آراءسياسة

مستقبل العلاقة الفرنسية الجزائرية: السيناريوهات الممكنة (3)

الذاكرة الفرنسية الجزائرية: خلفية تاريخية

 عرفت فرنسا منذ ثورتها خمس جمهوريات، دشنتها بالجمهورية الأولى عام 1792 إلى أن سقطت عام 1804. في غمار هذه الجمهورية تم التخلص من الملكية (حوالي عشرة قرون من الحكم الملكي)، وبعد سقوط الملكية عاشت فرنسا طقسا من العنف والإرهاب طيلة 12 عاما، كما عاشت حصارا خارجيا من محيطها الأوروبي المعادي للثورة. ترتّب عن هذا الوضع بروز نابليون بونابارت الذي أعلن نفسه إمبراطورا ووضع حدا للحكم الجمهوري.

بعد إحدى عشر عاما صال فيها نابليون وجال سقط حكمه عام 1815، وتحت الضغط الأوروبي عاد الحكم الملكي الذي دام حتى 1848 وسقط في غمار الثورات الأوروبية ليحل محله الريجيم الجمهوري، حيث تأسست الجمهورية الثانية التي لم تدم إلا ثلاثة أعوام (1848/ 1851) بقيادة لويس نابليون بونابارت الذي انقلب على الريجيم الجمهوري وأعلن الحكم الإمبراطوري الذي اشتهر بالإمراطوريا الفرنسية الثانية. سقط الحكم الإمبراطوري عام 1970 في سياق الحرب الفرنسية البروسية. استأنفت الثورة الفرنسية سيرورتها عبر الجمهورية الفرنسية الثالثة التي دامت من 1870 إلى 1940، حيث سقطت في غمار الحرب العالمية الثانية. ثم الجمهورية الرابعة (1946/1958) التي سقطت في خضم حرب التحرير الجزائرية لتحل محلها الجمهورية الخامسة في عهد شارل دوغول.

من 1792 إلى اليوم، وعلى مدى قرنين و30 عاما، عرفت فرنسا خمس جمهوريات. كانت الجمهورية الثانية هي الأقصر (ثلاثة أعوام) وكانت الجمهورية الثالثة هي الأطول (70 عاما). وجاءت الجمهورية الخامسة (الحالية) بعد أن فشلت الجمهورية الرابعة في تدبير ملف حرب التحرير التي أشعلتها الجزائر المحتلة ضد فرنسا.

الجمهورية الخامسة بقيادة شارل ديغول عام 1958 نجحت في حسم الجدل حول الحرب، وأسست للعهد الفرنسي ما بعد الكولونيالي في سياق النظام العالمي الذي انبثق عن الحرب العالمية الثانية.

هذه الجمهورية (الخامسة)، بعد مرور 64 عاما من نشأتها، وفي سياق علاقتها بالجزائر، بدا عليها التعب منذ حراك 22 فبراير 2019؛ وكانت هذه الجمهورية خرجت غانمة من ثورات 2011، وكانت الجزائر من غنائمها في إطار مكافحة الإرهاب ومعالجة الأزمة التي حدثت في دولة مالي وبلدان الساحل والصحراء.

الطيف السياسي الفرنسي اليوم، وفق المعطيات المتوفرة، يمثله ثلاثة ألوان: اليمين اللوباني واليسار المالونشي والماكرونية. ورغم السمعة السيئة التي لاحقت حزب مارين لوبان، إلا أنها منذ أن أمسكت بزمامه، وعلى مدى عقد من الزمن، أحرزت تقدما أثار الكثير من الجدل وقد يخلط أوراق السياسة الفرنسية ويجبرها على ابتكار ورقة طريق قد تكون منطلقا جديدا للاتحاد الأوروبي من جهة، وللعلاقة الأوروبية الأمريكية من جهة ثانية.

جذور اليمين المتطرف في فرنسا

ظهر مصطلحا “يسار” و”يمين” خلال الثورة الفرنسية عام 1789 عندما انقسم أعضاء الجمعية القومية (Assemblée nationale) إلى أنصار الملك على يمين الرئيس وأنصار الثورة على يساره.

 عندما تم استبدال الجمعية القومية في عام 1791 بمجلس تشريعي يضم أعضاء جددا بالكامل، استمرت الانقسامات. جلس “المبتكرون” على اليسار، وتجمع “المعتدلون” في الوسط، بينما، جلس على اليمين “المدافعون عن الدستور والريجيم القديم”. من هنا أصبحت كلمة “اليمين” ترمز إلى السياسة المحافظة، وأصبح “اليمين المتطرف” رمزا للعنصرية والاستبداد.

1889- : تعود جذور اليمين المتطرف في فرنسا إلى الجمهورية الفرنسية الثالثة رجوعًا إلى البولنجية وقضية دريفوس. نشأ «اليمين المتطرف» الحديث أو اليمين الراديكالي جرّاء حدثين منفصلين في عام 1889: الانشقاق ضمن منظمة الأممية الاشتراكية من قِبل أولئك الذين اختاروا الأمّة وبلوغ «قضية بولانجر» حدّ الذروة، إذ ناصرت هذه القضية مطالب وزير الحرب السابق الجنرال جورج بولانجر. قدّمت قضية دريفوس أحد خطوط التقسيم السياسي في فرنسا. قبل قضية دريفوس  كانت القومية مدنية جمهورية (Nation civique)، ثم أصبحت بعد ذلك نزعة أيديولوجية عنصرية في تيار اليمين فضلاً عن اليمين المتطرف. نشأ تيار يميني جديد، وأُعيد مواءمة القوميّة من قِبَل اليمين المتطرف الذي حولها إلى شكل من أشكال القوميّة الإثنية (Nation Ethnique) الممزوجة بمعاداة السامية وكره الأجانب ومعاداة البروتستانتية ومعاداة الماسونية. كانت حركة الفعل الفرنسي (Action française) التي تأسست في البداية كمجلة بمثابة مصفوفة النمط الجديد من تيار اليمين المناهض للثورة، وما زالت قائمة حتى يومنا هذا.

1918- : خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، نشطت حركة “الفعل الفرنسي” وميليشيا الشباب التابعة لها كمنظمة (Camelots du Roi) ونظمت رابطات اليمين المتطرف أعمال شغب.

1961– : نشأت (لواس)، منظمة الجيش السري (Organisation armée secrète)، وهي منظمة مسلحة تأسست في مدريد على يد الجيش الفرنسي المعارض لاستقلال الجزائر. انحلت عام 1962، غير أن عناصرها واصلوا أنشطتهم في تنظيمات أخرى.

1964– : تأسست حركة “غرب” (Occident) عام 1964 وهي حركة من أقصى اليمين تم حلها عام 1968. وانبثق منها تيارات أخرى من ضمنها النظام الجديد (Ordre nouveau) عام 1969 ونشط إلى غاية 1973.

1966– : في 21 مارس 1964، ورغبة منهم في الحفاظ على تماسك المؤيدين السابقين للجزائر الفرنسية (Algérie française)، قرر أعضاء من حركة “غرب”، منح حركتهم هدفًا سياسيًا أوروبيًا، وليس هدفًا قوميًا فرنسيا بحتًا. أمسك بزمام المبادرة فرنسي من أصل جزائري هو مارك فريدريكسن (Marc Fredriksen)، وهو من قاد الحركة الجديدة.

أنشأ الناشط مارك فريدريكسن في أبريل 1966 جماعة يمينية متطرفة وصفت بالنازية الجديدة، وهي منظمة فان (FANE) – فدرالية الفعل القومي الأوروبي، (Fédération d’action nationaliste et européenne).

1972– : أسس جان ماري لوبان حزب الجبهة القومية في عام 1972. وهو حزب ذو ثقافة قومية معادية للأجانب وذو نزعة عنصرية متصلبة تجاه المهاجرين. في عام 1978، انفصل عن الحزب الأعضاء النازيون الجدد التابعون لفدرالية الفعل القومي الأوروبي (GNR-FANE). وخلال ثمانينيات القرن العشرين، تمكن حزب الجبهة القومية من حشد أكثر تيارات اليمين المتطرف تنافسًا في فرنسا تحت قيادة جان ماري لوبان بعد سلسلة من الانقسامات والتحالفات مع أحزاب ثانوية أخرى خلال سبعينيات القرن. وأصبح هذا الحزب اليوم تحت قيادة مارين يمثل قوة صاعدة في المشهد السياسي الفرنسي.

2011– : منذ يناير 2011، حلت مارين محل والدها على رأس الحزب، وكانت ترافق والدها، جان ماري لوبان، منذ سن مبكرة في تنقلاته وحملاته الانتخابية، وانخرطت في الحزب رسميا عام 1986. في عام 1998، حصلت لأول مرة على مقعد مجلس مقاطعة نوربادكالي، ثم أصبحت عام 2000 عضوة في المكتب السياسي للحزب.

في العام نفسه، ترأست جمعية “أجيال لوبان” التي أسسها زوج أختها، صامويل ماريشال، من أجل “تحسين” صورة الحزب في الإعلام والمجتمع. وقد بدأت فكرة “تحسين” صورة الحزب تترسخ بين الأعضاء والأنصار، وتمكنت مارين لوبان في انتخابات المقاطعات عام 2002 من الحصول على نسبة 24.24 في المئة من الأصوات بمدينة لانس، في الدور الأول، وحصلت على 32.30 في المئة من الأصوات في الدور الثاني. وعلى الرغم من خسارتها في الانتخابات، فإن مارين لوبان اكتسبت شهرة كبيرة في انتخابات 2002، وأصبحت “شخصية سياسية صاعدة”. وبدأ منحاها السياسي داخل حزب الجبهة القومية يتميز عن مواقف والدها منذ 2003، عندما تحدثت لأول مرة عن “ضرورة إيجاد إسلام فرنسي، لأن إسلام فرنسا، له مفهوم إقليمي”. وفي عام 2004 انتخبت في البرلمان الأوروبي، وصوتت على 42 في المئة من القوانين مع أغلبية النواب الفرنسيين.

وجمدت مارين لوبان عضويتها في هيئات الحزب عام 2005 بعد تصريح أدلى به والدها يقول فيه إن “الاحتلال الألماني لفرنسا لم يكن بالبشاعة التي يتصورها الناس، على الرغم من الأخطاء التي يستحيل تفاديها في بلد كبير مثل فرنسا”. ومنذ ذلك التاريخ، يقول المؤرخون إنها سعت جاهدة لخلافة والدها، والترويج لرؤيتها الجديدة داخل الحزب وفي وسائل الإعلام. بعد إعلان والدها التنحي عن قيادة الحزب عام 2010، أصبح الباب مفتوحا أمام مارين لتزعم الجبهة القومية، وهو ما حصل عام 2011.

تفكيرها في تغيير اسم الحزب عام 2014 أثار جدلا بين مؤيد ورافض، وفي عام 2018 أعلنت تسمية جديدة للحزب هوRassemblement national) /التجمع القومي) فيما تم تجريد والدها جان ماري لوبان المؤسس التاريخي للحزب من الرئاسة الفخرية.

فرنسا بين قيم الثورة والقوى المضادة للثورة

هل صعود اليمين المتطرف في فرنسا يؤشر على تقهقر قيم الثورة وعودة الثقافة المعادية للعلمانيا والعيش المشترك؟ هل اليمين المتطرف ممثلا في لوبان وزمّور وحده يهدد قيم العيش المشترك؟ أم أن المهاجرين والفرنسيين ذوي الأصول الأجنبية حملوا معهم ثقافة تشكل خطرا على قيم الثورة؟ الوضع يحتاج إلى جهد سوسيولوجي من منطلق أن ثقافة الأمة الفرنسية ككل ثقافة تحمل الشيء ونقيضه، وأن النزوع القومي المتطرف المعادي للمهاجرين يقابله نزوع قومي لدى نخب المهاجرين المعادين للعلمانيا ولاسيما المغاربيون الإسلامويون واليهود التوراتيون. غير أن هذا التطرف من هذه الجهة ومن تلك ما دام تحت التحكم السياسي والقانوني والحقوقي وتحت الضوء الإعلامي حتما سينتقل من وضعية الصدام إلى وضعية الحوار والمراجعات الضرورية التي تقود الطرفين المتطرفين إلى توسيع المساحات المشتركة وتقليص مساحات الصدام في إطار قيم الثورة والأمة المدنية المنبثقة عنها، وقوانين الجمهورية ودولتها العلمانية، وهذا ما تعيشه فرنسا اليوم مع الإسلام كمكون هوياتي للأمة الفرنسية، وتعمل على تدبيره منذ 2005عندما كان ساركوزي وزيرا للداخلية ثم رئيسا للجمهورية.

مارين لوبان، ومنذ أن تزعمت الحزب، وفق متابعين للشأن الفرنسي، عملت على تطوير حزبها خطابا وممارسة، حتى أنها بدأت تنسحب تدريجيا من خطابها المتطرف، وقد تركت موضوع الهوية والهجرة والإسلام إلى إيريك زمور مركزة على القضايا التي تهم كل الأمة الفرنسية.

هذا التطور المصحوب بكسب ثقة الفرنسيين، قد ساهم في حصولها على أكثر من أربعين بالمئة من الأصوات في الدور الثاني. لكن ما يهمنا، هو كيف تساهم النخب المغاربية في جودة الثقافة الاندماجية في المجتمع الفرنسي، من خلال خطاب لا يعاني من أمراض الهوية والذاكرة التي أصبحت مصدر تلاعب جماعات المصالح. لأن ما يحدث في فرنسا سينعكس على بلداننا المغاربية، وكلما تعمقت ثقافة السلام والعيش المشترك والشفافية في فرنسا ولاسيما لدى الفرنسيين ذوي الأصول المغاربية انعكس ذلك إيجابا على البلدان المغاربية.

من باب الأمانة والموضوعية، يمكن القول أن اليمين المتطرف تغذى على ثقافة الانغلاق التي روجت لها النخب الإسلاموية والانتهازية ذات الأصول غير الفرنسية المقيمة في فرنسا. لقد استثمر الإسلام السياسي وسماسرة القضايا في جهل الجاليات المغاربية، وبالموازاة استثمر اليمين الفرنسي المتطرف في هذا “التطرف الجاهل” الوافد من البلدان المغاربية. لقد كانت الجالية المغاربية لقمة سائغة لدى عدة أطراف: الإسلام السياسي، القوميات الإثنية الوافدة على فرنسا، سماسرة القضايا، والمتطرفون الفرنسيون وجهات أخرى على غرار شبكات التهجير السري، ومهربي المال الفاسد

https://anbaaexpress.ma/uaicg

سعيد هادف

شاعر جزائري وباحث في الشأن المغاربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى