ثقافةمنوعات
أخر الأخبار

من فاس إلى إسطنبول.. القفطان المغربي: رحلة عكس التيار

د. أميرة عبد العزيز – باريس

لطالما شكّل القفطان المغربي موضوعًا للجدل في الأوساط المغاربية، إذ تُبعث مع كل موسم ثقافي محاولات لاقتلاع هذا الزي من جذوره المغربية، ونسبه خطأً إلى البلاط العثماني. غير أن التوغّل في الوثائق العثمانية، ورحلات السفراء الأوروبيين، والمراسلات الدبلوماسية بين البلاطين، يكشف حقيقة معاكسة: القفطان لم يكن وافدًا إلى المغرب، بل انطلق من فاس نحو إسطنبول، حيث استرعى انتباه العثمانيين، فقلدوه وسمّوه صراحةً “فاس كفتاني”، أي “قفطان فاس”.

فاس: منبع القفطان المغربي وتجلّياته الفريدة

تُظهر المخطوطات التاريخية أن القفطان كان منذ عهد المرينيين والسعديين جزءًا لا يتجزأ من لباس النخبة، يُعبّر عن الهيبة والرقي والهوية البصرية للحضارة المغربية. وقد وصفت المستشرقة الفرنسية إلين سوريل في مؤلفها Costumes du Maroc (1895) القفطان المغربي بقولها:

“القفطان المغربي ليس مجرد ثوب، بل هو بنية اجتماعية وتعبير جمالي يُجسّد تراتبية البلاط ونخبه.”

كان القفطان الفاسي يُطرز يدويًا بخيوط الذهب والفضة، ويُزيَّن بأزرار العقاد، ما جعله تحفة فنية نادرة، لم تشهد لها إسطنبول مثيلًا قبل القرن السابع عشر.

من فاس إلى إسطنبول: كيف انتقل القفطان؟

تشير سجلات قصر طوب قابي إلى ما يُعرف بـ”فاس كفتاني”، وهي القفاطين الفاسية التي وصلت البلاط العثماني كهدايا رسمية، خصوصًا خلال القرن السادس عشر، إبّان حكم السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي.

ويؤكد المؤرخ العثماني مصطفى علي في موسوعته كُتاب العصور أن:

“قفاطين فاس أدهشت نساء القصر، فأقبل الحرفيون في إسطنبول على نسخها بمهارة ومحاكاة زخارفها.”

أما في كتاب Osmanlı Saray Kıyafetleri للمؤرخة Nimet Koray (ص.144)، فنقرأ:

“الأنماط الزخرفية التي تميز ‘فاس كفتاني’ لم تكن معروفة في الأناضول قبل أن تصل عبر رسائل وهدايا ملوك المغرب.”

الأرشيف الأوروبي يشهد على الأصل المغربي

لم تقتصر الشهادات على العثمانيين، بل دعم الأوروبيون هذه الحقيقة من خلال رسومهم وتقاريرهم. ففي أرشيف المكتبة الوطنية الفرنسية (BNF)، تظهر رسومات لسفير فرنسي في القرن السابع عشر تُجسّد نساء فاسيات بلباس فخم يختلف تمامًا عن القفطان العثماني لاحقًا.

ويذكر الرحالة الفرنسي دومينيك بوسنو في كتابه Le Maroc au temps de Moulay Ismaïl (1684):

“القفطان الفاسي أطول، أكثر زخرفة، ويُنسج من حرير سميك لا نظير له في أقمشة الأناضول.”

لماذا يُصر البعض على إعادة كتابة التاريخ؟

إن محاولات طمس الأصل المغربي للقفطان لا تنفصل عن رهانات سياسية وهووية ظهرت بعد الاستقلال في بعض دول المنطقة، حيث سعت هذه الأنظمة لإعادة تشكيل رموزها الثقافية، فاستهدفت القفطان باعتباره عنصرًا قابلًا للسطو الرمزي.

إلا أن الشهادات التاريخية لا تقبل التأويل. فذاكرة الصناع التقليديين في فاس، والوثائق العثمانية والأوروبية، تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن القفطان المغربي — خصوصًا الفاسي — هو الأصل، وأن إسطنبول كانت المتأثرة، لا المُؤثرة.

“من فاس إلى إسطنبول” ليست عبارة بلاغية، بل توصيف تاريخي دقيق لمسار القفطان: من المركز إلى الهوامش، من المصدر إلى المُقلِّد. فالمغرب لم يكن مستهلكًا للموضة العثمانية، بل صانعًا ومُصدِّرًا لها، عبر تحف خياطةٍ وصناعةٍ تقليدية تُجسِّد التفوق المغربي الأصيل.

https://anbaaexpress.ma/t28l0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى