تعود الكاتبة المغربية هند الصنعاني بروايتها الجديدة «أجنحة مبتورة» لتقتحم موضوعا غائبا عن السياق المغربي، لكنه حاضر بقسوة في مناطق أخرى من العالم العربي والإفريقي، ورغم أن ظاهرة ختان الإناث غير موجودة في المغرب، فإن الصنعاني اختارت تناولها من زاوية إنسانية ترى أن الألم لا حدود له، وأن جريمة تمس طفلة واحدة هي جريمة تمس الإنسانية جمعاء.
تؤكد الكاتبة هند الصنعاني أن فكرة الرواية ولدت من صدمة عميقة شعرت بها بعد اطلاعها على شهادات حقيقية لفتيات مررن بتجربة الختان، شهادات لم تستطع تجاوزها بسهولة، خاصة مع سؤال ظل يلاحقها، كيف يمكن أن يُشوه جسد طفلة باسم الطهارة والعفة؟! وكيف تتحول عادة اجتماعية إلى ندبة أبدية ترافق الضحية طوال حياتها!.. من تلك الشرارة انطلقت رحلة الكتابة، لتخرج رواية تدين الفعل وتكشف ما يتركه من جراح جسدية ونفسية وذاكرية لا تُمحى.
تدور أحداث الرواية حول الطفلة روح الفؤاد، التي لم تتجاوز العاشرة عندما انقلب عالمها رأسا على عقب في ليلة واحدة خضعت فيها للختان، منذ تلك اللحظة، تهشم معنى الأمان داخلها، وتحول الأب من رمز للحماية إلى مصدر للخوف، وصارت الأم شريكة في الجرح بدلا من أن تكون حضنا وملاذا، بدا المجتمع كله، في نظرها، منظومة صامتة تبارك الألم وتغطيه بعباءة الفضيلة، هكذا انقسم عالم روح إلى زمنين، زمن قبل الختان وزمن بعده، وبينهما مساحة شاسعة من الغضب والارتباك والحقد والرغبة في الانتقام، أحاسيس ولدت داخلها مبكرا واستمرت في النمو معها.
ومع مرور السنوات، تتحول هذه المشاعر إلى نار داخلية لا تهدأ، فتقرر روح أن تنتقم ممن سلبوها طفولتها، كانت تؤمن أن الانتقام سيطفئ ما يشتعل في داخلها، وأن مواجهة المجتمع بالقسوة ذاتها التي عاملها بها ستعيد إليها جزءا من إنسانيتها، لكن الصنعاني ترسم، عبر تطور الشخصية، مسارا نفسيا يفضي إلى مفاجأة مؤلمة، فقد أدركت روح، في نهاية رحلتها، أن انتقامها لم يكن موجها إليهم بقدر ما كان موجها إلى ذاتها، كانت تُمعن في إيذاء نفسها من حيث ظنت أنها تستعيد حقوقها، وكأن الطفلة التي بُترت أجنحتها بقيت تصرخ داخل جسد امرأة لم يسمعها أحد.
تقدم الرواية معالجة مركبة لقضية الختان؛ فهي تفتح من جهة نقاشا حول ممارسة تُرتكب باسم العادات، وتغوص من جهة أخرى في أعماق النفس البشرية لتشرح الآثار الممتدة لهذه التجربة على مستوى الوعي والجسد والهوية، كما تطرح أسئلة كبيرة حول علاقة المجتمع بجسد المرأة، وحدود السلطة الأبوية والدينية، وما إذا كانت الطفلات يمتلكن فعلا حقهن في أجسادهن، عبر هذا المنظور الواسع، تتجاوز الرواية حدود المكان لتتحول إلى مرافعة إنسانية ضد تشويه الجسد وانتهاك الكرامة.
يشكل الغلاف بدوره امتدادا بصريا لنبرة النص، إذ تظهر طفلة تدير ظهرها، يداها مقيدتان، وتتساقط من كتفيها أجنحة صغيرة ممزقة كانت يوما ما كاملة، اللون الأحمر الطاغي يشير إلى النزيف والخوف، فيما تعكس الخلفية الداكنة إحساسا بالعزلة والخذلان، إنه غلاف يختصر الرواية كلها في مشهد واحد، طفلة سجنت داخل أسوار العادات قبل أن تتعرف إلى الحياة.
برواية «أجنحة مبتورة» تؤكد هند الصنعاني أنها كاتبة لا تخشى الاقتراب من القضايا الأكثر إيلاما، وأن الأدب قادر على كشف المسكوت عنه وإعادة فتح النقاش حول مواضيع تختبئ خلف خطاب الطهر والفضيلة، إنها رواية ليست فقط شهادة على مأساة، بل صرخة لحماية الطفولة، واحترام الجسد، واستعادة تلك الأجنحة التي بُترت قبل أن تملك فرصة الطيران.




