آراءمجتمع
أخر الأخبار

حين يغترب الفعل الجمعوي عن مجاله.. أزمة المكاتب التنفيذية ووعي الساكنة

ذ. نورالدين سموح

شهد العمل الجمعوي في المغرب في العقدين الأخيرين تحولات لافتة كشفت، في العمق، عن أزمة جذرية في تموقعه داخل مجاله الترابي، وعن انزياح متزايد عن وظيفته الأصلية التي تأسس من أجلها هذا العمل، والمتمثلة اساسا في خدمة الساكنة والترافع عن قضاياها المحلية.

وهكذا أصبح جزء كبير من الجمعيات المدنية توجه جهودها نحو المرافعة في المحافل الوطنية والدولية، والمشاركة في اللقاءات والمؤتمرات التي تمنح الظهور والرمزية، أكثر ممايوجهها نحو معالجة الإشكالات المعيشية اليومية التي تمس المواطنين الذين ساهموا في جموعها العامة للتأسيس، حيث يتجلى الفعل الجمعوي في أبهى صوره عندما يكون قريبا من الواقع ومتشبعا بروح الانتماء إلى المجال.

لقد نشأت اغلب الجمعيات المدنية من رحم المجال الترابي، باعتبارها من حيث الأساس أداة للتأطير والمشاركة، ورافعة لترسيخ المواطنة الفاعلة.

فهي، في أصلها، تجسيد لإرادة جماعية في تحسين شروط العيش المشترك، والتعبير عن حاجيات الساكنة، وصياغة حلول واقعية لقضايا التنمية المحلية. لكن مع مرور الزمن، وبفعل التحولات المؤسسية والتمويلية، أخذت بعض الجمعيات مسارا مختلفا، حيث أصبح همها الأكبر هو الحفاظ على استمراريتها التنظيمية، وتأمين تمويل مشاريعها ان وجدت، ولو على حساب جوهر رسالتها الاجتماعية.

وفي كثير من الأحيان، يتحول العمل الجمعوي من فعل ميداني إلى فعل رمزي، ومن الإنصات للساكنة إلى لغة التقارير والعروض في ندوات.

إن المكاتب التنفيذية داخل الكثير من الجمعيات المدنية أصبحت، للأسف، تميل إلى الاشتغال بمنطق النخبوية، فتنعزل عن قواعدها، وتتعامل مع الساكنة باعتبارها جمهورا يستدعى عند الحاجة فقط، إما لحضور الجموع العامة لتحديد مكاتبها أو لتزكية التقارير الأدبية والمالية، دون أن يكون لها رأي أو مشاركة حقيقية في تحديد أولويات الفعل الجمعوي.

وهو ما يفقد المجتمع المدني إحدى أهم مقوماته: المشروعية الاجتماعية التي لا تكتسب إلا من خلال القرب من خلال المجال، والتفاعل من داخل المجال، والإنصات المستمر في المجال.

وعندما يغيب هذا الرابط، يتحول الخطاب الجمعوي إلى خطاب بلا جذور، لا يجد صدى في الميدان ولا تأثيرا في السياسات الترابية.

إن الترافع الترابي كفلسفة لم تكن يوما ما مجرد شعارات أو وثائق ترفع إلى المجالس المنتخبة أو السلطات المحلية، بل هو عملية مركبة تبدأ بالمعرفة الدقيقة بحاجيات السكان، وتنتهي بالمرافعة الواعية والمبنية على معطيات واقعية.

فالجمعية التي لا تعرف خريطة فقرها المحلي، أو خصاصها التعليمي والصحي، أو أولويات شبابها ونسائها، لا يمكنها أن ترافع بصدق أو فعالية.

فالترافع الحقيقي هو الذي يبنى من القاعدة وصولا للقمة، من الدوار والحي والجماعة إلى المجالس الإقليمية والجهوية أو حتى الحكومة، وهو ما يضمن اتساق المطالب مع الواقع، ويحول المرافعة من فعل احتجاجي إلى فعل اقتراحي وشراكة مسؤولة.

وفي المقابل مع ذلك، فإنه لا يمكن إنكار أن عددا من الجمعيات استطاعت أن تثبت حضورها في المجال الترابي، وأن تحدث فرقا شاسعا في حياة الساكنة التي انبثقت منها، سواء عبر الترافع من أجل الحق في الماء والكهرباء، أو في الدفاع عن البيئة، أو في دعم التعليم الأولي، أو في إدماج الشباب في مشاريع اقتصادية محلية.

هذه التجارب الناجحة تؤكد أن المجتمع المدني، حين يستعيد بوصلته الترابية، يصبح شريكا حقيقيا في التنمية، لا مجرد متفرج أو ناقل للخطابات. فالقوة الحقيقية للجمعية لا تقاس بعدد الندوات أو البيانات، بل بمدى قدرتها على التأثير في السياسات المحلية وتحسين حياة المواطنين.

من هنا، يبرز السؤال الجوهري ويحق لكل واحد منا ان يطرحه كما يلي: ما الذي يجعل بعض الجمعيات تنفصل عن مجالاتها الترابية وتتحول إلى كيانات رمزية؟ هل هو ضعف في الحكامة الداخلية؟ أم غياب في ثقافة الديمقراطية و المشاركة المحلية؟ أم أن التمويلات المشروطة دفعت العديد منها إلى تبني أجندات لا تنسجم مع حاجيات المجال؟ فأيا كانت الأسباب، فإن النتيجة واحدة وهي اتساع الفجوة بين الجمعية كاطار والمجتمع ، وتراجع ثقة المواطن في العمل الجمعوي، بعدما كان ينظر إليه كفضاء للأمل والتكوين والتغيير.

وبالتالي فالمطلوب اليوم قبل غد هو إعادة التفكير في مفهوم الترافع الجمعوي من منظور المجال الترابي، الذي يقوم على ثلاث ركائز أساسية: أولاً، استعادة الثقة بين الجمعيات وساكنتها من خلال حضور فعلي لهذه الأخيرة في الميدان بشكل لا يقتصر على المناسبات، و ثانيا، بناء ترافع مؤسّس على المعرفة الميدانية والبيانات الدقيقة، لا على الانطباعات أو الشعارات المناسباتية، و ثالثا، إرساء شراكات حقيقية مع الفاعلين الترابيين – من مجالس منتخبة وسلطات محلية ومؤسسات عمومية – في إطار تكاملي يربط بين الاقتراح والتنفيذ، وبين المرافعة والفعل.

فالمجتمع المدني الذي نحن بحاجة اليه اليوم ليس ذلك الذي يرفع الشعارات الكبرى أو يسافر إلى المؤتمرات والندوات خارج المجال او سياق النشاة، بل ذلك الذي ينزل إلى المحال، في حقوله ومدارسه التعليمية ومراكزه الصحية، ليستمع للساكنة، ويتحدث بلغتهم، ويحول تطلعاتهم إلى مبادرات عملية. إنه المجتمع المدني الذي يدرك أن التغيير لا يستورد من الخارج، بل يبنى من الداخل، من عمق المجال الترابي.

حيث منه تبدأ التنمية الحقيقية وتنتهي عنده، وعندما يستعيد الفاعل الجمعوي هذا الوعي، ستستعيد الجمعيات معناها، وسيعود الفعل المدني بالتأكيد إلى أصله: خدمة الإنسان في مكانه، وبما يملك، ولما يستحق فمن دون مجال ترابي حي، لا معنى لجمعية تحمل اسمه.

* محامٍ بهيئة الدارالبيضاء

https://anbaaexpress.ma/u2eg7

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى