
من تاريخنا الخفي، من نزعتنا التي تقودنا عادة إلى النفور من كل أشكال البراباغاندا، وتلك معرّة الثقافة المغربية التي سقطت في وهم التمييز بين التجارة والثقافة، بين الواقع والخيال، ولطالما دفعوا الثمن غاليا. لكن تاريخنا النّضالي صامت كالواقع نفسه، له دبيب في سجلات التاريخ، وهو يكاد يكون تاريخا هاربا من الأضواء، حتى أنّ ما يبدو من مفاخر تاريخنا المجيد الذي يحتفل به الأغراب ليس هو الأهمّ، وما هو مهمّ لا يحتفلون به.
هل قدرنا أن نعرف تاريخنا في صمت، ونتقاسمه فقط مع الأرشيف؟ إنّ التاريخ لا يكتب مرة واحدة، ذلك لأنّ الجغرافيا تفرض دائما الحاجة إلى الاستذكار. وهكذا بتنا لا نملك خطابا تاريخيا أيديولوجيا، بل تاريخا صامتا كالوثيقة، فالوثيقة لا تنطق بلسان ولكن يستنطقها المؤرّخ. وعلى ذكر الوثيقة، فهي ناطقة، وإن واراها الغبار، نفضناها بأيسر ما يكون النفض، نستنطقها ولا ننطق عنها، فهي ناطقة منذ الأزل، ولا نجمعها من سقط متاع ما لا يعتبر من المصادر مزقا، نصنع تاريخا من عجين نشكّله على حسب رغباتنا. هناك فارق كبير بين فنّ الكتابة التاريخية وفنّ الكاريكاتير، ليس التاريخ بالأماني، بل بالوثيقة.
وسأروي رواية يعرفها المغاربة وحدهم، وليس كل المغاربة، بل المناضلين والمؤرخين للتاريخ الاجتماعي لمغرب الحماية. سأتحدّث عن شطر فقط من تاريخ الحزب الشيوعي المغربي، الحزب الذي سيصبح في وقت لاحق هو حزب التقدم والاشتراكية. كنت أستمع مرة إلى مولاي إسماعيل العلوي، الكاتب العام السابق الحزب المذكور، وهو يروي لنا بمعية بعض الأصدقاء في بيت خاله عبد الكريم الخطيب، عن بعض نشاطات المقاومة التي قادها الحزب المذكور، حتى قال بأن الحزب الشيوعي المغربي هو أوّل من خاض العمليات المنظمة ضدّ الاستعمار- قلت في نفسي مازحا: يا ويل، لو سمعك خالك تقول هذا الكلام وفي بيته- وسرد قصصا كثيرة، وهو من الأطر الجغرافية العتيدة.
الكاتب ومولاي اسماعيل العلوي الأمين العام السابق لحزب التقدم والاشتراكية
شارك عدد من المغاربة في فرقة تابعة للجنرال كيوم في مواجهة النازية. كان ذلك اتفاقا مبرما مقابل نيل المغرب للاستقلال، وأيضا انخراط المغرب في المعركة ضدّ المحور.
وكما تحدثنا سابقا، فلقد سلك المغرب مستويات متعددة للمقاومة تكاملت فيها أنشطة الفدائيين بأنشطة جيش التحرير بالمقاومة السياسية، على الرغم من وجود بعض الهنات والصدامات بين أطياف الحركة الوطنية؛ إلاّ أنّ الاستعمار ما كان له أن يهنأ بالمغرب منذ دخل إلى البلاد، ولم يكن دخوله سهلا، بل كلّفه الكثير من الخسائر، كما هي فيسجلّ المقاومة.
في البحث عن هذه الحكاية، جاء كتاب عبد الله ساعف، كجهد قيّم للتعريف بقضية بطل منسيّ، عبر مكابدة استخراج الوثيقة وتأويلها، وأعني الجنرال المغربي في حرب فيتنام، فما هي حكايته؟ نحاول أن نروي الحكاية كما هي، من دون أسطرة تجنح إلى مُثل حريات البحر، ففي تاريخنا المقاوم هناك هزائم وانتصارات، عقل وجنون، آمال وخيبات، هكذا وجب كتابة التاريخ من دون عزف ديماغوجي، وبروباغاندا ذات طابع فاشستي.
كتاب ساعف “حكاية أنه ما” مترجما باللغة الفيتنامية
فمن ذلك المغرب العميق، هناك من انتقل إلى معارك فيتنام بمحض الإرادة وهناك من اقتيدوا وما دروا مصيرهم، لسان حال بعضهم: (كاجينا على الخبز والكاميلا= التحقنا بالحرب من أجل الخبز والطنجرة)، مغرب عميق، مغرب الفقراء والمزارعين، مغرب تحت سيطرة الاستعمار.
تبرز فرقة “الكوم” المغاربة الشجعان، يحاربون بشراسة، وقد باتوا عقدة روايات غربية، تماما كما المورو كانوا موضوع أحجيات وأساطير الإسبان ردحا من الزمن، تخيف بهم الأم أطفالها. يروي عبد الله ساعف في كتابه “حكاية أنه ما” حكايات كثيرة، ومنها ما جاء في كتاب “ألف سنة من السعادة” لماريا أنطونييطا ماتشوتشي، وهي تتحدث: ” ظهرت الفرقة العسكرية المغربية في منطقة لاطيوم بقيادة الجنرال كيوم وهي التي كانت بثت سم داء الزهري في منطقتي ليبوي وبازيليكاطي” وتقول أيضا: ” وقد حكى لي ملابارط أنّ البابا بعث خطابا إلى قيادة القوات المتحالفة يقول فيها: أوقفوا المغاربة بأبواب المدينة الأبدية.
ففي الفاتكان كانت هناك ثلاثة آلاف امرأة لاجئة، وبموجب هذه الموجة النسائية التي كانت تتدفق في اتجاه البابا، قدم له الضباط المغاربة التبجيل معتقدين أنه يملك حريما يضم ثلاثة آلاف امرأة وهي علامة لا ريب فيها على غناه وبأسه”، وزادت قائلة:” وقد كان “للمُمَغْرَبات” أي النساء اللواتي اغتصبن من قبل المغاربة، دور مهم جدّا في هذه الفترة من حياتي”، وتقول أيضا في حكاية أشبه بالخيال: “بيد أن المغاربة كانوا قد “مغربوا” أيضا ألأطفال النابوليين(مدينة نابولي)البالغين من العمر ستا إلى سبع سنوات، والذين كانت أمهاتهم تبيعهم لجنود كيوم”.
تروي نساء إيطاليات تلك الوضعية من حالة الاغتصاب حيث تركت المناطق عرضة للمجندين في غياب الجيش الفرنسي نفسه، كما يروي المؤرخ الفرنسي جون كريستوف نوتان ما حصل في صقلية أولا ثم اجتاج كل المناطق بعد تحقيق الانتصار. الإيطاليات أطلقت عبارة(marrocchinate)= مغربي مغتصب.
هناك ما تؤكده الجمعية الوطنية الإيطالية لضحايا الحرب الأهلية، على وجود تواطؤ فرنسي، فثمة وثيقة اختفت تؤكد على ما وعد به الجنرال خوان جنوده في حال حققوا النصر، حيث وعدهم بخمسين ساعة من الحرية، في وثيقة مررها إلى جنوده بالفرنسية والعربية تقول : ” وراء هذه الجبال التي يسكن فيها العدو، هناك أرض مليئة بالنساء والنبيذ والمنازل، إذا نجحتم أن تمروا من هذا الخط دون أن تتركوا عدوا واحدا حيا، جنرالكم يعدكم ويقسم لكم أن: هذه المنازل، النبيذ، النساء وكل ما ستجدونه سيكون لكم لمدة خمسين ساعة. يمكن لكم الحصول على كل شيء، فعل كل شيء، أخذ كل شيء، تدمير كل شيء”.
اعتبر غيوم أن تلك دعاية نازية سعت قواة هتلر من خلالها لتخويف الإيطاليين. قصة هذه الدعاية ستظهر مع رواية للكاتب الإطالي ألبرتو مورافيا موسمة بـ: “امرأتان اثنتان”، قصة أرملة لاجئة إلى إحدى القرى الجنوبية بعد أن تم قصف روما من قبل الحلفاء، هناك حيث يقودها القدر لأن تتعرض للاغتصاب من قبل الجنود المغاربة بقيادة جوان. الرواية نالت شهرة كبيرة حتى أنها تحولت إلى فيلم سينمائي ببطولة صوفيا لورين، التي نالت أوسكار لأحسن ممثلة، لدورها كضحية اغتصاب من قبل الجنود المغاربة، ومثل ذلك حصل لما وصلا إلى بعض القرى الألمانية.
قلت: إنّ المجندين المغاربة في ذلك السياق، حارب الكثير منهم وهم غير مقتنعين ببني الأصفر، كانوا يقاتلون فقط لتحقيق حريته وكسبهم، وهم في ثقافتهم يعتبرون كل شيء في بلاد بني الأصفر غنيمة، لكنهم أيضا دفعوا ثمن التشويه من قبل النازيين والفاشيين، لما أبلوه من بلاء حسن، في تحرير مناطق كثيرة عجز عنها الحلفاء.
Sophia loren and eleonora (two women)1960
بالنسبة إلى البعض ومنهم ساعف، يدخل كل هذا في سياق التشويه، لأنّ هناك شهادات من داخل المعسكر تعزز قناعة المشاركين في تلك الحرب لأهداف تخصّ حريتهم.
ومن داخل هذه الفرقة المغربية التي شاركت في هذه المعارك القصوى، سيتخرّج أحد كبار المغاربة الذين قاتلوا في فييتنام، وكان له شرف المشاركة في انتصارات ديان بيان فو، أعني به محمد بن عمر لحرش، الذي وشحه الجنرال جياب وسام جنرال، وهو أول وسام فيتنامي يسلم لأجنبي. وقصة هذا لمناضل من داخل الحزب الشيوعي، بعد أن شارك في الحرب ضدّ النازية، وكان شابا سيبرز في معركة مونطي كريسطو بإيطاليا، المكان الذي حررت الفرقة المغربية بعد أن فشلت القوات الأمريكية في التقدم نحو.
أما بن عمر فقد أوضح طبيعة الجيوش في المعركة، حتى أنه أشار إلى الشجاعة التي تغيب أحيا حيث لا توجد غنائم بالنسبة للمرتزقة، مؤكد أنه خلال الحرب العالمية الثانية رأى كيف كان الكوم يفرّ أمام القوات الألمانية في مونطي كريسطو، وهو ما اضطرهم لاستقدام وحداة الرماة المغربية تلك المواقع التي تركها الكوم، بل يذكر كيف أنه بعد ثلاث محاولات فاشلة في معركة سيينا، نادى الحلفاء على وحدات الجنرال خوان، حيث تم بفضل المغاربة السيطرة على سيينا في يوم واحد.
يعترف شاهد عيان إذن بأن الكوم تميزوا أيضا بالشجاعة، لكنهم نهبوا واغتصبوا وقتلوا سكانا عزلا، لكن كما يقول عبد الله ساعف، أن ذلك لم يمنح بن عمر من الإشارة إلى أن الشعب المغربي في تلك المعارك كان يحارب أساسا من أجل الحرية، حيث كتب: ” إننا ننسى أنّ الشعب المغربي حارب بشجاعة البربرية النازية من الحدود التونسية إلى ألمانيا، ليس فقط من أجل حرية الآخرين ولكن من أجل حريته هو”.
فرقة الكوم المغاربة في الحرب العالمية الثانية
الجنرال محمد بن عمر
أعود إلى البطل المغربي في معارك الفيتنام، فلقد عاد بن عمر من الحرب ثم سرعان ما خاض تجربة مع الحزب الشيوعي المغربي، سياسيا ونقابيا، ومع أنه قبل ذلك اجتاز مبارة البريد والمواصلات إلاّ أنه لم يشتغل في القطاع طويلا.
لمّا كان الزعيم المغربي وقائد حركة التحرر في شمال أفريقيا: بن عبد الكريم الخطابي بالقاهرة، بعد نجاح هروبه من قبضة الفرنسيين وهي تنوي نقله من غينيون، بفضل تدخل الملك فاروق أنذاك، بعد طلب عدد من الوطنيين الذين استوطنوا القاهرة في مرحلة الكفاح الوطني، تصل رسالة من فام نكوك تشا 5 يونيو 1947تقول: “سعادة الأمير عبد الكريم الخطابي سعادتكم إني مكلف من الرئيس هوشي منه وحكومة فيتنام الديمقراطية الشعبية لإبلغكم أحر التهاني والتمنيات الطيبة بمناسبة عودتكم إلى أرض (مصر)٠
إن شعب فيتنام قد تابع بشغف وإعجاب صراعكم مع الامبريالية الفرنسية من سنة 1922، وكان يقدر شجاعتكم ونكرانكم للذات ولا شك الآن بإن عودتكم ستدق أجراس التحرير لجميع زملائنا مسلمي شمال إفريقيا، صاحب السعادة، إن حكومتنا وكذا شعبنا لشديد العزم على مواصلة الصراع المسلح الحالي حتى إحراز النصر الجديد من أجل إستقلال فيتنام، وعلى الرغم من تفوق العدو في السلاح والذي لا ينازع في عدده وعتاده فإن معضم البلاد تحت حكمنا ونفوذنا ولا يسيطر الفرنسيون إلا على المدن الرئسية٠
نحن نؤمن بانتصارنا النهائي لأن شعبنا يشكل جبهة متعاضدة متحدة وراء حكومة هوشي منه ٠ وإن صراعنا هو صراعكم، وصراعكم لا يبعد قليلا أو كثيرا على صراعنا، ومن هنا فتآزر جميع الحركات التحررية الوطنية داخل إطار الإمبراطورية الفرنسية القديمة سيجعل الحد النهائي لإمبريالية الفرنسية.
صاحب السعادة حكومة هوشي منه، ترجوكم أن تستخدموا نفوذكم الروحي الكبير وتطلبوا من جنود إفريقيا الشمالية بأن يرفضو الذهاب إلى فيتنام، كما تطلب منكم أن تدعو عمال الشحن إلى مقاطعة جميع البواخر الفرنسية، مع أخلص تمنيات شعب فيتنام من أجل إستقلال إفريقيا الشمالية ونجاح شعبكم العظيم في حربه المقدسة ضد الإمبريالية الفرنسية،أرجو أن تقبلوا سعادتكم فائق التحيات والاحترامات ٠ نائب كاتب الدولة برئاسة المجلس الأعلى.
( يتبع )..