينتجه أو يقدّمه هذا الكاتب أو ذاك من أيّ نوع، بل إن العبرة الحقيقية تكمن في “الكيف الجيّد” الذي تجود به قريحة هذا الكاتب أو سواه.

والأمثلة على ذلك كثيرة متعدّدة في تاريخ الخلق الأدبي، فكم من كاتب يصادفنا أثناء قراءاتنا المختلفة، ويحتلّ في أنفسنا مكانة أثيرة، ومنزلة مرموقة لعمل واحد جيّد من أعماله أو عملين بهما سائر كتّاب عصره، في حين أننا قد نجد كثيرين غيره من الكتّاب ممّن كثرت تآليفهم، وتعدّدت كتبهم، وتنوّعت ميادين اهتماماتهم، لكنّنا مع ذلك ربما لا نجني من وراء “غزارتهم” هذه طائلاً ذا قيمة.

فهل حقّاً أنّ بعض الكتّاب الشباب يكتبون أكثر ممّا يقرؤون..؟ بطبيعة الحال لا يمكن الجزم فيه نفياً أو إيجاباً، ذلك أن كلتا الحالتين قد يكون لهما وجود بيننا بالفعل.

أما الكاتب المتسرّع، فسرعان ما يكتشف أمره لدى القرّاء، وذلك من خلال كتاباته التي استعجل نشرها، إذ قد تكون هذه الكتابات تفتقد إلى النّضج أو المقوّمات الضرورية التي تجعل من العمل الأدبي عملاً جيّداً أو على الأقل عملاً مقبولاً. وقد تصبح هذه الكتابات، من ثمّ، أشكالاً بلا مضامين ذات قيمة، أو على العكس من ذلك قد تكون مضامين ذات قيمة في قوالب هشّة ضعيفة.

أما الكاتب الجاد المتأنّي (القارئ الدؤوب)، فغالباً ما تظهر في كتاباته المبكّرة علامات تميّزه عن غيره، تكون بمثابة إرهاصات تنبئ بولادة كاتب جيّد، وتبشّر (سوق الكتابة) بخير عميم.

وهنا يتّضح الفرق بين الأول الذي لا يبذل جهداً يُذكر في البحث والمثابرة والتحصيل والتتبّع والإطّلاع، وبين الثاني الذي يتتبّع باستمرار وبلا وهن خطى الفكر، ويقتفي عن كثب آثار الإبداع في كل مكان داخل وطنه وخارجه.

أي أنّه يتتبّع ويقرأ ويهضم كل ما ينشر في الثقافات الأخرى من جيّد وجديد الأعمال وأنجحها المكتوبة بمختلف اللغات ومن مختلف الأعراق، ويغذّي كتاباته وإبداعاته قبل كل شيء بالتراث الذي لا غنى له عنه.

الاستعجال في النشر

عيب بعض الشبّان إذن هو استعجالهم في عملية النشر، مع أن هذه الفرصة لن تفوتهم أبداً. أما الذي يمكن أن يفوتهم حقاً فهو فرصة اطّلاعهم وقراءتهم وتتبّعهم لكل جديد في مجال تخصّصهم أو ميدان اهتمامهم على الأقل.

فالعالم دائم الطوّر، وعجلات قطاره لا ترحم، تركض بدون هوادة أو انقطاع، وفي كل يوم يقذف إليهم الفكر الإنساني بالجديد المذهل في كل فرع من فروع المعرفة والعلم والأدب والإبداع والثقافة بوجه عام. ممّا ليس للأديب الحقّ أبداً ولا مهرب من متابعته وهضمه واقتفاء آثاره، والتسلّح بسلاحه الذي يواجه به العالم المحيط به، والذي يجعل منه غذاءً روحيّاً وثراءً لكتاباته وإبداعاته المتعدّدة.

ينبغي إذن ألا تشغلنا أو تشغلهم دعوى هؤلاء الذين يبالغون في الشكوى ممّا يمكن أن يسمّى “أزمة نشر”. وعليهم أن يوجّهوا عنايتهم، وأن يركّزوا اهتمامهم في المقام الأول على الإطّلاع الواسع، وعلى المزيد من التحصيل والتتبّع. وأن يبتلوا بشره القراءة حتى التخمة، وأن يضعوا في اعتبارهم دائماً ونصب أعينهم أن سبيلهم الأول إلى الكتابة الجيّدة والتأليف وبالتالي النشر والذيوع والانتشار، هي القراءة أولاً، ثمّ القراءة ثانياً، وثالثاً.

وبذلك يضمنون لأنفسهم المكانة المرموقة التي يتوقون إليها ليصبحوا فيما بعد كتّاباً معروفين. وعليهم ألا ينسوا أن أحد أكبر الكتّاب العرب وهو “الجاحظ”، كان في كثير من الأحيان يقضي الليل كله في مكتبته حتى يغلبه النوم فيبيت بها. ولا بد أن شعاره كان: “من طلب المعالي سهر الليالي”، أو “وإذا أردت الكرامة، فقل للكرى مه”. ألم يمت تحت أكوام كتبه؟ وحسبنا أن نأخذ العبرة ممّن سبقونا وما أكثرهم.

أزمة قراءة

انطلاقاً من هذا المفهوم، تغدو الأزمة الحقيقية إذن أزمة قراءة قبل أن تكون أزمة نشر. ذلك أن الإنتاج الجيّد لابد أن يشقّ طريقه إلى النور والظهور مهما اعترضت سبله من حواجز وعقبات وصعوبات.

ولإدراك هذه الحقيقة، ينبغي أن نتدبّر مليّاً في هذا الصدد القولة المشهورة القائلة: “لقد عاش شكسبير عندما مات”، فكأنّما، بالتالي، لم ينشر هذا العبقري الفذّ إنتاجه -الذي ملأ به الدنيا وشغل الناس- إلا بعد موته، شأنه في ذلك شأن أبي الطيّب المتنبي وسواه من نبغاء كتاب وشعراء وعلماء العرب.

والحال هذه، فإنّ المعرض الدولي الثلاثين للكتاب، الذي ستعرفه العاصمة المغربية “الرباط” بين الفترة المتراوحة بين 17 و27 أبريل الجاري، يُعتبر فرصة مواتية، ومناسبة سانحة للشباب وعشّاق الكلمة المكتوبة من كل سنّ، للاغتراف بدون هوادة من مناهل العلم والأدب والمعرفة والعرفان.

وقديماً كان يقال: “كل إناء يضيق بما فيه، إلا إناء العلم فإنه يزداد اتساعاً”، وفي أيامنا هذه أصبح يقال: “منهومان لا يشبعان: طالب علم ومال”.

https://anbaaexpress.ma/vfwt6

محمد الخطابي

د. السّفير محمّد محمّد الخطّابي  كاتب وباحث ومترجم من المغرب عضو الاكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى