رعاية الفرد هي رعاية محدودة على نفسه وعلى أسرته، أما رعاية الدولة فهي شاملة وهي المسؤولة عن الوطن بمفهوم إدارة لشأن العام. ولذلك فإن هذا الشأن العام يدار ويساس بمنطق الدولة وخاصة على مستوى العلاقات الخارجية والتحالفات التي تبنى بالأساس على المصالح العليا للبلاد، بينما الأفراد ينطقون بنزواتهم وتهيئاتهم وهم لا يلوون على شيء.
أما الدولة في هذا الصدد فهي تملك رؤية استراتيجية ذات طابع شمولي ولها من القراءات المتعددة ما يجعلها على بينة من جزئيات وتفاصيل المشهدين الإقليمي والدولي سواء عند ثباته أو في لحظة تحولاته كتحول الكثبان الرملية.
هذه الخاصية التي لا توجد إلا عند الدولة العاقلة، القائمة على الحكمة والتروي والتريث، يفتقر إليها الأفراد مهما كانت قدراتهم لا لشيء سوى أنهم لا يملكون أدوات العمل التي تتوفر عليها الدولة بحكم طبيعة تركيبها.
كما أنه ليس كل الأفراد على درجة واحدة من التفكير وعلى درجة واحدة من القناعات، كما هي الدولة، فمنهم اليساري ومنهم القومجي ومنهم الإسلاموي بل منهم من هو مع خيارات الدولة ومنهم من هو ضدها.
فالاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية كما يقال. لكن هذا الاختلاف يجب أن يكون له سقف معين وهو ألا يتجاوز حدود المساس بالمصالح العليا للبلاد التي هي من اختصاص الدولة ، فالاختلاف المبني على الجهل أو لربما عن سوء النية قد يؤدي إلى اختلالات من شأنها أن تلحق أضرارا بأمن واستقرار البلد.
التظاهر ظاهرة صحية كما هو عليه حال البلاد اليوم، ولعله وجه من أوجه الديمقراطية لكن الديمقراطية يجب أن تكون مسؤولية قبل أن تكون فقط حرية. ومناصرة القضية الفلسطينية كبقية شعوب المعمور واجب في حدود مراعاة واجبات أخرى تجاه الوطن. نحن لسنا ضد التظاهر ولكن نحن ضد أن يكون ذلك على حساب الوطن.
وهنا يكمن المنزلق الخطير ليس فقط ضد القضية الوطنية ولكن ضد تلك القضية التي خرجوا من أجلها. من جملة ذلك ارتفعت حناجر تندد وتستنكر وتدين وتمزق الأعلام وتحرقها وتدوسها ونسيت أن تتبول عليها فما أجمل هذه الصورة عندهم وقد يكون ذلك غير قابل للجدل لو لزم التظاهر هذه الحدود، أما أن تفيض المشاعر، وأية مشاعر، بالتدخل في شؤون الدولة كما أرادوا قبل أيام التدخل في الحقل الديني وفرض أنفسهم أوصياء على أئمة المساجد فهذا أمر خطير بل يهدد كيان الدولة. فمطالبة الدولة بإعادة النظر في علاقتها مع إسرائيل يتنافى كليا مع ما تريده القيادة الفلسطينية من حضور مغربي وازن في تل أبيب.
ومن حق بعض المنابر الإعلامية هي الأخرى أن تنقل المشهد السياسي بتظاهراته الحاشدة وأن تنقل المشاهد المروعة التي تدمي القلوب جراء هذه الحرب الضروس لكن في المقابل وجب عليها أن تتحلى بما هو يفوق الموضوعية في نقل الخبر أي بالروح الوطنية والابتعاد عن تسميم الأجواء بصب الزيت على النار. ونراها فتنة وليس سبقا إعلاميا.
وفي هذه الأيام أكثرت بعض المنابر الحديث عن الدول التي تتأهب لقطع علاقاتها مع إسرائيل من خلال استدعاء سفرائها احتجاجا على عدم القبول بهدنة إنسانية وعلى ما يجري في قطاع غزة. بل تساءلت بعض المنابر إلى متى سينضم المغرب إلى هذه القافلة وكأن هذا التماهي يفترض فيه أن يكون تلقائيا وهو بذلك يقصي مفهوم القرار الذي هو بالدرجة الأولى قرار سيادي، كما يلغي في نفس الوقت خصوصية كل بلد على المستويين الجغرافي والتاريخي في علاقتهما بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني .
إذن ليس بالضرورة أن يتماهى المغرب مع أي موقف كان من العرب أو غيرهم من بعض دول أمريكا اللاتينية. فلكل دولة لها حساباتها ولها انشغالاتها وكذلك المغرب. فليس ما يحكم الأردن مثلا أو فنزويلا هو الذي يجب أن يسري على بلدنا. المغرب له خصوصيات لا تجدها إلا فيه له بصمة خاصة بماركة “صنع في المغرب”.
ونحاول أن نجمل بعضها في ما يلي:
ـ المغرب ليس له سفير كي يسحبه من إسرائيل وفي ذلك حكمة اهتدى إليها المرحوم الحسن الثاني وعمل بها وارث سره جلالة الملك محمد السادس كل ما لدينا هو مكتب اتصال وهو مكتب ليست له صفة التمثيل الدبلوماسي بموجب اتفاقية فيينا لعام1961.
البند 20 من الاتفاقية يحصر التمثيل في السفارة أو القائم بالأعمال والعلامة الفارقة أن بناية مكتبي الاتصال في الرباط وفي تل أبيب لا يعتليهما العلم المغربي أو العلم الإسرائيلي. نفس البروتوكول المرعي معمول به في سيارة رئيس المكتب التي لا تحمل العلم ولو في مهمة رسمية.
وقد رفض المغرب فتح سفارة في تل أبيب تحسبا منه لمثل هذه التطورات وأبقى على التمثيل في أدنى مستوياته لكي لا ندخل في حيص وبيص، كما هو الحال عند بعض الدول، بسحب السفير أو تقليص التمثيل. من الأصل حسم المغرب هذه المسألة بالوقوف عند حدود ما تفتقت عنه العبقرية المغربية وهي فكرة فتح مكتب غير مسبوق في تاريخ الدبلوماسية العالمية ولا هي واردة في اتفاقية فيينا.
أما بشأن إغلاق مكتب الاتصال القديم أواخر عام 2000 فقد كان بقرار من الجامعة العربية التي وجدت تخريجة غريبة ليس الوقت مناسبا للإتيان على النوايا وعلى الأبعاد التي تحكمت في ذلك الإغلاق. التخريجة تمثلت في دعوة الدول العربية التي ليست لها معاهدات سلام مع إسرائيل إلى إغلاق مكاتبها في تل أبيب وهو ما يعني الإبقاء على سفارتي كل من مصر والأردن.
ـ إن تواجد المغرب في إسرائيل هو مطلب فلسطيني بالدرجة الأولى قبل أن يكون مطلبا إسرائيليا لأن السلطة الوطنية الفلسطينية تنظر إلى الحضور المغربي بأنه حضور وازن ويمكن أن يخدم القضية من دون أن يضرها.
المغرب في نظر السلطة ليست له مصالح أو حسابات ضيقة على غرار ما ينتاب تلك السلطة من شكوك تجاه بعض الأطراف التي هي معنية مباشرة بالصراع أو لها قدم فيه.
وأن من يدعو إلى إغلاق مكتب الاتصال في تل أبيب فهو يهدد بإغلاق السفارة المغربية في رام الله وهي السفارة التي ترفع الراية المغربية على بنايتها. ومن يدعو إلى ذلك أيضا فهو يجهل كل الجهل أن السفير المغربي في رام الله لا يمكن أن يلتحق بمقر عمله إلا بعد أن تسمح له السلطات الإسرائيلية بالدخول أو الخروج وأن تختم على جوازه. فلا تجادلوا عن جهل لأن المجال ليس لكم حتى تحشروا أنوفكم فيما ليس لكم علم به .
ـ هناك أيضا ما يبرر حضور المغرب بمستوى هذا التمثيل في إسرائيل هو وجود جالية يهودية من أصل مغربي تقدر بحوالي مليون هم من رعايا جلالة الملك ولا يمكن لأي كان أن يسقط عنهم الجنسية المغربية أو يمنعهم من السفر إلى المغرب لأنها من الناحية القانونية تعني البيعة والولاء. فهم سفراء المغرب بهذه العلاقات أو دونها، فاذهب أنت وربك فإنا نحن هنا قاعدون. كما لأبناء هذه الجالية روابط روحية بمرجعياتهم الدينية المتمثلة في معابدهم وبأوليائهم الصالحين “تساديكيم” باللغة العبرية.
ولابد من أن نستحضر أن لهذه الجالية اليهودية مواقف عرفان تجاه ملوك المغرب منها تحويل إسرائيل كلها إلى مأتم بوفاة المغفور له الحسن الثاني. بل أكثر من ذلك قمت شخصيا بتدشين ما يزيد عن خمسين فضاء عمومي في المدن التي يرأس بلدياتها يهود مغاربة شكرا لروحه الطاهرة.
ـ كيف يمكن أن يتجرأ البعض ويدعو في التظاهر إلى قطع العلاقات مع بلد وهو يعترف بمغربية الصحراء في خطاب رسمي وليس في بيان، والحال أن المغرب ينظر في علاقاته مع الدول بمنظار الصحراء المغربية. هذه هي مصلحتنا التي لا تعلوها مصلحة أخرى. نحن دولة لها مصداقية وتحترم التزاماتها ليس اليوم فحسب ولكن منذ القدم.
ـ من يدعو إلى قطع العلاقات فدعوته لا تخدم القضية في شيء غدا أو بعد غد ستضع الحرب أوزارها وسيعود مئات الألاف من العمال الفلسطينيين إلى سوق العمل بإسرائيل كما فعلوا من قبل. وأجرهم اليومي يبلغ حوالي 500 درهم مغربي ولعل في ذلك أجر كبير ومعفرة يفوقان ما أنزل من عقاب على الفلسطيني البسيط بسبب ذنب ليس له يد فيه.
وحينما قد يتحقق هذا السيناريو فعندئذ ماذا يكون قد جناه المغرب من دعوات طائشة لا يقف من ورائها إلا من يصطف بجانب دولة الثكنات ويحاول أن يروج حاليا بأن إسرائيل عدوة للمغرب وتريد أن تحتله لكي يلهي الناس البسطاء عن العدو الحقيقي وهو النظام الجزائري. وتلك حكاية أخرى سنتصدى لهم لدحض مزاعمهم في مقال آخر.