آراءثقافة
أخر الأخبار

جدلية التراث والحداثة.. في ضوء الثورة المعرفية

استطاع (ابن خلدون) بومضة عبقرية أن ينتبه أن مطب (النقل) وقع فيه كثير من أئمة النقل و(التفسير) لآنهم اعتمدوا على (صحة الخبر) بآلية (نقل الخبر)

الجراح يدخل قاعة العمليات متنكراً لا يرى منه الا الاحداق، وخلال لحظات يدخل حفلة تنكرية فيغير مهنته بين نجار وحداد وخياط وحلاق؟ فهو (نجار) في جراحة العظام قد حمل المطرقة والمسامير، يعلو جبينه العرق وتئز ماكينة ثقب العظام أزاً، أو (خياط) في جراحة الأوعية الدموية، تعمل ابرته برشاقة في رتق جدر الشرايين الممزقة.  ويعتمد الجراح في عمليته على أدوات شتى من المشرط  والملقط  والخيط  والمخثر الكهربي وماص السوائل، وكما عند (النجار) فهي المطرقة والمنشار والمسمار، وأما (الميكانيكي) فيدخل الى بطن السيارة بمفك البراغي. فما هي عمليات فتح (بطن التاريخ) بالأدوات المتطورة الجديدة؟

في عمليات فتح (بطن التاريخ) وتفكيك إحداثيات (التراث) ليدخل الوعي ويصبح عقلانياً سننياً منهجياً فلا نتحدث كالسحرة والمجانين، نحتاج الى أدوات نوعية تعرف بالعلوم المساعدة.

الساحر يدمدم بألفاظ ليس لها تفسير الا عنده، والمجنون يتحدث بنفس لغتنا بانفكاك كامل عن الواقع. المجنون عندما يقول: تغديت البارحة في المريخ يعتبر قوله صحيحاً على جزئين؛ من منظار أنه أكل، أو أن هناك كوكب اسمه المريخ.

ولكن جرت العادة أن المآدب لا تقام خارج الأرض؛ فخرق العادة والانفكاك عن الواقع هو الجنون. لا غرابة أن اتهم العباقرة والانبياء بالجنون؛ فكان لابد من شحنهم روحياً، أن معدن النبوة غير مستنقع الجنون وزمع الكهَّان (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون).

 تشريح التاريخ

الأدوات المعرفية لتشريح التاريخ متنوعة: من علم (الفيللوجيا PHILOLOGY) لفك أسرار اللغات المغيبة، واستحضار علم الانثروبولوجيا (علم الانسانANTHROPOLOGY)..

والاصغاء الى همس قوانين التاريخ، واستنطاق علم الآثار وغريزة اللغة في علم (الألسنيات) واستخدام تقنية (بصمة الجينات)، وفهم عمل البيولوجيا والفيزيولوجيا، وديناميكية السيكولوجيا، ونظم علم الاجتماع، ونبض سنن الحضارة؛ فلا يمكن الدخول الى (بطن) أي علم بدون الاستعانة بحزمة من العلوم المساعدة هي أدوات تشريح هذا الحقل..

فلا يمكن فتح جمجمة مريض اليوم بأدوات فرعونية، ولا يمكن التداخل على (أم دم ـ انورزم ANEURYSM) بأدوات (الرازي) الجراحية، ولا يمكن فهم القرآن بعقلية أناس تحددت إحداثيات الرؤية لديهم من القرن العاشر الميلادي، ولا يمكن سبر قاع البحر بغطاسين يعتمدون كتم النفس لمدة ثلاث دقائق.

تشخيص المرض والتداخل الجراحي على الجسم يتم اليوم باستخدام تقنيات شتى، واعتماد (ضفيرة) مرعبة من التقنيات، لفك ألغاز المرض وإماطة اللثام عن سيره المضطرب؟ ولو بعث ابن كثير وابن تيمية لكتبوا الجديد وأضافوا المثير، واعترفوا بالكثير من الخطأ؛ فهم على كل حال غير معصومين، وليسوا فوق النقد أو دون الخطأ. فلا يخرج الانسان عن إحداثيات العصر وارتكاساته الفكرية.

الكتابة تدخل مثلث (اللغة ـ الفكر ـ الواقع). الفكر يولد من رحم التاريخ، واللغة تتطور بنمو الفكر، في معادلة متفاعلة عكوسة.

حراثة البحر على عمق 11 كيلومتر؟‍

 ضجة (الاستنساخ CLONING) في فبراير من عام 1997 م و (الفياجرا VIAGRA) في ربيع عام 1998 م لم تأت الا من خلال تدفق (كم) متعاون من العلوم، وتعاون ضفيرة عملاقة من العلوم الحديثة. فلا يمكن فهم الاستنساخ الا في ضوء اختراق فضاءات معرفية جديدة وتطوير تقنياتها، من مشروع الجينوم البشري (H.G.P. = HUMAN.GENOM.PROJECT) وجراحة الجينات (GEN-SURGERY) ومشروع البنك الخلوي الأمريكي (A.T.C.C.= AMERICAN – TYPE – CULTURE – COLLECTION).

يتم سبر البحر اليوم حتى عمق 4500 متراً بغواصات من نوع (الفين ALVIN) وهناك من يقتحم لجة المحيط السفلي حتى 6500 متر في غواصات مصممة لثلاث أشخاص (من نوع شينكاي SHINKAI)  ويصمم الآن نوع جديد من الغواصات تدعى (الطائر العميق DEEP FLIGHT) للحفر في أرض البحر بعمق 11000 متر (أحد عشر كيلومتراً) والاستفادة من كنوزه المجهولة (1) البشر جابوا اليابسة حتى الآن، ولكن ثلاثة أرباع الكرة الأرضية بحر وماء لم تكتشف بعد، فلا يصل الى القاع الا الأموات والحطام، من نموذج سفينة التيتانيك أو سفن الفضة الاسبانية المنهوبة من البيرو. وهكذا فالحراثة في البحر لم تعد نكتة بل علماً يدشن.

نطق بلا صوت ولسان

(شامبليون) عالم الآثار الفرنسي استنطق الفراعنة؛ فأنهضهم من قبورهم يتكلمون بغير لسان، وبشهاداتهم أمام التاريخ يدلون، وعن وحروبهم وحياتهم يروون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون، واستطاع البريطاني (هنري رولنسون) أن يفك ألغاز اللغة الفارسية القديمة من نقش الملك الفارسي (دارا الأول) على صخرة بارتفاع 300 متر معلقاً بحبل مثل القرود بجهد استغرق اثني عشر عاماً.

وادعى (جورج بوناني GEORGE BONANI) رئيس مخبر (تقنية الكربون 14) في (زيوريخ) أن هرم خوفو بني أبكر من وقته بـ 400 سنة، خلافاً للتقويمات الفلكية وما سجلته وثائق التاريخ، فهو يعتمد على نفس ملاط أحجار الهرم يستنطقها عن عمرها بغير فم ولسان، فتحدث عن أخبارها. (سفينتو بيبو SVAENTE PAEBO) عالم (بصمة الجينات)(2) عرف متى مات الفرعون المصري من مومياء محنطة في متحف، بواسطة خزعة لا تزيد عن رأس دبوس.

بواسطة تقنية (بصمة الجينات) فُك سراح سيمبسون (الأمريكي الأسود لاعب الكرة الشهير) من جريمة قتل، كما عرفت هوية الهياكل العظمية لعائلة القيصر (نيقولا الثاني) الذين قضوا نحبهم في مذبحة مروعة في (كاترين بورج KATHERINBURG) عام 1917م، وبواسطة تقنية (البصمة الجينية) تم الوصول إلى بعض الأسرار الخطيرة في قراءة وثائق كهوف (كمران) بجانب البحر الميت، بعد أن كاد اليأس يحيل بينها وبين قراءتها، بعد تآكل النصوص من رقع جلد حفظت يوميات طائفة عاشت في زمن بعثة المسيح عليه السلام (3)

 نظام الاتصالات من ابن خلدون الى الأقمار الصناعية

وفي الوقت الذي استبعد (ابن خلدون) أن يكون موسى (عليه السلام) قد دخل معركته في التيه بجيش لجب من 600 ستمائة ألف مقاتل، بسبب خطأ (لوجستي) فكيف يمكن لجيش أن يخوض قتالاً تضيق عنه الأرض، ولا يوجد فيه نظام اتصالات؛ فلا يعرف رأس الجيش ما يجري لنهايته الأخرى انتصرت أم انهزمت؟ كما جاء في المقدمة (فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر؟)..

في الوقت الذي زحف فيه (هتلر) بخمسة ملايين جندي على الاتحاد السوفيتي في عملية (بارباروسا BARBAROSSA) بسبب تقدم تقنية الاتصالات، وكان تعداد الجيش السادس لوحده (360000 ثلاثمائة وستين ألف مقاتل) تحت قيادة (فون باولوس VON PAULOS) الذي خسر معركة ستالينغراد بعد موت مليون انسان روسي وفناء معظم الجيش الهتلري (4) واليوم يمكن خوض حرب نووية على مستوى كوني بنظام اتصالات أقمار صناعية، بجيوش تبلغ الملايين، وبأسلحة استراتيجية محمولة على الصواريخ، تصل أي نقطة في الكرة الأرضية، خلال فترة لا تزيد عن ثلث ساعة، وبخطأ في التصويب لا يبعد عن الهدف 15 متراً؟ وهو الذي كشف سره عضو الدايت (DIET) الياباني (شينتارو ايشيهارا SHINTARO ISHIHARA)..

في كتابه (اليابان تقول: لا) عن سر تراجع التسلح النووي، بسبب اعتماد دقة تصويب الصواريخ، على الأقراص الكمبيوترية (الشيبس CHIPS) المصنعة في اليابان؛ لتضرب فوهات (السيلو SILO) مباشرة، بما يشبه إصابة رأس دبوس، في قاعدة الصواريخ في فاندنبرغ (VANDENBURG) في أمريكا، المحوطة بخرسانة اسمنتية مسلحة بسماكة مائة متر؛ فأصبح بذلك مصير الحرب خارج يدي روسيا وأمريكا ؟؟..هكذا يقول (ايشيهارا)(5) ؟

 تقنية الكربون 14 والبوتاسيوم وعمر الأرض

بواسطة تقنية الكربون 14 يمكن استنطاق عمر أي شيء حتى ستين ألف سنة (بالضبط 57000 عاماً باعتماد قانون نصف عمر تحلل عنصر الكربون البالغ 3750 سنة) وبواسطة تقنية (الأرغون ـ البوتاسيوم) أمكن تحديد عمر الأرض بـ 4,6 مليار سنة، وبواسطة نظام الطيوف الضوئية أمكن تحديد عمر النجوم، وعرف أن الوجود تعرض الى ثلاث انفجارات عظيمة: (كوسمولوجية) قبل 13.7 مليار سنة فظهرت المجرات، و (بيولوجية) قبل 530 مليون سنة على ظهر الأرض، عندما تدفقت سلسلة رائعة متنوعة من الكائنات في مدى خمسة ملايين من السنين، و (ثقافية) حصلت قبل 200 ألف سنة عندما ظهر الانسان الثقافي الذي يستخدم اللغة كترميز وتجريد. وبدون اللغة بوظائفها الأربعة (السماع والنطق) و (القراءة والكتابة) لم يحصل تطور يذكر في تاريخ الانسان.

 كل هذه المعلومات جاءت بعد تطوير علم الانثروبولوجيا (علم الانسان)؛ عندما دشن (الانثروبولوجي ANTHROPOLOGIST) الأمريكي (تيم وايت TIM  WHITE) من الحبشة، كشفه عن أقدم كائن انساني ظهر على وجه الأرض بعمر يصل الى 4,6 مليون سنة مشكلاً الصفحة الأخيرة في كتاب سماكته ألف صفحة من الخليقة وتاريخ الأرض، إذا أخذنا بعين الاعتبار عمر الأرض 4,6 مليار سنة، وقام المؤرخ البريطاني (توينبي TOYNBEE) بتحديد عمر الحضارة في حدود ستة آلاف سنة لا يزيد، منطلقة من جنوب العراق الحالي.

 استطاع (ابن خلدون) بومضة عبقرية أن ينتبه أن مطب (النقل) وقع فيه كثير من أئمة النقل و(التفسير) لآنهم اعتمدوا على (صحة الخبر) بآلية (نقل الخبر) غثاً كانت أو سميناً؛ فلم يعرضوها على أصولها، ولم يقيسوها على أشباهها، ولم يسبروا المعلومات الواردة فيها بمعيار الحكمة، والواقع والوقوف على طبائع الكائنات، ولم يحكِّموا النظر والبصيرة في الأخبار، فتاهوا في بيداء الوهم والغلط. ليقرر في النهاية أن تدفق الزمن والتاريخ والأحداث  يخضع لسنة الله في خلقه التي لا تتبدل ولا تتحول، وأن الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء.

مراجع وهوامش:

(1) يعود الفضل في كتابة هذا المقال الى الأخت المفكرة (هيام ملقي) فهي عندما سمعت مني بعض هذه الأفكار قالت: يجب أن تسرع في كتابة هذه الأفكار لحاجة المسلمين لها وأرقام البحث في أعماق البحار نشرت في مجلة الشبيجل الألمانية عدد 31 تاريخ 27 \ 7 \ 98 ص 167 فتصل الغواصات الى عمق 915 م على الأقل ويصل الطائر العميق واحد DEEP FLIGHT 1  الى 1000 م ويسع شخصاً واحداً، أما الغواصة فينتانا VENTANA  فتصل إلى عمق 2000 متر وبالمناسبة فإن الأخطبوط العظيم بطول 18 م يعيش تحت عمق ألف متر والحوت الأزرق الهائل بطول 20 م فيستحم بكل سهولة بعمق بين 2 و 3 كيلومتر.

(2) كوبي الأصل سويدي الجنسية وربحته ألمانيا عندما اكتشفت إمكانياته فمنحته كرسي استاذية في جامعة ميونيخ.

(3) ضلت عنزة راعي فطاردها في المنطقة ليكتشف كهفاً فيه ملفات من جلد باع أحدها بمائة وخمسين مارك لسائح ألماني الذي باعها لاحقاً لمؤسسة (روكفللر) في أمريكا بما يزيد عن مليون دولار في أعظم تجارة بيع وشراء.

بعدها تم الكشف عن 11 كهفاً فيه 900 ملف من هذا النوع تخلد ذكريات هذه الطائفة واليوم بعد مرور كل هذا الوقت على الحادث تعلن مجلة الشبيجل الألمانية (DER SPIEGEL) أن ما أعلن عنه قد يهز العقيدة المسيحية في حقيقة شخصية يسوع، في شهادة واضحة أن التاريخ سيكشف عن أسرار خطيرة للغاية مع الأيام، ولن يصح في النهاية الا الصحيح، ولعل أخطر خلاف بين الاسلام والمسيحية في قضية حقيقة المسيح سيلقى عليها الضوء وعلمياً مع الوقت، ولكن جرت العادة أن العقائد لا يؤسسها العلم بل لها طريقتها الخاصة في اقتناص أتباعها وعبادها.

(4) الذي وقع في الأسر من أصل 360000 خمس وتسعون الفاً ومن اكتحلت عينه برؤيا الوطن كانوا فقط خمسة آلاف رأيت بعضهم أثناء اختصاصي في المانيا يراجع في هذا كتاب ألمانيا النازية في أربعة مجلدات تأليف وليم شيرر ترجمة خيري حماد (5) اليابان تقول: لا ـ شينتارو ايشيهارا ـ دار الحمراء ـ ص 17 و18 و19.

https://anbaaexpress.ma/rp0d8

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى