فيصل مرجاني
تبدأ القصة مع مؤتمر أنفا في يناير 1943، الذي جمع بين قادة الحلفاء: فرانكلين روزفلت، ونستون تشرشل، وشارل ديغول، ليشكل منصة تاريخية أسست لمرحلة جديدة في التحالفات الدولية، وقد لعب المغرب بقيادة الملك الراحل محمد الخامس دورًا جيوسياسيًا بارزًا كقاعدة انطلاق للتحرير الأوروبي. لقد افتُرض في هذا المؤتمر أن تصبح شمال إفريقيا، وبالأخص المغرب، مركزًا لعمليات عسكرية استخباراتية متقدمة، ورابطًا بين القوتين الغربية والشرقية في مواجهة النازية.
وفي هذا الإطار، مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، تحوّل المغرب تدريجيًا إلى نقطة استراتيجية حيوية على خريطة الردع النووي الأمريكية، خصوصا مع تزايد التوترات العالمية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. حيث إن، الولايات المتحدة أنشأت قواعد جوية وعسكرية في المغرب، سمحت لها بنشر وإدارة أسلحة نووية تكتيكية واستراتيجية بعيدة المدى.
وتبعا لذلك، في 10 مارس 1956، وبعد وقت قصير من استقلال المغرب، اختفت من على شاشات الرادار طائرة أمريكية من طراز B‑47 Stratojet، كانت تقوم برحلة سرّية انطلقت من قاعدة في فلوريدا، متوجهة نحو قاعدة أمريكية في المغرب. ووفقا للوثائق العسكرية الأمريكية، كانت الطائرة تحمل شحنة بالغة الحساسية: رؤوس نووية من طراز Mark 15، وهي قنابل حرارية تندرج ضمن الجيل الأول من الأسلحة النووية الأميركية المحمولة جوًا.
هذه الطائرة كانت تحلّق على ارتفاع عالٍ فوق البحر الأبيض المتوسط، وكان يُفترض بها التزود بالوقود جوًا فوق المحيط، لكن فجأة، انقطع الاتصال بها واختفت تمامًا من الرادارات. ولما صدر البيان الأمريكي الرسمي حينها كان مقتضبًا، حيث تحدّث عن “اختفاء طائرة تدريبية”، دون أي إشارة إلى طبيعة الشحنة، أو الجهات التي كانت معنية بها. كما أن التعتيم كان كاملاً، إعلاميًا وسياسيًا وعسكريًا.
غير أن هذه الروايات الاستخباراتية، ولا سيّما بعض الوثائق المسرّبة من أجهزة المخابرات الروسية لاحقًا، أبرزت قصة أخرى مختلفة جذريًا: حيث قالت بأن الطائرة لم تتحطم في عرض المتوسط، بل تمّ إنزالها بشكل سرّي في منطقة مغربية بتنسيق استخباراتي دقيق بين المغرب والولايات المتحدة، لتُسلَّم شحنتها إلى جهة مغربية عسكرية مختارة بعناية.
وفي السياق ذاته، ظلّت هذه الرواية لعقود مجرّد فرضية على هامش التاريخ، بدأت تأخذ زخمًا خاصًا بعد ظهور تسريبات استخباراتية روسية عام 2016، تشير إلى أن المغرب “يتوفر منذ الخمسينيات على رؤوس نووية”، دون تحديد ما إذا كانت في إطار الردع، أو الحفظ المؤقت، أو الاستخدام السيادي المستقبلي.
والجدير بالذكر أن هذه الحادثة وقعت في فترة كانت فيها القواعد الأمريكية منتشرة في المغرب، ضمن اتفاقيات ما قبل الانسحاب الأمريكي. لكن اللافت في الأمر، ليس فقط فقدان الطائرة، بل فقدان الشحنة بالكامل دون أي أثر أو تفسير، وهو ما يُعدّ سابقة في تاريخ النقل النووي الأمريكي، ويطرح سؤالاً استخباراتيًا كبيرًا: كيف يمكن لطائرة محمّلة برؤوس نووية أن تختفي هكذا دون أثر؟ وأين ذهبت هذه الشحنة فعلًا؟
من هنا، تبرز فرضية أن المغرب لم يكن مجرد “موقع استقبال عابر”، بل طرفًا موثوقًا في شبكة الردع النووي غير المعلنة للولايات المتحدة الأمريكية. فقد يكون هذا التسليم جزءًا من سياسة الإيداع النووي الاستراتيجي، وهي استراتيجية أمريكية سريّة تم اعتمادها مع مجموعة من الحلفاء الموثوقين، لتوزيع أجزاء من الترسانة النووية ضمن قواعد خارجية يتم التحكم فيها سياسيًا واستخباراتيًا دون إعلان عن ذلك.
ولعل من أبرز ما يعزّز هذه الفرضية هو ما أظهره المغرب مرارًا من قدرة خارقة على إخفاء التحركات الحساسة عن الرصد الراداري والتجسس العسكري. أحد أبرز الأمثلة هو تمكنه من نقل الرئيس اللبناني السابق أمين الجميّل في طائرة عسكرية مغربية إلى ليبيا للقاء العقيد معمّر القذافي، دون أن يتم رصد الطائرة لا من الأقمار الاصطناعية ولا من أنظمة الرادار الجوية. وهي واقعة شهيرة داخل الأوساط الدبلوماسية، تُستشهد بها في التحليل الاستخباراتي كدليل على احترافية نادرة في فن الإخفاء الجوي.
وعليه، إذا ما انطلقنا من فرضية أن الرؤوس النووية التي حملتها الطائرة B‑47 قد وُضعت بالفعل تحت إشراف عسكري مغربي، فإن السؤال الجوهري لا يكون: هل المغرب يمتلك سلاحًا نوويًا؟ بل: لماذا لم يعلن المغرب يومًا عن هذا الامتلاك؟، وهل هناك فائدة في امتلاك السلاح إن لم يُعلَن عنه؟ الجواب، من منظور استراتيجي بحت: نعم، بل إن أعظم الأسلحة هي تلك التي يُخشى وجودها دون تأكيد.
ومما تنبغي الإشارة إليه، بأن عالم التسلح النووي، يتضمن مستويان متوازيان: الردع المعلن (كما تفعل الدول الخمس النووية الرسمية)، والردع غير المعلن أو “الردع الرمزي” (كما يُمارسه حلفاء يمتلكون النفوذ والسكوت معًا). وبخصوص حالة المغرب، فإن السيناريوهات التالية تفتح بابًا لفهم هذا الصمت النووي الطويل:
1- سيناريو الإيداع طويل الأمد (Strategic Custody)
قد تكون الرؤوس قد وُضعت فعلاً في منشأة عسكرية مغربية، محفوظة ضمن ترتيبات أمنية بالغة الدقة، سواء بالتنسيق مع الجيش الأمريكي آنذاك أو بانفصال تام بعد خروج القوات الأمريكية من المغرب في الستينيات. في هذا السيناريو، المغرب لا يستخدم هذه الرؤوس، لكنه يحتفظ بها كـ”سلاح صامت” ضمن أرشيف ردعه السيادي.
2- سيناريو التفكيك والتفكيك الجزئي (Deactivation)
في حال قررت الإدارة المغربية في مرحلة ما أن الاحتفاظ بأسلحة نووية فعلية يتعارض مع سياستها الدولية ومواقفها من معاهدات عدم الانتشار، فقد تكون الرؤوس قد تم تفكيكها، أو فصل مكوناتها الانشطارية، مع الاحتفاظ ببعض أجزائها أو معرفتها التقنية كـ”احتياطي رمزي”.
3- سيناريو الردع الظلي (Shadow Deterrence)
السيناريو الأكثر ترجيحًا من وجهة نظر تحليل استخباراتي، هو أن المغرب لم يُرد أبدًا امتلاك قنبلة نووية قابلة للاستخدام المباشر، بل أن يحتفظ بـ”صمت الردع”، أي أن يبقي على الغموض البنّاء حول إمكانياته الحقيقية. ففي منطقة يعجّ فيها الانفجار الخطابي (الجزائر، إيران، الجماعات المؤدلجة، وغيرهم)، يشكّل الصمت المغربي أحد أبرز عناصر قوته: الدولة التي لا تهدد، لكنها لا تُستفز.
إن فلسفة المغرب في العقود الأخيرة قامت على استراتيجية ضبط النفس مع تراكم الفعالية: في ملف الصحراء، في تحالفاته العسكرية، في تطبيع علاقاته الإقليمية، وحتى في أدبياته الدبلوماسية التي تتجنب المبالغة. وضمن هذا الإطار، من غير المستبعد أن يكون المغرب قد اختار عمدًا ألا يُعلن امتلاكه لأي سلاح نووي، رغم احتمال امتلاكه إياه.
فهذه السياسة الذكية تُبقي الخصوم في حالة من الحذر الدائم، خاصة في منطقة تتصاعد فيها التهديدات غير المتناظرة: من تجنيد المرتزقة إلى دعم الانفصاليين، ومن توظيف الغاز إلى التلويح بالتحالفات المعادية. وفي خضم كل هذا، يكفي للمغرب أن يُترك خارج المعادلات النووية المعلنة، لكنه حاضر في المعادلات الأمنية الواقعية.
منذ منتصف القرن العشرين، والمغرب يتصرّف كقوة إقليمية بعقلية الندّ لا التابع. ليس في ترسانته ما يُعرض في العلن، لكن في عقيدته الاستراتيجية ما يُفهم بذكاء في الكواليس. إن الحكاية الغامضة لاختفاء طائرة أمريكية محمّلة برؤوس نووية، ثم الصمت الرسمي الطويل الذي تلاها، لم يكن عبثًا في التاريخ، بل ربما كان تأسيسًا مبكرًا لعقيدة مغربية قوامها: من يمتلك الحق في الردع، لا يحتاج أن يصرخ به.
لقد فهم المغرب، عبر عقوده من المواجهات الإقليمية والتوترات الحدودية، أن القوة الحقيقية ليست في عدد القنابل، بل في القدرة على التحكّم في الزمن السياسي والقرار السيادي والمعلومة الاستخباراتية. وبينما انشغلت جيرانه بتكديس السلاح على حساب الاستقرار، أو بتمويل الفوضى تحت شعارات إيديولوجية، شقّ المغرب طريقًا ثالثًا: طريق الصمت الصلب.
إن دولةً تستطيع أن تُخرج طائرة محمّلة برؤوس نووية من تغطية الرادارات، وأن تُسكت كل أجهزة الاستخبارات الغربية والشرقية عن مصيرها، ثم تُخفي بعد عقود طائرة تحمل رئيس دولة دون أن يلاحظ أحد، هي دولة لا يُستهان بها. ليست المسألة في سلاح، بل في قدرة عقل الدولة على التخطيط الاستراتيجي متعدد الطبقات.
فالمغرب اليوم ليس بحاجة إلى تفجير نووي ليُثبت مكانته، بل يكفيه أن تبقى الشكوك قائمة حول ما إذا كان يملك أو لا يملك وسيلة ردع نهائية. وهذا في منطق الردع، قوة توازي القنبلة ذاتها.
ولعل هذا ما يفسر إلى حد بعيد ذلك التوتر الكامن لدى خصومه الإقليميين: فهم يدركون أن المملكة، تحت قيادتها المستقرة، لا تقول كل ما تعرف، ولا تُظهر كل ما تملك. وهذه، في ميزان القوة، قمة الذكاء السيادي.