منير لكماني
وسط ضجيج الشهادات والبرامج والخطط المعلنة، يمر خلل اخلاقي خطير دون أن يلاحظه كثيرون. إذ تتخرج أجيال كاملة من المدارس وهي تمتلك أدوات معرفية واسعة، لكنها تفتقر الى الضابط الداخلي الذي يحول هذه المعرفة الى ممارسة مسؤولة.
المشكلة ليست في نقص الدروس، بل في غياب تلك الشرارة التي تجعل الانسان يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه أحد. هنا ينهار الجسر بين العلم والضمير، ويظهر تعليم قادر على صناعة مهارات، لكنه عاجز عن صناعة انسان.
جذر المشكلة
عندما يصبح التعليم سباقا على الأرقام، يتحول الضمير إلى عبء لا إلى قيمة. البرامج تركز على التحصيل، والادارة تقيس النجاح بالمعدلات، والأسر تتعامل مع المدرسة كأنها مصنع نقاط. في هذه البيئة ينشأ المتعلم وهو يفهم أن المهم هو النتيجة، لا الطريق.
كل ما لا يدخل في خانة الإمتحان يتم تهميشه، بما في ذلك الاخلاق، النزاهة، والشجاعة في قول الحقيقة. وهكذا تبدأ أولى مراحل انتاج فرد يعرف كيف ينجو، لا كيف يكون نزيها.
مؤسسة منزوعة الروح
القسم الدراسي اليوم يشبه غرفة إنتاج لا ورشة تكوين بشري. مدرسون مرهقون، برامج متلاحقة، زمن دراسي مكتظ، وتلميذ محاصر بما يجب حفظه لا بما يجب ان يفهمه.
وسط هذا الضغط، تتبخر اهم وظيفة للتعليم: بناء وعي أخلاقي يومي. فلا وقت للحديث عن قيمة الصدق، ولا مساحة للتفكير في أثر الظلم، ولا حوار حول الحدود بين الحرية والمسؤولية. التعليم يصبح عملية تقنية، اما الانسان فيبقى مسألة مؤجلة.
غياب القدوة
المدرس، الذي يفترض أن يكون صوت الضمير داخل المدرسة، يختفي دوره الأخلاقي تدريجيا تحت ثقل مهامه وضغوط الواقع. حين يشعر المعلم أنه مراقب بالأرقام أكثر مما هو محمي بالقيم، يتراجع حضوره الملهم.
ومع هذا الغياب، يفقد التلميذ اهم ما يحتاجه لتكوين ضميره: النموذج. فالقيم لا تنتقل عبر الخطب، بل عبر الاشخاص. وحين لا يجد المتعلم من يجسد الاخلاق، يتعلم ان الاخلاق كلام جميل لكنه غير مكلف ان خالفه.
إزدواجية خطيرة
يتعلم المتعلم اليوم كيف يكون ملتزما داخل القسم ومتحررا من الضوابط خارجه. هذا الانفصام هو أخطر منتوج للتعليم الحالي: اخلاق مؤقتة. اذا كان النظام المكافئ للطالب هو النجاح الأكاديمي فقط، فإنه يمارس السلوك القيمي بوصفه واجبا شكليا، لا ضرورة داخلية.
والنتيجة جيل يجيد إدارة صورته اكثر مما يجيد إدارة ضميره.
معرفة بلا رقيب
المتعلمون الذين يملكون معرفة بلا ضابط يميلون الى إستخدام اي مهارة لصالحهم حتى وإن أضر ذلك بالاخرين. وهذه أول خطوة نحو تبرير الأخطاء باسم الذكاء، واستعمال التفوق اداة للهيمنة بدل خدمة المجتمع.
المعرفة حين تنفصل عن الأخلاق تتحول إلى قدرة فارغة من المعنى، وإلى قوة قد تنقلب ضد صاحبها وضد كل من حوله.
نجاح ملوث
منطق النجاح الحالي يشجع الفرد على الصعود ولو على حساب الفريق. حين يشعر المتعلم أن مكانته تقاس بتفوقه على زملائه، يستبدل قيم التعاون بقيم التنافس الشرس.
تتغير نظرة الطفل للعلم: من وسيلة لفهم العالم إلى وسيلة لانتزاع الامتياز. وهكذا يدفع التعليم نحو سطحية أخلاقية تجعل المتعلم بارعا في الوصول، وضعيفا في احترام قواعد الطريق.
فراغ يتسع
من علامات الأزمة أن التلميذ اليوم يستطيع حل معادلة معقدة، لكنه يعجز عن حل خلاف بسيط مع صديقه. يعرف الكثير عن الدروس، لكنه قليل المعرفة بمشاعره ومشاعر غيره. هذا الفراغ الوجداني ليس مجرد عيب تربوي، بل قنبلة اجتماعية مؤجلة. اذ يتخرج المتعلم وهو يملك ادوات لكن بلا بصيرة، ومعلومات بلا بوصلة.
التعليم الذي خذل الانسان
إذا ظل التعليم ينتج مهارات بلا ضمائر، فماذا ننتظر من المجتمع غير التصدع الصامت؟ كيف يمكن اصلاح منظومة تبني العقل وتهمل القلب؟ وهل يمكن لمدرسة ترى في النجاح مجرد معدل أن تصنع انسانا يحترم نفسه ويحترم الآخر؟
هذه الأسئلة لم تعد ترفا فكريا، بل شرطا لبقاء المدرسة مؤسسة تصنع البشر، لا مجرد معامل للمعرفة.




