لطيفة بومهدي
يخلد العالم في العاشر من أكتوبر كل سنة اليوم العالمي للصحة النفسية، وهومناسبة عالمية تهدف إلى رفع الوعي بأهمية الصحة النفسية، وتعزيز الدعم النفسي والإجتماعي للأفراد والمجتمعات.
واختارت منظمة الصحة العالمية شعار اليوم العالمي للصحة النفسية 2025. “الصحة النفسية حق إنساني للجميع” في وقت يعيش فيه العالم على وقع أزمات متعددة، تتصدرها مأساة غزة التي تشهد واحدة من أشد الكوارث الإنسانية والنفسية في العصر الحديث.
وتذكرنا هذه المناسبة بأن الصحة النفسية، ليست ترفا بل حقا أساسيا يوازي الحق في الحياة والأمان، إلا أن هذا الحق ينتهك في غزة يوميا على مدار سنتين من التقتيل والتهجير والتجويع.. حيث يعيش آلاف الأطفال والنساء والرجال تحت وطأة الخوف، الفقد والدمار.
الصحة النفسية حق يسلب في زمن الحرب لصالح الطغاة دون رحمة أو شفقة. وتقدر منظمات دولية أن نسبة 80 بالمائة من الأطفال في القطاع وهي نسبة كبيرة جدا، يعانون من اضطرابات نفسية حادة مثل القلق المزمن، واضطرابات مابعد الصدمة والإكتئاب نتيجة القصف المستمر وفقدان الأهل والمأوى..
في غزة الألم النفسي أعمق من الجراح
الألم النفسي يختزل المأساة الإنسانية في القطاع، لأن مايتركه الدمار النفسي يفوق بكثير آثار الجراح الجسدية التي تشفى مع الوقت، بينما الندب النفسية تبقي عالقة في الذاكرة والوجدان مدى الحياة.
في غزة لا تنتهي المعاناة بانتهاء القصف أو توقف أصوات الطائرات، فالكثير من النازحين لا يجدون الكلمات لوصف معاناتهم ، لأن ما مروا به يفوق قدرة اللغة على التعبير.
ويقول علماء النفس أن الألم النفسي يكون أعمق حين يكبث يؤدي الى شعور الإنسان بالوحدة في معاناته، ويعيش حالة من الذنب لأنه نجا بينما مات غيره، مما يزيد من الصراع الداخلي بين الرغبة في الحياة والشعور بعدم استحقاقها، وهنا يصبح الألم النفسي الصامت نفسه علامة على جرح لم يلتئم.
فالجراح التي ترى بالعين يمكن علاجها بالأدوية، أما الجراح التي تسكن النفس فلا علاج لها إلا بالأمان والإحتواء والسلام.. وهي أمور غائبة عن حياة الفلسطنيين منذ سنوات طويلة.
إن ما يعيشه أطفال غزة اليوم هو نموذج حي لصدمة جماعية متوارثة، فالطفل الذي يرى بيته يهدم أو يفقد والديه أمام أعينه لا ينسى، بل يحمل الخوف بداخله كظل دائم.. وتظهر الدراسات النفسية أن العيش في بيئة عنف مستمر ينتج عنه اضطرابات في النمو العاطفي والعصبي تنعكس على الحياة العامة.
إنها حرب على الذاكرة والروح، لا تقل شراسة عن الحرب بالسلاح، فحتى لو توقفت الحرب فإن السلام النفسي لا يتحقق بسهولة لأن الروح تحتاج إلى زمن طويل لتصدق أن الخطر انتهى.
من يتحمل المسؤولية عن المعاناة النفسية في غزة ؟؟
الاحتلال الإسرائيلي هو المصدر المباشر للصدمة النفسية التي يعيشها سكان غزة منذ سنوات طويلة، فالقصف العنيف بشتى أنواع الأسلحة المحرمة دوليا، وعلى الهواء مباشرة يوثق للعالم أن الاحتلال يتحمل المسؤولية القانونية والإنسانية والأخلاقية عن هذا التدمير النفسي الجماعي.
المجتمع الدولي: مسؤولية التقصير
إن تقاعس المجتمع الدولي عن فرض حماية حقيقية للمدنيين ودعم برامج العلاج النفسي في غزة يجعله شريكا في استمرار المعاناة، فالحق في الصحة النفسية منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مما يعني أن تجاهله إنتهاك للقانون الدولي الإنساني.
الأنظمة العربية والإسلامية
والجزء الكبير من المسؤولية يقع على عاتق الدول العربية والإسلامية التي يفترض أن تدعم غزة ليس فقط بالمساعدات الغدائية والطبية، بل أيضا بفرق دعم نفسي، ومراكز تأهيل نفسي واجتماعي، وتقديم العون عن طريق ترسانة من المتخصصين النفسيين من أطباء ومساعدين اجتماعيين لتخفيف المعاناة النفسية التي خلفتها أهوال الحرب الإسرائيلية على القطاع.
الصحة النفسية ليست ترفا، بل هي شرط أساسي لإعادة بناء المجتمع بعد الحرب.
ما يحدث في غزة ليس أزمة فلسطينية فحسب، بل أزمة إنسانية عالمية تخاطب المسؤولية الجماعية للأنسانية، فكل من يصمت أو يتجاهل الألم النفسي لسكان غزة، يساهم بطريقة غير مباشرة في استمرار الجرح مفتوح.
المسؤولية إذن تتوزع لكنها لاتتساوى، فالإحتلال هو الجذر والعالم المتقاعس هو الصمت الذي يغديه.
في غزة لا يحتاج الناس فقط إلى غداء ودواء، بل إلى أذن تسمع، وضمير عالمي يستيقظ، لأن الألم النفسي هناك لم يعد حالة فردية، بل أصبح وجعا جماعيا لأمة بأكملها.




