آراءثقافةسياسة

الأمراض الفكرية المتوطنة

كنت في ألمانيا، وكانوا يقولون لي، هل تعتقد أم تعلم (بالألمانية glaubenXwissen) أو بالانجليزية (you think or know)؟ كنت أقول لهم: هما واحد عندي؟! كانوا يقولون: إذاً، لا بدّ لك من تغيير عقلك كلية.

وينقل عن نيتشه قوله: إذا أردت أن ترتاح فاعتقد، أمّا إن أردت أن تكون من حواريي الحقيقة، فاسأل.? وأتذكر في هذا الصدد حين سألني أحدهم عن الأمراض الاجتماعية المستوطنة، ومنها إشكالية النص، والاستعاضة به عن الواقع.

لماذا ارتبطت ذهنية المسلم بالنص؟ وكيف تحول النص من (آيات) إلى سلطةٍ؟

وتصوري أنه من أعظم الكوارث، في العقل الإسلامي، هي مسألة الأمراض الفكرية المتوطنة، فكما توجد أمراض متوطنة، مثل البلهارسيا، والملاريا، هناك من الأمراض الاجتماعية المستحكمة في مفاصل المجتمع ما هو أشدّ من الروماتزم الخبيث.

وإذا كان المرض يولّد المرض، ويهيِّئ الجوّ لمرض لاحق، مثل السكري، والسل، كذلك تفعل العواطف، فالإحباط يولّد العدوانية، وإذا كانت الأمراض تحلّق معاً، مثل سرب الطيور، فتغتال الجسم، كذلك تفعل الأمراض الاجتماعية.

والمجتمع العربي، اليوم، يعاني من حزمة من عشرة أمراض تشكّل حلقة تتبادل التأثير الخبيث هي: 1 – إجازة الغدر، 2 – تأليه القوة، 3 – احتقار العلم، 4 – تبرئة الذات واتهام الآخرين، 5 – الإيمان بالخوارق، 6 – تقديس السلف، 7 – ظنّ أنّ النص يغني عن الواقع، 8 – الاهتمام بفضائل الجهاد من غير معرفةٍ بشروط الجهاد، 9 – رفض الديمقراطية، مع أنها أقرب إلى الرشد من كلّ ما عليه المسلمون، 10 – ظنّ أنّ الأحكام لا تتغير بتغير الأزمان؛ أي: كأن العدل لا يمكن أن ينمو أكثر فأكثر.

نحن نحتفل في (أعياد الغدر)، وجعلناها مناسبات وطنية تعطّل فيها المدارس، والدوائر الرسمية، وهي ذكريات الانقلابات في الظلام، وسرقة الشرعية من الأمة.

أما (تأليه القوة)، فهو مرض أمويّ، منذ أن رفع معاوية السيف، فقال: من لم يبايع هذا، وأشار إلى يزيد، فله هذا، وأشار إلى السيف، وما زال السيف يحكمنا حتى إشعار آخر.

أما (إحتقار العلم)، فشاهده عقم الإنتاج العلمي، وشح التآليف، والدوريات، أما (تبرئة الذات)، فنحن نرى أنّ مشكلتنا هي إسرائيل، وأمريكا، ولا يخطر، في بالنا، أن نراجع أنفسنا لنطرح السؤال المزعج: ما الذي يسبب المرض، أهو وجود الجرثوم أم انهيار الجهاز المناعي؟ أما (الإيمان بالخوارق)، فالجو عابق بالخرافة ينتظر الزعيم المخلص، وما زالت الجنّ ناشطة في ربوعنا، وهناك من يوزّع البطاقات الانتخابية مثل الحروز، ويتحوّل الزعيم السياسي إلى (شيخ طريقة) يبايع على السمع والطاعة في بيعة أبدية، ويرقص الأتباع طرباً ليس على ضرب الصنج، والطبل، بل الزعيق بالروح بالدم نفديك إلى الأبد يا أبو الجماجم، في تظاهرات لو رآها الألمان في فرانكفورت لظنّوا أنّها مجموعة ضلّت طريقها من مصحّ الأمراض العقلية، وسارعوا بطلب نجدة البوليس لأرجاعهم وحجزهم خلف القضبان؟ نعم، إن الوطن تحول إلى مصحّة كبرى بقضبان وهمية.

أما السلف، فهو يُحتَرم ولا يُقدس، ويُستأنس به ولا يوقف عنده، ويستفاد منه ضمن خطة نقدية، والعلم يمثل حالة تراكمية من تبادل عمليتي الحذف والإضافة، وفوق كل ذي علم عليم.

أفكار الرازي حول معالجة الأنورزما جيدة عندما نصح بعدم (بطها) وربطها بخيطان حرير، فهي معالجة سليمة في وقتها، لكن طرق تصنيع الأوعية في الجراحة حالياً، من وضع أنابيب داخلية بخطافات (Stenting) دون شق البطن، تجعل ما أوصى به الرازي ذا قيمة تاريخية.

وإذا كان هذا ينطبق على كتاب الرازي الجراحي، فهو يصلح لفهم القرآن، فلا يمكن إضاءته بتفاسير قديمة، مثل ابن كثير، كما لا يمكن فتح جمجمة بأدوات فرعونية، ولا يمكن تدريس السيرة على شكل مسلسل من (الغزوات والمعجزات)، ولا بد من إعادة تصنيع الثقافة.

وكما كان للطب أدوات من مشرط وملقط، كذلك كان الأمر مع العلوم الحديثة والأدوات المعرفية المساعدة.

وأما (فك ارتباط النص عن الواقع)، فهو يجعل أحدنا معلقاً في الهواء، أو تهوي به الريح في مكان سحيق، فلا قيمة للنظريات دون ممارسة، والطبيب لا يكون ناجحاً دون تردد حيّ بين النظرية والممارسة، وجدلية من هذا النوع تقود إلى تصحيح التصور، ودفعه باتجاه التطوير.

ونحن نرفض الديموقراطية،  لأنها غربية لا تناسبنا، ولكن لم يخطر في بالنا أن نقول: إن السيارة غربية، وعندما نقلنا البرلمانات بنينا عمارات شاهقة بصالونات فخمة، ولكنها – كما وصف الإنجيل القادة العميان – «مثل القبور خارجها أبيض مطلي، ومن الداخل نجاسات وعظام أموات». إنها حكاية بائسة ينقلها أخرس عن آخرَ مهمته الكلام.

وأما الجهاد، فحصرناه بالقتال، ويمكن لأي مجموعة ناقمة أن تنظم نفسها، وتنقض على أيّ نظام حكم، وتقول عن عملها إنه جهاد في سبيل الله، كما لو أجرى الجراح عملية كبرى على قارعة الطريق دون تهيئة الشروط، ودخول الجراحة بشروط تعقيمية مشددة.

أما الديموقراطية، فنعتبرها كفراً، ولا يخطر في بالنا أنّ قضية التوحيد سياسية، وليست ثيولوجية، وأن الأنبياء نادوا بكلمة سواء أن لا يتخذ البشر بعضهم بعضاً أرباباً.

إذاً، لكانت مهمة الأنبياء سهلة ومريحة، وعندما نقرأ آية ملك اليمين، لا يخطر في بالنا أنها آية نسخها الواقع، وليس لها سوى قيمة تاريخية، وأنّ كمية العدل غير قابلة للنكس والتوقف.

إنّ حزمة الأمراض هذه، في العالم العربي، واحدة في النوعية، ومختلفة في درجة السمية، مثل التيفوئيد، فهو يتظاهر عند مريض بارتفاع الحرارة، وقد يضرب القلب والشغاف عند ثانٍ، وقد يثقب الأمعاء بنزف خطير، وفي السياسة نرى دولاً تنزف، مثل الجزائر، وأفغانستان، وأخرى تئنّ من الديون الخارجية، وثالثة في حالة اختناق سياسي، وخشعت الأصوات للحاكم، فلا تسمع إلا همساً.

https://anbaaexpress.ma/st6lj

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى