الجيوسياسة: الفضاء، النسق والفراغ
الفضاء والفراغ: الطبيعة تخشى الفراغ، أو الطبيعة لا تقبل الفراغ، مقولة للفيلسوف اليوناني أرسطو، شاع استعمالها في جميع الأوساط. من وجهة النظر العلمية والطبيعية، لا وجود لشيء يسمى “فراغ” بالمعنى المطلق. هناك عبارة شهيرة نضرب بها مثلا في خضم الجدل حول مساوئ ومحاسن شيء ما، فيخاطب أحدنا الآخر: لماذا تنظر إلى النصف الفارغ من الكأس فقط وتنسى النصف الملآن؟ هذه الصورة المجازية التي يستعين بها المتجادلون في محاججة بعضهم لبعض، تحيل سامعها إلى كأس يحتوي نصفه على الماء بينما النصف المتبقي فارغ. النصف الفارغ هنا يعني أنه لا يحتوي على الماء، لكن كونه فارغا من الماء فهذا لا يعني أنه لا يحتوي على شيء آخر، بل هو يحتوي على الهواء وربما ذرات من الغبار، وبالتالي فهو ليس فارغا كما نتوهم. الأمر نفسه ينسحب على أي مجال.
ولأن المجال السياسي ومعه الفضاء الجغرافي، مثل الطبيعة، لا يقبلان الفراغ، فإن ما يوصف بالفراغ السياسي يعني أن بلدا أو فضاء جغرافيا ينتمي إليه هذا البلد أو يُتاخم فيه مجموعة من البلدان، يفتقر إلى نشاط سياسي بالمعنى العلمي لمفهوم السياسة، أو أن البلد ومحيطه الإقليمي يعاني من غياب رؤية سياسية متبصرة تحترم المبادئ التي تأسست عليها دولة الحق والقانون ولا تصطدم بالقوانين الأممية وتنتهج أسلوب التعاون والحوار مع محيطها الإقليمي في حل الخلافات وتدبير القضايا المشتركة. إن غياب الحوار والتعاون يترجم حالة “الفراغ”: فراغ العقل السياسي من الفهم والتمثل الصحيحين للقضايا السيادية، السياسية والأمنية، وانعكاس هذا “الفراغ” على الفضاء الجيوسياسي، وبالتالي خروج الوضع عن السيطرة. وإذا خرج الوضع عن السيطرة، انحرف إلى العنف، وكلما كان العنف خلوا من السياسة كانت الفوضى والهمجية. الفوضى والحالة هذه هي الوجه الآخر للفشل السياسي. الفعل السياسي في جوهره استباقي ووقائقي، وكلما تضاءلت السياسة انتشر التسيب والفوضى والفساد وتعطلت مصالح الناس.
الفراغ السياسي في ضوء نظرية الكاوس
من هنا نطرح السؤال التالي: إذا غابت السياسة فما الذي يحل محلها؟ بطبيعة الحال تحل الفوضى والفساد وكل ما يترتب عن ذلك، أي يحل “الطغيان” بتعبير أفلاطون. وهذا معناه أن ما يسمى بالفراغ السياسي ليس وصفا دقيقا، أو بعبارة أخرى هو وصف ماكر يخفي حقيقة الأزمة، وعليه فإن الوصف الصحيح للوضع المسمى بالفراغ السياسي هو “الفشل السياسي” الذي تسببت فيه طبقة متطفلة على السياسة تعيث فسادا وتمسك بمفاصل الدولة باعتماد أدوات القمع والترهيب وشراء الذمم وتصفية الحسابات فيما بينها. هذه الطبقة المتطفلة على السياسة والتي تشمل كل من في الحكم ومن في المعارضة، جعلت من الشعب لعبة في خطاباتها ومصالحها.
لكن في عصرنا الحديث، ولعوامل وأسباب عديدة، لم يعد “الطغيان” بشكله المحلي في منأى عن التحكم الخارجي كما كان في الأزمنة القديمة. ومن حيث أنه سلوك سلطوي مناف للسياسة يصطدم، أوتوماتيكيا، بنسق جيوسياسي أعلى تحكمه معايير أممية صارمة، وفي الحالة هذه، وحتى لا يكون خارج السيطرة الجيوسياسية، تتم محاصرته للحد من تمدده وتأطيره وفق آليات من صميمه ومن صميم النسق الجيوسياسي الأممي، أي يتم الاستثمار فيه وفق نظرية الكاوس (الفوضى الخلاقة). وكما يقول مثلنا الشعبي “من لحيتو وبخر لو”، ويكفي أن نعرف كيف تشكلت حركاتنا القومية وأحزابنا وكيف خرجت من صلبها الانقلابات والجماعات المسلحة وما شابه.
يشكل الاجتياح الروسي لأوكراينا أبرز حدث أممي من حيث تداعياته وآثاره العسكرية، السياسية والاقتصادية على العالم، ولا شك سيكون له تأثير على الفضاء الجيوسياسي وعلى القوانين الأممية ومؤسساتها. لقد كان لهذا الاجتياح أثر عميق على العلاقات الأممية. وقد تضاربت القراءات والمواقف المغاربية على مستوى الدول كما على مستوى “المثقفين” على خلفيات أيديولوجية وسيكولوجية يغلب عليها التعاطف والتسرع في أغلب الأحيان.
ولأن التاريخ البشري نسق شديد التداخل والترابط والتناقض بين الذاكرات في تجلياتها الواعية واللاواعية، يجد المتتبع المعاصر لهذه الأحداث نفسه مدعوا إلى التسلح بالحذر وبما يكفي من المعطيات ووجهات النظر حتى يضمن “وضعية” استراتيجية مأمونة تسمح له برؤية “أفق” هذه الأحداث بأكبر قدر من الاستشراف الموضوعي.
في هذا المقال المسهب، الذي ننشره على حلقات، وإذ نروم من ورائه إثارة جملة من المفاهيم والنظريات انطلاقا من مقاربة تأملية لهذا الحدث، نرمي في ذات الوقت إلى دعوة المثقف المغاربي إلى قراءة الوضع المغاربي في ضوء هذا الحدث الأممي رصدا لمكامن الخلل السياسي في فضائنا المغاربي وبحثا عن الشروط الممكنة التي تسمح بتصحيح النظر وتسديد الخطى وتقليص الأضرار والأخطاء، وبالتالي الولوج إلى “وضعية” تقي بلداننا من أي صدام عدمي بالنسق الجيوسياسي الأممي، والوصول إلى الحلول التي من شأنها أن تبني فضاء مغاربيا يكون مثالا للعيش المشترك وروح التضامن والتعاون.