آراءسياسة

التفكير الاستراتيجي كملهاة

يبدو أنّنا اقتحمنا ركح الكوميديا الجيوستراتيجية، في البيداء العربية وحدها تنهار المفاهيم حين تأخذ مسار الأبله، في منزلق المفاهيم المائعة.

لم أعد أستشعر أهمية المقاربة الجيوستراتيجية منذ باتت جزءا من توتاليتاريا التفاهة التي أصابت أجهزة المفاهيم.

ومع أنّني انفتحت مبكّرا على تلك المقاربة وأثخنت فيها حتى تقمّصها أغرار ممن ينقصهم الكثير من ضوابط المعقول والمنقول، بعد أن كانت غائبة أو شبه غائبة في التداول والاعتبار، إلاّ أنّني بدأت أشعر بكثير من التواضع أمام هذا الضرب من الكهانة الجديدة.

وأتساءل: من له الحق في إنجاز مقاربة جيوستراتيجية، في عالم محكوم بنظام وقواعد للّعب يصعب معها التّنبّؤ من سقط متاع بيانات، غالبا ما تأتي بعد أن تفقد قيمتها، أو أن تأتي لتكون طعما للأغبياء؟ الأوّلون يكتبون تاريخا مكررا، كمستهلكي أعقاب السجائر والقناني الفارغة، حيث المفاهيم جديدة عليهم حدّ الشعور بالابتهاج، والآخرون تنقصهم البيانات الكاملة، فيقعون في المُغالطة التاريخية.

كلاهما عاجز عن فهم التاريخ واستشراف المستقبل، ناهيك عن العبر-مناهجية التي تنقصهم، فإذا هم يحيطون المستقبل بخرائف متبلِّدة.

يعتقد من صادف هذه المفاهيم في سوق المستعملات المفاهيمية، أنها تصلح كمغالطة السلطة، في يد أفلست في المقاربة السياسية القائمة على استيعاب الآني، وامتلاك أدوات خارقة للحدود المعرفية، بل القارئة بين سطور السياسة. أمام هذا العبث الطًَّفالي، نكون قد نجحنا في تعزيز نظام التّفاهة حقّا، وأصبنا الوعي في مقتل.

بدأت أميل إلى فكرة الصديق الفيلسوف د. محمد الدكالي، حين قال لي مرة: وهل يوجد فكر استراتيجي؟ وهل يملك أحد ذلك؟ فمن يملك ذلك هي المخابرات العالمية التي تملك المعلومات، وهل لنا معلومات؟

فيما يعنيني سأطوّر هذا الموقف بمزيد من الأفكار:
إنّ صفر معلومة قد لا يساوي نصف معلومة في الحساب الرياضي، لكنه قد يكون صفر معلومة أنجى في التفكير من نصف معلومة، فهذه الأخيرة قد تُضلل أكثر من عدمها.

لإنجاز مقاربة جيوستراتيجية تامّة، يحتاج الإنسان، فضلا عن امتلاك أدوات تحليل تتجاوز بؤس الاختصاص المجتزئ للمعرفة، أي أدوات قادرة على تفكيك البنية المركبة للحدث، فضلا عن كل ذلك، وهو في حكم المعدوم في ممارساتنا، لا نحظى بصبيب البيانات الكافية للتعامل مع الحقائق. حتى خبراء المعلومات، لا يكتبون إلاّ ما هو مسموح لهم به في نطاق محدود، وهناك شحّ في البيانات الضرورية، فالفكر الاستراتيجي هو بالنسبة لكائن مدني وهم وخداع للنّفس.

يورث هذا الوهم عُصاب الاستشراف، حيث تُرسم خرائط وتمحى تحت طائلة هذا الوهم. كم في جعبتك من بيانات حول جزئية واحدة؟ ثم كم من منظور تُعاين به الحدث من حيث الزمكان؟ وهل الجغرافيا تفعل فعلها الواعي، أم يمكننا الحديث عن لاشعور جُغرافي له الأثر العميق على العلاقات والسياسات الدولية؟ للذين يحكمون بسقوط العوالم وقيامها مختبئين خلف أصبعهم التي منحوها عنوانا استراتيجيا، هم بهلوانيون فوق الخشبة، وحين يأتون في الوقت بدل الضائع في لعبة المفاهيم، فهم يؤكدون على الإفلاس الكبير .

هناك من يعجز عن استشراف أبعد قليلا من أرنبة أنفه أو ما خلف جدران حارته، ولكنه يستشرف عالما لم يعرفه، ومساحات لم تطأها قدمه، بمفاهيم لم تستقر في الذهن ولم تتعتّق بعد في خوابي الواهمة. للدجل المعاصر أمثلة شتّى، ومن يكذب على عقله فهو حتما يكذب على العالم.

تقريب المستقبل ضمن احتمالات ممكنة، يكشف عن ضحالة الحسم، بل من ضحالتهم إثبات العكس للسَّالبة الجزئية، لسوء تمييزهم بين الكلية والجزئية، نظرا لجهلهم بطبيعة تركيب الواقع وتداخل العلل، ولجهلهم منطق الأشياء.

هناك فقط وهم وتفاهة استراتيجيان، الشيء الوحيد الذي يظفر به من يعتقد أن قراءة كُنّاش على سبيل المصادفة من بسطات سوق لقريعة، قد يكشف الستار عن خلطة العالم الاستراتيجية، وبه تنهار أمم ويبقى فقط أولاد حارتنا، يتابعون رياضة البلاجيا في خضم سيبراني كبير.

بهذا، وإن صحّ هذا البؤس، يُصبح كلّ من ظفر بأعقاب سجائر من منفضة الكبار، بمثابة خبير استراتيجي، من يا ترى يحاسبهم فنّيا؟ بتعبير آخر، يجب محاسبتهم من قبل لجنة الفنون الجميلة، لأنّ الأمر لم يعد فيه ضرر على الوعي الجمعي فحسب، بل فيه مفسدة للذوق العام أيضا.

أحتاج أن أتبرّم من هذا المنظور الخادع، لنتركه للزاحفين على بطونهم فوق ركع المفاهيم المسطحة والممسرحة.

فحين تكون أدوات التحليل غير كافية أو غير خارقة لتخوم المعارف، وحين تكون المعطيات شحيحة، وحين تكون إدارة المفهوم بمزاج مُلتبس، نُصبح أمام ملهاة حقيقية، في زمن لم يعد هناك رقيب على سقوط المعنى واحتلال التّفاهة لأجناس المعرفة، بما فيها تلك التي تكبرنا شأنا وقيلا….

https://anbaaexpress.ma/p7t1t

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى