د. خالد خالص
تعيش مهنة المحاماة في المغرب واحدة من أكثر لحظاتها هشاشة منذ عقود. فمنذ الإعلان عن مراجعة “شاملة” للقانون المنظم للمهنة، روج لهذه الخطوة باعتبارها تحديثا ضروريا واستجابة لرهانات المستقبل.
غير أن الوقائع تكشف مسارا مغايرا، محكوما بالغموض وغياب الشفافية، وبنزوع واضح نحو إعادة ترتيب موازين القوة داخل الجسم المهني.
فعلى الرغم من الوعود الرسمية بإشراك الهيئات المهنية كما جرت به العادة وكما ينص عليه الدستور المغربي، ظل النص النهائي للمشروع خارج متناول النقباء والمجالس، وكافة المحاميات والمحامين، بل وحتى جمعية هيئات المحامين بالمغرب التي يفترض أن تكون الإطار الجامع لـ17 هيئة وطنية لم تتوصل بالنص – حسب الأخبار المتداولة، رغم تأكيد رئيسها خلال المؤتمر الأخير للجمعية المنعقد بطنجة من 15 إلى 17 ماي 2025، أنه سيضعه بين أيدي المحامين، لتبقى الوثيقة معلقة بين التعهد والصمت.
أجريت لقاءات، ورفعت شعارات “التشاركية”، لكن ساعة الحقيقة كشفت أن الحوار لم يكن سوى واجهة شكلية. وأمام فراغ التواصل المؤسساتي، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي تسريبات انتقائية ركزت فقط على شروط الأقدمية والتمثيلية الجندرية للتصويت والترشح إلى جانب المجلس الوطني للمحاماة بتركيبته المثيرة للجدل.
وهي قضايا مهمة في الحكامة الداخلية، لكنها ليست إصلاحا، ولا ترقى إلى مستوى مشروع يوصف بـ “الشامل”. ومع ذلك، دفعت إلى الواجهة عمدا، سواء كانت تسريبات حقيقية أم مضللة، لتفجير سجالات جانبية تشتت الصف المهني وتصرفه عن الأسئلة الجوهرية.
إن الإصرار على دفع عنصر قابل للاشتعال إلى السطح يطرح سؤالا بديهيا: ما الذي يراد إخفاؤه؟ وما الذي يهيأ تمريره بعيدا عن النقاش؟ فبينما ينشغل المحامون بجدل الأقدمية وكوطا المحاميات وتركيبة المجلس الوطني، وكلها كراسي غير دائمة، يبقى جوهر الإصلاح غائبا: استقلالية المحامي، حصانته، علاقته بمختلف السلط، حمايته، وشروط الممارسة المهنية وكرامة المنتمين إليها.
وهكذا يتحول النقاش من نقاش حقوقي مؤسساتي إلى جدل إجرائي ضيق، بينما تمرر النصوص الأكثر حساسية بهدوء.
وتزداد الصورة قتامة حين نلاحظ أن القوانين التي صدرت أو عدلت خلال السنوات الأخيرة – وعلى رأسها قوانين المسطرة المدنية والجنائية – لم تبن على رؤية تشاركية تراعي موقع الدفاع داخل المنظومة.
بل إن جزءا كبيرا من هذه النصوص، التي تفتقد إلى النفس الحقوقي، لا تساعد المحامي على أداء رسالته وهو مطمئن ومحصن، لأنها تغفل طبيعة العلاقة العضوية بين الدفاع والضمانات القضائية، وتقصي المقاربة الحقوقية التي تجعل من المحامي شريكا في إنجاز العدالة لا مجرد طرف إجرائي.
وإلى جانب السياق التشريعي الملتبس، عرفت المهنة خلال السنوات الأخيرة موجة غير مسبوقة من “الإغراق الهيكلي”، بعدما تم تنظيم امتحانين في ظرف سنة واحدة ونيف شابتهما شبهات عديدة أثيرت بقوة في النقاش العمومي، وأسفرا عن تدفق ما يقارب سبعة آلاف وافد جديد على المهنة.
وهو رقم ضخم لم تهيأ له مكاتب المحاميات والمحامين ولا الهيئات، ولم يواكبه أي تخطيط مؤسساتي يستحضر البنية الاقتصادية للمهنة، ولا قدرة مكاتب المحامين على التكوين، ولا حتى الطاقة الاستيعابية للمحاكم.
ومع غياب هذه الشروط، تحول هذا التدفق إلى عامل إضافي لإضعاف المهنة، عبر الضغط على سوق العمل، وزيادة الهشاشة الاجتماعية للمحامين الشباب، وتعميق الفوارق المهنية داخل الجسم المهني.
إن المواثيق الدولية والدستور المغربي الذي يضعها تسمو على القوانين الداخلية، يضعان المحامي في صلب ضمانات المحاكمة العادلة، لكن هذا الموقع يتعرض اليوم للتآكل أمام ثقل قوانين لا تراعي موقع الدفاع، وسياسات غير مدروسة تغرق المهنة بالأعداد بدل تحديث بنيتها، وإصلاحات تسير نحو إعادة تشكيل التوازنات بدل تعزيزها.
فلا أحد يتحدث عن الاستقلالية التي لولاها يفقد المحامي هويته، ولا عن الحصانة التي تتيح له الترافع بحرية، ولا عن موقعه كسلطة مضادة ولا عن الوضع الاجتماعي الهش الذي يعاني منه جزء كبير من المحامين، ولا عن الأزمة الأخلاقية التي تنخر الممارسة المهنية.
وفي العمق، لا يتعلق بسنوات الأقدمية ولا بمعايير الترشح بقدر ما يتعلق بالسؤال المركزي: هل يستطيع المحامي أن يمارس رسالته بكامل استقلاليته واطمئنانه وأمانه المهني؟ وهل نحن أمام تحديث للمهنة أم أمام إخضاع لها؟.
إن مهنة ممزقة، مثقلة بخلافات داخلية، ومثقلة بانتظارات اجتماعية، ومفتوحة على تضخم عددي غير محسوب، ومحملة بانقسامات انتخابية تستنزف طاقتها، هي مهنة معرضة للضعف. ومهنة ضعيفة لا تؤدي دورها كسلطة مضادة، ولا تشكل ضمانة للحقوق، ولا تزعج أحدا من أولئك الذين لا يرغبون في وجود دفاع قوي.
ولهذا، فإن المخاطر الناتجة عن إضعاف المحاماة لا تمس أهل المهنة وحدهم، بل تضرب أسس العدالة نفسها. فحين يخفت صوت الدفاع، يتراجع مستوى سيادة القانون، وتضعف الرقابة القانونية على القرارات الإدارية والقضائية، وتزداد قابلية المؤسسات للانزلاق نحو ممارسات غير خاضعة للمساءلة.
كما ينعكس هذا الضعف على جودة المحاكمة العادلة، إذ تتراجع فعالية المواكبة القانونية والطعون، وتصبح الأخطاء القضائية أكثر احتمالا، بينما تهتز ثقة المتقاضين في القضاء.
ويمتد أثر هذا التراجع إلى الاقتصاد، حيث يتضرر الأمن التعاقدي، وتتراجع جاذبية المغرب للاستثمار، لأن أي بيئة استثمارية تحتاج إلى دفاع قوي قادر على تأمين التوازن في مختلف النزاعات.
كما تتعرض الحقوق والحريات لهشاشة أكبر، إذ يصبح الصحافيون والحقوقيون والنشطاء أقل حماية، ويتزايد خطر التضييق عليهم في ظل ضعف قدرة الدفاع على التصدي للتعسف.
وتفرز هشاشة التنظيم المهني فراغا تستغله الممارسات غير المهنية، بما فيها السمسرة القضائية، التي تشوه صورة المهنة وصورة القضاء وتمس بثقة المواطنين في العدالة.
كما يؤدي ضعف الصوت المهني داخل المحاكم إلى اختلال ميزان القوى، حيث يعلو صوت واحد وتختفي النقاشات القانونية المتعددة التي تغني الاجتهاد وتحسن جودة الأحكام. ويتعمق الخلل حين يستبعد المحامون من ورش الإصلاح التشريعي، فيفقد التشريع مرجعيته المهنية والحقوقية.
إن كل هذه التحولات تؤكد أن قوة المحاماة ليست امتيازا لأهلها، بل هي جزء من بنية الدولة الحديثة. وكل مساس بها هو مساس بسيادة القانون وثقة المواطن وجودة العدالة.
ولذلك، فإن إصلاح مهنة المحاماة لا يمكن أن يكون تمرينا تقنيا أو أداة لإعادة هندسة التحكم، بل مشروعا وطنيا يحفظ مكانة الدفاع باعتباره صمام أمان ديمقراطي لا غنى عنه.





تعليق واحد