“إن هذا المقال يندرج في إطار حرية التعبير والنقد البناء التي يكفلها الدستور المغربي في فصله 25، وما يتيحه القانون الدولي لحقوق الإنسان، وهو ليس موجّهًا للنيل من الأشخاص بقدر ما هو مساءلة للسياسات العمومية التي ساهمت في تفاقم الأزمة”.
في البدء كانت الفوضى، وما يزال الإنسان يكررها في صور مختلفة تحت مسميات متجددة، كأنما القدر يسخر منا بمرآة تكشف أن المجتمعات التي لا تحاسب نخبها الحاكمة محكومة بإعادة إنتاج مآسيها في كل جيل.
جيل Z في المغرب، أبناء المرحلة الممتدة بين نهاية التسعينيات ومطلع العقد الثاني من الألفية، خرجوا إلى الشوارع في الأيام الماضية في احتجاجات تبدو كأنها صرخة بريئة ولكنها في العمق مرآة لكبت طويل، صرخة ولدت من رحم خيبة جماعية ومن عجز حكومة يقودها من لا يفرق بين إدارة الدولة وتوسيع حصص السوق..
حكومة أخنوش التي جسدت نموذج التداخل المرضي بين السياسة والمال حتى صار الوطن شركة كبرى وأسهمها موزعة بين رجال الأعمال، فيما الشعب مجرد زبون لا حول له ولا قوة.
لقد تجاهلت هذه الحكومة التعليمات الملكية التي أكدت غير ما مرة على جعل التعليم والصحة أولوية قصوى، لكنها، بوعي أو بغير وعي، تركت الملفات الاستراتيجية في يد من لا يهمهم سوى الأرقام والصفقات واللوبيات، فصار التعليم رهينة “المقاولاتية”، وصارت الصحة مختبراً لبيع الوهم تحت يافطة الإصلاح، وفي الحالتين صار المواطن ضحية لمعادلة مقلوبة جعلت من الحق الطبيعي امتيازا ومن الكرامة بضاعة معروضة في المزاد.
جيل Z الذي تربى في رحم الثورة الرقمية، يعي جيداً أن العالم مفتوح، وأن كل معلومة باتت مكشوفة بضغطة زر، لذلك فإن محاولة التضليل لم تعد ممكنة، والرقابة لم تعد تجدي، بل صارت سبباً في تفاقم السخط لأن الشاب المغربي يقارن بين ذاته ومحيطه الإقليمي والعالمي، فيرى أن سياسات حكومته لم تمنحه سوى بطالة مؤبدة، ومستقبلاً مغلقاً، وأفقاً يسد بالوعود، فيما يتكاثر أثر تغول الشركات الكبرى في كل قطاع، من المحروقات إلى المواد الأساسية، بحيث أصبح السوق المغربي محتلاً بطريقة ناعمة من قبل شبكات المصالح التي يديرها أخنوش نفسه ووزراؤه، في تناقض فاضح مع أبسط مبادئ الحكامة والديمقراطية.
هنا يصبح السؤال سيكولوجيا ماذا يحدث لجيل كامل حين يشعر أن السلطة تعتبره خطراً، بينما هي في الحقيقة من صنع الخطر بتركه وحيداً أمام مصير مظلم؟
هنا تبدأ عملية التحويل النفسي.. الاحتجاج يتحول إلى عنف، الصرخة تتحول إلى تكسير الممتلكات، والغضب الاجتماعي يجد متنفساً في الشارع حين يغيب الحوار الجاد.
ولأن الأجهزة الأمنية تركت في مواجهة هذه الموجة دون حلول سياسية جذرية، فقد بدت الصورة وكأن الدولة تضع شرطتها في الواجهة لتدفع ثمن أخطاء حكومة اختارت أن تدير البلاد بمنطق “شركة مساهمة”، غير مدركة أن الاحتقان النفسي والاجتماعي أخطر من أي أزمة مالية أو اقتصادية.
ومع هذا الفراغ، يجد الطابور الخامس فرصته الذهبية، ذلك الكيان الشبحي الذي يتغذى من تناقضات الداخل ويستثمرها لأجندات خارجية، إذ لا يمكن فصل هذه الاحتجاجات عن سياق عالم مفتوح على كل أشكال الاختراق والتلاعب، من الحملات الرقمية إلى استغلال هشاشة الوعي الجمعي.
هنا تتجلى المفارقة الكبرى، الدولة التي لم تحاسب المتورطين في الفساد ولا في تبديد المال العام، هي نفسها التي تتوقع من الشباب الصمت والطاعة، لكنها تصدم حين يتحول الصمت إلى انفجار.
البعد الفلسفي لهذه اللحظة يكمن في أن الاحتجاجات ليست مجرد رد فعل آني، بل هي نتاج لتراكم سياسات التفاهة، حيث شجع رموز الابتذال الفني على حساب الثقافة الجادة، وصُنع من كائنات أمعية مثل “طوطو” نجوم المرحلة، فيما أُقصي الإعلام الجاد، وهمش الصحافي الوطني الحر، وقبرت النخبة النقدية البناءة، وبذلك حرم المجتمع من أدواته الطبيعية لتصريف الغضب بطريقة عقلانية، فكانت النتيجة أن عاد العنف ليملأ الفراغ الذي تركه تغييب الفكر والنقد.
في الحقيقة، تتحمل الدولة مجتمعة المسؤولية لأنها لم تفعل مبدأ المحاسبة، ولأنها سمحت بأن تتحول الصحة والتعليم إلى سلعة في يد رجال الأعمال، وتركت البطالة والفساد يتفاقمان حتى صارا قدراً يومياً.
إنها مسؤولية سياسية وأخلاقية وسيكولوجية في آن واحد، لأنها لا تتعلق فقط بإدارة ملفات بل بإدارة وعي أمة وبناء مستقبل أجيال. وحين تفشل الدولة في حماية الأمل، فإنها تفتح الباب أمام اليأس، واليأس حين يتجذر في النفوس يتحول إلى نار تحرق الأخضر واليابس.
جيل Z اليوم لا يطالب بالمستحيل، بل يطالب بما هو بديهي.. تعليم يحترم ذكاءه، صحة تصون جسده، فرص عمل تحفظ كرامته، وإعلام يعكس صوته لا يسخر منه.
وحكومة أخنوش، بدل أن تصغي، استمرت في لغتها الخشبية وفي منطقها المقاولاتي، وكأن الوطن صفقة في معرض أو استثمار عابر، غير مدركة أن التاريخ لا يرحم، وأن الشعوب التي تشعر بالخيانة لا تنسى.
إننا أمام مشهد سيكولوجي جماعي، يعكس فشل السياسة حين تتحول إلى إدارة للربح والخسارة بدل أن تكون إدارة للمعنى والكرامة.
ولأن الفلسفة تعلمنا أن الكارثة لا تولد من حدث مفاجئ بل من سلسلة طويلة من التجاهلات الصغيرة، فإن ما نعيشه اليوم هو ثمرة لتجاهل تراكم عبر سنوات، تجاهل أصوات المثقفين، تجاهل التعليمات الملكية، تجاهل آهات الشارع، وتجاهل أن العالم لم يعد كما كان.
تبقى الحقيقة المرة أن المغرب لا ينقصه الذكاء ولا الطاقات ولا الإمكانيات، بل ينقصه فقط أن تتحرر السياسة من قبضة المال، وأن تعود الدولة إلى جوهرها الأول رعاية الإنسان قبل رعاية السوق.
ولعل احتجاجات جيل زد تكون جرس إنذار، لا لتأجيج المواجهة، بل لإعادة التفكير في معنى الدولة ذاتها، لأن الاستمرار على هذا النهج لن يؤدي سوى إلى مزيد من الفوضى والخيبة..
أنا 29 سنة ، نهار تفكرت راسيفي هاد بلاد شوفتةغير العداب و القهر و الضياع
حياتي ضاعت هاد البلاد والله
29 سنة والوا لا انجاز ابدا