آراءثقافة

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات.. إشكالية المقاربة (14)

الوسطية والاعتدال

ثاني المزاعم التي تترّس بها الملتفّون حول حقيقة التّطرّفات هي مفهوم الوسطية والاعتدال، فهو مفهوم مقسم بالسوية بين الاعتدالين، حيث بتنا أمام مذهبين في الاعتدال يستندان إلى ذات المضمون ويختلفان في المنزلق المقاصدي، وزد على ذلك أن طرفا ثالثا يتترّس بمفهوم الوسطية والاعتدال تماما كما يتترّس بالمدنيين في معارك الإستخلاف.

فللقرضاوي حديث أسهب في التنظير للاعتدال شكّل هذا الأخير عنصرا أساسيّا في خطابه، لا يخلو تصريح له منه ولا كتاب من ذكر محاسنه ولا استدلال على فتوى من فتاويه ولا مقطع من محاججاته ومزايداته، وسنجد الوسطية عنوانا لكل ما يقدّمه السيد عبد الله بن بيه – وهو عندي في الفتيا والعلم أعمق من نظيره – والحاصل أنهما وسطيان معتدلان يمتحيان من ذات المرجعية لكنهما طرفين في مقاصد جيوسياسية مختلفة، وزد على ذلك أنّ في مناشير داعش وأخواتها دعوى للاعتدال والوسطية باعتبارها دعوة السلف الصالح، لكن ماذا عن حقيقة هذه الدعوى ولماذا اختلفوا وتطرّفوا وزايد بعضهم على بعض وهم يتلون الكتاب؟ نتساءل بصيغة أخرى: لماذا يختلف أهل الأصول الواحدة والمرجعية الواحدة والمفاهيم الواحدة؟ هذا يفرض على الأقل التساؤل حول حقيقة الأصول والقواعد التي ينطلقون منها وما مدى جدّية الدعاوى التي تدور حولها مقالبهم و معايشهم.

خلط أهل الدعوة المزبورة بين قيمة الاختلاف ومفهوم التّطرّف، وكما هي سائر طرائقهم التبسيطية في النظر والتجديد استندوا إلى مغالطة “تطريف” الإختلاف وإدانته مسبقا، ويبدو أنّ الميل إلى شيطنة المختلف هي الحلّ البدائي لتعزيز هذا الموقف الاختزالي من الآخر، لكن هذا الآخر سيظل مقبولا إذا أتى من مختبر التطريف النّفطي، هذا مع أنه من المفترض أن يظل التطرف ظاهرة مدانة بلا شرط الاختلاف، فالاختلاف ظاهرة في طبائع الخلق والثقافات لكن التطرف هو خروج عن مقتضى التعايش والإجتماع، وهكذا تحول مفهوم الوسطية من تواسط في ميزان النظر والفعل إلى أداة لإدانة المختلف ولتعزيز التطرف المقنّع.

للمفهوم حين نشأته حاجة معرفية تفرضه وضرورات تقتضيه وهو حين النشأة يعتبر إنتاجا صناعيّا له وظيفة يؤدّيها ونسق دلالي يصدر عنه ويحيل عليه وليس مسألة اعتباطية كسائر الإنشاء اللغوي، ليس المفهوم رغبة، وهو من حيث كونه صناعي فهو يتميّز عن اللغة بشرائط التّداول، فلئن كنّا سنرفض الرّديف في اللغة الطبيعية ففي المفهوم أحرى، وهكذا عند كل استعمال يأخذ المفهوم معنى بل يجب أن يتميّز بقيمة مضافة من المعنى، وهذه الصّناعة خانت دعاة التجديد الذين خلطوا بين المفاهيم تارة وكرّسوا الجمود تارة أخرى وعجزوا عن إنتاج النّسق وغرقوا تاريخيا في التّلفيق.

لم يكن الاختلاف حول العناوين بل الاختلاف دائما كان ولا زال حول المضمون والتّفاصيل، فلا زال الخطاب الديني المعاصر أسير الثقافة التي أنتجها علم الكلام التقليدي، وحين أقول الخطاب الديني أقول أيضا مجمل العقل التداولي العربي فهو وإن خرج بعضه عن مقتضى الخطاب الديني إلاّ أنّه حتى في هذا الخروج لم يستطع أن يخرج عن مقتضى العقل المُنتظم للكلام القديم وآثاره.

وهذا ما يفسّر لنا كيف يطغى العقل السلفي على الخطاب الديني وغيره حيث يلتقيان بسهولة في أحكام قيمة. وفي إطار هذه الملحمة من التّمعقلات الزّائفة لدعوى الوسطية والاعتدال، أي خطاب التّطرّف المقنّع وجب النّظر إلى أزمة عقل لا أزمة خطاب، لأنّ العقل المأزوم لن ينتج سوى خطابا مأزوما، ولكن أي عقل هذا الذي وجب علاجه، وقد فعلوا ولم ينتج من نقد العقل سوى متاهة أخرى وذلك لأنّنا لا زلنا مدينين للطريقة نفسها في تنزيل المفاهيم واستعمالها في بنيات لا زالت وفيّة للأسس ذاتها، فنقد العقل إن لم يكن سيتحرّر من مقتضيات عقل كلامي يرفض العقل والعدل ولا يقبل باستقلال العقل كمعيار فهو نقد عقيم وربما هو شكل من التمعقل داخل اللاّعقل واستدراك للورطة التّاريخية لخطاب العقل المستقيل.

وسنسأل: ما هي أسس وتجليات العقل المستقيل؟ وسوف نجد أنّ حقيقة العقل المستقيل تكمن في كل دعوى كلامية ترفض استقلال العقل بالتحسين والتقبيح كما ترفض العدل وتعدّه من الفروع لا من الأصول، ولا ينفع بعد ذلك التحشيد مهما طال واستطال، فهناك تبدأ إشكالية العقل العربي، لقد هرّبنا الأزمة وأخفيناه بكثير من التمعقلات الزّائفة ومنحنا العقل المستقيل فرصة أخرى لإعادة إنتاج الخطاب الدّيني المُعاصر كما جعلنا من قضايا سبق ورفضناها في أسس كلامنا القديم عناوين نلوّح بها في كلّ اتجاه، نظير العقل، والعدل، والاعتدال، والوسطية.

إنّنا نلمح موقفا غارقا في التبسيط والبدائية، فالوسطية هنا كما فهمناها بعقلنا المستقيل هي حيث نقف ثم نوزّع التطرف من حولنا، فمركز العالم بالنسبة لجحى يقع حيث يوجد الوتد الذي يعقل فيه حماره، بينما يفترض أن يقع الوسط في مكان آخر موضوعي.

https://anbaaexpress.ma/tstrr

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى