إن الذي يواجه أو يفكر بالموت يتحرك عنده مباشرة شعور قلق الموت، من خلال مزيجٍ من الرؤى والانفعالات لما سيحدث مع الموت أو بعده، من مصيرٍ مجهول إذا كان ثمة مجهول غير التحلل الكامل والعودة إلى الطبيعة كما خلقنا أول مرة إنا كنا فاعلين، أو معاناة ممزوجة بالألم، أو شعورٍ بالتلاشي والوحدة والذهاب إلى زاوية النسيان؛ فقلق الموت كما رآه الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس مرده إلى أفكارنا تجاهه أكثر من حقيقته بالذات؛ وشعور الخوف من الموت أشد من الموت ذاته، بسبب حيرتنا لما سيحدث لنا معه.
يقول الفيلسوف: ليس الموت مفزعا وإلا بدا كذلك لسقراط، لكن الفزع يكمن في مفهومنا عن الموت. أي إن هذا المفهوم هو المفزع، فليس الموت أو الألم هو الشيء المخيف وإنما خشية الألم أو الموت. فهذا هو لغز الموت الأكبر؛ فلم يرجع أحد فيخبرنا بما عانى وأين رسا مصيره.
وكل واحد منا يذوق كأس الموت منفردا، منهارا باتجاه السلبية المطلقة، في رحلةٍ أبديةٍ لا عودة منها على الإطلاق إلى يوم القيامة، هذا لمن يعتقد ذلك؟ يخسر فيها حتى شكله الخارجي وقميص البدن، في عملية مروعة تحت التراب في القبر، يتحطم فيها بدون توقف، حتى يتسلمه التراب بالكامل عظاما ورفاتا؛ قد عاد إلى دورة الطبيعة متحللا إلى الذرات الأصلية الأولية، فأما الغازات فقد انطلقت إلى السماء تعانق السحب، وأما المعادن فاختلطت بتراب الأرض راجعةً من حيث خرجت. وهو ماعنته الآية حين قالت: قد علمنا ماتنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ.
هذا القدر طوى البشر منذ أن دب الإنسان على الأرض، فكانت مصير على الأقل 106 مليارا من البشر حتى. ومن يموت كل ليلة فيدلف إلى المقابر 58526 إنسان مقابل صياح رضع مع كل صباح بمقدار 129343 طفل أي بزيادة 70817 إنسان أي بمعدل 2950 إنسان في الساعة أو 49 الدقيقة أو تقريبا زيادة طفل كل ثانية أو زيادة الجنس البشري هذا العام بمقدار والمتوقع زيادة عدد البشر مع نهاية العام إلى قريب من 70 مليونا مع العلم أن التعداد الحالي للسكان هو 8٬077٬148٬251 أي أن البشر سوف يزدادون مجددا إلى تسعة مليارات من الأنام في مدى عقد ويزيد من الأعوام؟
إن حالة الحزن هي التجمد في الماضي. والخوف هو التجمد في الحاضر نفسيا مما هو قادم أليس كذلك؟ وكلاهما حالة غير سوية في السياق الكوني، كما في التصلب الشرياني؛ فإذا كانت حالة تصلب الشرايين حالة مرضية، فهناك في عالم النفس ما يشبه ذلك من التصلب الروحي.
وإذا كانت آثار التصلب الشرياني ذات آثار مأساوية على العضوية، من رفع الضغط وارتخاء القلب وانسداد الشرايين ونزف الدماغ، كذلك في حالة التصلب النفسي أو حالة التجمد في الزمن، من خلال استيلاء شعوري الخوف والحزن على النفس، فهي حالة لا تتوافق مع طبيعة الحياة التي تعتمد مبدأ الحركة والتغير الدائمين، فكما أن آليات تشكل مختلف الصور في الحياة هي صورة متدفقة بدون توقف، عبر أشكال لا حصر لها من النبات والحيوان والإنسان، بدءا من البكتيريا وانتهاء بأعقد تشكيلات الحياة الممثلة في الدماغ، كذلك فإن قانون التشكل والنمو يقابله قانون الانحلال والموت، في دورة متكاملة تعيد نفسها بدون توقف، يقنصها الموت وتدفعها الحياة بعنفوانها الهادر، المسيطرة على ساحة الوجود.
ما زلت أتذكر صديقي الحلبي أبو طه عندما زارني، كان يمشي بعزم ويتكلم بقوة. كان عالما كاملا قائما بذاته، ولم يخطر في بالي أنه خلال ساعات سينهار بشكل كامل فيستسلم إلى الأرض، وينطفئ حديثه العذب، وتتوقف إشاراته المفعمة بالقوة ويغيب عالما بكامله.
أين ذهب؟ أين هو الآن؟ أين اختفى عالمه بالكامل؟ فالموت هي تلك الظاهرة التي تسبح بين اليقين والصدمة ففيها اليقين من النهاية الحدية التي تسلم الإنسان إلى عالم اللانهاية والأبدية واللاعودة، وفيها الصدمة من عدم إمكانية استيعاب صدمة انهيار عالم بالكامل بشكل مطلق ونهائي وفجائي إلى الصفر.
كنت أفكر كيف حصل أن أصبح تحت التراب، ولم يعد منامه فراشا وثيرا، بل كفنا وترابا. ليس طعامه هنيئا، وليست حياته حياة حافلة باللذات والراحة، بل انحدر فجأة إلى الوحدة والوحشة والغربة والبعد السحيق.
لن ينام بعد هذه الليلة في فراشه، لن يرى عائلته قط، لن يرجع إلى روتين حياته السابق. انطفأ الشعور، وغاب الإحساس، وودع كل شيء على الإطلاق، في رحلة لا رجعة منها.
يا إلهي ما هذا الموت الذي كتبته علينا، أي جبروت فيه وقهر (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون).
عندها أدركت أن صاحبي قد شبع موتا وجثته تمشي في طريق التحلل والتفسخ، هنا سالت دموعي مجددا؛ فموعدي معه هو في الآخرة فقط.
بكيت في الواقع على نفسي؛ فعمره من عمري، وهو من جيلي، وعاصر نفس الأحداث التي عشتها. أما هو فقد انتهى حظه منها، وطُوي ملفه من سجل الأحياء وأما أنا فسألحقه ولو بعد حين.
إن فلسفة إدراك الموت ووعيه الحاد تولد في الشعور الإنساني من معاصرة ومعاينة فقد الصديق والحبيب.
بدأت أنظر إلى المارة والناس بغير العين السابقة وأخاطب نفسي: كلكم أشباح تنتظرون الموت. اسعوا ما تسعون وافرحوا ما شئتم، ففي النهاية سيكون ظل الموت الباكي هو الذي سيغلفكم ولو بعد حين.
إن كل لحظة لنا هي توديع للحياة باتجاه نقطة الموت التي نقترب منها. إننا نكبر مع كل لحظة، ونقترب من الموت لحظة مقابلة؛ فنصغر بنسبتها.
إن الحقيقة الأولى في الوجود كما قال حكيم من الشرق هي قانون التغير وعدم الدوام والزوال. إن كل شيء في الوجود من حيوان الخلد إلى الجبل، ومن الفكرة إلى الإمبراطورية، يمر خلال دورة الوجود ذاتها، أعني النمو والانحلال ثم الموت. والحياة وحدها هي الشيء المستمر، وهي دائما تسعى إلى الإفصاح عن نفسها في صور جديدة.
الحياة جسر. ومن ثم فلا تبنى البيوت فوق الجسور، والحياة عملية من عمليات التدفق والجريان، فمن يتعلق بأية صورة من الصور مهما يكن جمال هذه الصورة فسوف يقاسي، نتيجة لمقاومته لهذا التدفق والجريان.
الحياة واحدة غير منقسمة، وإن كانت أشكالها المتغيرة على الدوام لا حصر لها، وهي قابلة للفناء. ليس هناك في الحقيقة موت، وإن كان الموت مصير كل صورة من الصور الحياة.
إن الرحمة وليدة إدراك وحدة الحياة وفهمها. وقد وصفت الرحمة بأنها قانون القوانين وأنها التناسق الأبدي، وأن الذي يشذ عن هذا التناسق سوف يصيبه الألم والمكابدة، كما أنه يؤخر من تنويره وتثقيفه.
الموت ينهي حالة الصور المتنوعة المتعددة، والحياة تعوض عنها بدون توقف بصور لانهائية، أكثر جمالا وأشد بهاء. بل إن الحياة تجدد نفسها من خلال الموت، فالموت ينهي الصور الفاسدة، فيلتهمها إلى العدم، وحالة المرض هي انهيار باتجاه الموت، وتصبح حالة الشيخوخة والتصلب النفسي المرضي اضمحلالا يقترب من حافة القبر، وهكذا، ثم تُخرج الحياة صورا جديدة، أكثر تطورا، وأشد ملاءمة، وأحذق صنعا، وأتم بنيانا، في ظل تدفقٍ عارم، ونشوة مفرطة، وإحساس بالجمال، وإبداع في الخلق.
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك.
هذا الشد أو الفرملة إلى الخلف في الحزن، أو الوقوف أمام نبض الحياة المستمر لا يشكل وضعا صحيا؛ فهذا الإطار الفلسفي للخوف والحزن يعالجه علم النفس وينشده القرآن لتحرير النفس من قبضته، كي تستمر النفس منتعشة مرتبطة بالحياة، لأن الحياة بكل صورها اللانهائية تأخذ معينها من الله الحي الذي لا يموت. وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده.
ولمزيد من فهم مشاعر الخوف والحزن وعلاقتها بالعقل البارد التحليلي، لابد من إعمال النظر في مشابهة تشريحية فسيولوجية وفلسفية بآن واحد.
لنحاول تقريب التشبيه من الناحية التشريحية والتشريح المرضي وفهم الآلية الإمراضية للمشاعر السلبية عموما؛ في محاولة لاجتثاث شجرة المشاعر السلبية، فالأفكار لها حركة خاصة ضمن الدارات العصبية في دماغنا، وما يسمى الجنون عند الإنسان يمكن فهمه من الناحية الوظيفية، ولكن الفحص النسيجي لا يظهر أي تميز في البناء التشريحي في الدماغ، لا للجنون ولا للعبقرية؛ فآينشتاين ما زال دماغه الذي وضع صاحبه الشهير في خدمة العلم، تحت تصرف العلماء لتشريحه ومعرفة تركيبه الخفي، إن كان ثمة تميز خاص؟
أقول لم يُظهر دماغ آينشتاين حتى هذه اللحظة أي تميز وتفرد خاص، فالمجنون والعبقري من الناحية التشريحية يتمتعان ببناء تشريحي موحد مشترك في تركيب الدماغ النسجي. وكذلك الحال في ما يتعلق بالحزن والقلق والغضب والسرور، فالإمكانيات الطبية الحالية حتى هذه اللحظة تعجز عن فهم ما يحدث على وجه الدقة داخل دماغنا عندما نفكر أو نغضب أو نحزن، عندما نخاف أو نشك. ربما قد نفهم في المستقبل الاضطراب النفسي، كما حدث عند فتاة أعرفها بدأت تتصور نفسها أنها صاحبة نظريات مدهشة، وأنها نبية مرسلة، وأن عندها نظرية فلسفية خاصة بها، في حالة انفكاك كاملة عن الواقع.
فالجنون لا يفهم إلا بطول تأمل، وحديث المجنون قد يبقى يسترسل بشكل منطقي لفترة طويلة، وفي لحظة من اللحظات يظهر الانفكاك الكامل عن الواقع، كما لو قال عرضا إنه تغدى البارحة في المريخ، أو إنه يملك نصف القارة الإفريقية وهكذا. الأرض والدماغ كلاهما كرة، على سطحهما قشرة رقيقة، فأما الدماغ فقشرته مادة رمادية من حشد عرمرم من الخلايا العصبية، في ترابطات تبلغ أكثر من تعقيد الكون، في رقم يقفز فوق الجوجول.
المليون يحمل ستة أصفار والمليار تسعة والجوجول مائة وأما قشرة الأرض فهي طبقة رقيقة من التراب
(48 كلم) مغطاة بالماء في ثلاثة أرباعها، وكما كانت القشرة الأرضية رقيقة نسبة إلى عمق الأرض، فتحتها تدمدم الطبقة السائلة التي تقذف بالحمم في حالة يقظة البراكين.
كذلك تفعل العواطف حين نشاطها واحتدام غليانها؛ فكما تشق اللافا من حمم البراكين قشرة الأرض لتبصق إلى الخارج الغازات الخانقة التي تسد الأفق، وترتفع إلى السماء فتحجب السماء الصافية، وتندفع إلى الأرض المجاورة أنهارا متدفقة من شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران، ترمي بشرر كالقصر، من الصخور النارية القادمة من فيح جهنم كأنها جمالة صفر.
كذلك تفعل العواطف إذا مشت في غير أقنيتها، وغادرت مساربها التي تعمل من خلالها، وتؤثر عبرها، فتشق طبقة العقل العليا.
هكذا تفعل العواطف إذا شقت طريقها إلى غير الأقنية الطبيعية التي تعمل فيها، وهكذا تدمر، فهناك علاقة جدلية بين كم العواطف التي تغذي العقل، فالعقل بدون ملح العواطف يتحول الى جماد لا يؤثر، ولم يؤثر المصلحون والأنبياء بالشكل الفلسفي البارد العقلاني في حياة الناس، بل بكل كلمة طيبة تغذي الروح فترتفع إلى معنى السماء.