سبقت هذه الكلمة بعض الكلمات عن العادات والتقاليد والأعراف المتغيرة في السودان القديم منها إلى السودان الحديث بعامل التطور العلمي والعملي منها الزواج والزار والخلاوي والطرق الصوفية، راجع كتابنا (دوحة الأدب) الصادر عن دار البيدر للطباعة والنشر والتوزيع بالإمارات العربية المتحدة لسنة 2025 لمزيد من التفاصيل.
تأتي هذه الكلمة في ذات السياق التوثيقي التاريخي للمتغيرات الحياتية من الأعراف والتقاليد الاجتماعية السودانية تحت عنوان “طقوس المناسبات الدينية” لما لها من وقع محبب في النفس، وأعني بذلك السواد الأعظم من المجتمع السوداني الذي ما تزال تربطه علاقات وشيجة ومتينة بها ولها قيمتها المعنوية العالية لبعض ما خلَّفه الزمان تغيراً بحكم التطور في كافة المجالات الفكرية والثقافية والإنسانية محلياً ودولياً وإقليمياً.
شهر رمضان
“رمضان كريم”، هذه الكلمة من أبجديات الاستعدادات الروحانية الأصيلة إن لم تكن خاصة بالشعب السوداني فهي عربية صرفة أو قل قومية محضة يعرفها سكان وشعوب الوطن العربي بعامَّة وقليل من العالمين ويبدأ تداولها منذ اللية الأولى لليوم الأول من الشهر الفضيل بعد أن ينتظر الجميع تأكيد ثبوت رؤية هلال شهر رمضان من التلفاز، وتراهم في شوق وتربص دائبين لإعلان مجمع الفقه الإسلامي ثبوت الرؤية أو بالتحديد تأكيدها من معالي الأستاذ الدكتور معاوية شداد، الفلكي الأكاديمي المعروف وتراهم يقولون: (شداد قال شنو) كنوع من الاطمئنان النفسي جمعاً بين الثبوت العلمي الفلكي والنطق السامي من مجمع الفقه الإسلامي، وما أن يتأكد الجميع أن غداً اليوم الأول للصيام يهرعون إلى تجهيز العشاء والسحور وخلافه.
يسبق ذلك بشكل مهم وضروري للغاية بهذه المناسبة السعيدة التحضير للشهر الفضيل بعواسة الآبري الأحمر وهو ما يعرف شعبياً عندنا بالحلو مر المعمول من عجينة طرية أساسها الذرة الفتريتة الحمراء.
دعني أحكي لكم كيف كانت الوالدة رباب حسن السرَّاج – عليها رحمة الله ورضوانه – تقوم بعمل التجهيزات والتحضيرات في ذلك نموذجاً شعبياً سودانياً خالصاً.
هذا ! قبل ثلاثة أشهر من قدوم شهر رمضان في الغالب نذهب أنا وهي إلى أحد الأسواق بأم درمان بسبب وجود الطاحونة بها إذ سوق أم سويقة الواقع بحي بيت المال حيث نسكن لا توجد به طواحين لطحن الذرة الفتريتة أو خلافه بالمناسبة، أم سويقه تصغير لكلمة سوق أي: سُوَيْقْ وزيد آخر القاف هاء وأصلها النصب أو الفتحة بالتخفيف لسهولة النطق وشيوعه بالتحديد سوق الشجرة جهة حي ود البنا الشهير أو سوق السور..
وينطق في الدارجة المحلية بالصاد بدلاً عن السين المهملة فيقال: سوق الصور جهة حي الملازمين المتاخم لحي بيت المال الذي نسكن به، ويفصل بين حي الملازمين وحي بيت المال شارع الزعيم الأزهري الممتد من منزل الزعيم الأزهري في الاتجاه الغربي وحتى شارع الإنقاذ من جهة مدينة الخرطوم بحري بالشرق..
كما يفصل بين حي بيت المال وحي سوق الشجرة أو حي ود البنا شارع أب روف الشهير، والسوق الثالث الذي توجد به طاحونة أيهما أقرب وأفضل حسب المزاج للوالدة هو سوق بحري الشعبي، بالخرطوم بحري، إذ توجد به أكثر من طاحونة وتوجد به جميع أصناف العيوش أو المحاصيل الزراعية النقدية منها القمح والذرة والدخن وطابت وقدم الحمام والفتريتة الحمراء بجانب آلة القشَّارة التي تفصل بين قشرة الذرة أو القمح وبين النواة.
هذا ! نقوم بشراء كِيْلَة أو كِيْلَتَيْن – تنطق بتخفيف الكاف وامالتها – أو عليها تزيد، والكيلة من موازين القياس عندنا في السودان وأصلها العربي من الكَيْلِ والتكييل أو المكاييل ومنها قوله تعالى: {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} سورة المطففين يمكن أن تعادل مَلْوَةً كاملة.
والمَلْوَةُ من الموازين أيضاً، ثم نقوم بشراء بعض من أنواع الحبوب أو العيوش منها مفردها عيشة وتجمع على عيوش، نحن نقول للحبوب النباتية في هذا الباب العيوش نريد بها المحاصيل النقدية القمح والبليلة الصفراء فهي أحبَّ إلينا من البليلة الحمراء، نحن نقول للبليلة الحمراء “عدسية”، بينما نقول للبليلة الصفراء “كَبْكَبْي”..
لأنني آكلها مع شقيقتي الكبرى (فاطمة، تومة) مباشرةً كبكبي مع حبوب التُرْمُسْ، بشراهة شديدة،، فتقوم الوالدة بشراء زيادة عيوش أو حبوب مع الذرة الفتريتة الحمراء التي تصنع منها عجينة الحلو مر.
قبل أن يصير الحلو مر عجينة تُعاس على الصاج، تقوم الوالدة بعملية التزريع أو الزُرِّيْعَة أو الزِرِّيْعَة أي إعادة زراعته خارج التربة بعد غسله جيداً ورُبَّما دون غسيل..
فيوضع على جوالات خيش إمَّا على الأرض وإمَّا على العنقريب الخشبي راجع تعريفنا للعنقريب في مصدرنا السابق “دوحة الأدب” والأفضل وضعها على العنقريب خشية نبتها على الأرض فيصعب قلعها بينما يسهل قلعها وهي على العنقريب الخشبي، وتغطى بالملاءة أو الجوالات المصنوعة من الخيش جيداً وتتعهدها بالسقاية والري كل يوم صباحاً ومساء، وللتدقيق أقوم أنا بعملية الري والسقاية بينما تنشغل هي بأشغال أخرى كثيرة.
بالمناسبة يمكن أيضاً وضعها على الأرض لكن ليس مباشرةً بل بوضع حائل بين الأرض وبين الذرة وهو الجوالات الخيشية خشية أن تنبت على الأرض فيصعب قلعها.
تظل هذه العملية لمدة شهر تقريباً حتى تنبت من جديد لاحظ وهي خارج التربة فتستشن زهراً أخضراً رائعاً لمستوى عشر سنتيمترات بالكاد، ثم تقوم بعملية التعطيش، أي منعها من السقاية حتى يحمر لونها جداً ويجف زرعها لمدة أسبوعين أو عليها تزيد، فتتحول شعيراتها الخضراء إلى حمراء وتتماسك جيداً ما تعرف بعملية التلبيك “ملبَّكة” فكأنَّها قطعة واحدة لكن تعالج بتكسيرها وتقطيعها قطعاً صغيرة ليسهل حملها في القُفَافَة إلى الطاحونة مباشرة.
بعد ذلك يتم قلعها ووضعها في جوالات أو قُفَافَة مفردها قُفَّةَ عبارة عن حامل للأدوات والأغراض المنزلية مثلها مثل الشنط أو الأكياس البلاستيكية المغلفة أو الورقية..
لكنها تصنع من جريد النخل الجاف في نسق منسوق محكم وبأشكال مميزة وملوَّنة ورُبَّما تترك دون إضافة الألوان وبأحجام مختلفة والذهاب بها لأحد الطواحين القريبة من المنزل حسب المزاج للوالدة أو الوضع العام..
ليقوم صاحب الطاحونة بطحنها ناعماً جداً في دورتين من تشغيل الماكينة على أقل تقدير فتصير دقيقاً أملساً ناعماً وساخناً ويضاف إليها أثناء الطحن بعض التوابل والبهارات والأعشاب الطبيعية مثل الجنزبيل والغُرنجال والعِرِق الأحمر والكمُّون والحلبة والبلح ورُبَّما الكركدي والعرديب في بعض الأماكن وخلافه، لخلق نكهة وطعم خاصين ومميزين جداً لاستساغة الطعم والرائحة عند الكوجين فيما بعد.
الكوجان أو الكوجين هو عملية خلط كل تلك المكونات مع بعضها البعض لتشكيل العجينة التي ستُطبخ أو تُعاس على الصاج المجلفن المموَّج، بإضافة الماء بنسبة مقدَّرة وتركها لمدة ثلاثة أيَّام تقريباً حسب المناخ لتأخذ دورتها في التخمير عملية كيميائية يمكن وصفها بذلك ونحن في السودان غالباً ما يأت رمضان في الصيف شديد السخونة أو طبيعة المناخ عندنا أغلب أيَّام السنة حار جاف صيفاً دافئ ممطر شتاء إلا قليلاً ونادراً، ثم بعد ذلك تقوم بعملية العِوَاسَة.
العِوَاسَة هي عملية تحريك وفرد العجينة السائلة بسمك معين على الصاج وتركها حتى يتبخر ماؤها وتصير جافة ثم توضع على الطبق أو الصينية المعدَّة لذلك ويصنع في الغالب الطبق من ذات مادة القِفَاف، من جرائد النخل الجاف بأشكال وأحجام مختلفة حسب الاستعمال المنزلي أو التسويق التجاري.
أثناء عملية العِوَاسَة عادة يجتمع بعض النسوة لأداء هذه الفريضة الغائبة اليوم بسبب المصانع المعدَّة لذلك حتى دخلت جمهورية الصين الشعبية في المنافسة المحلية السودانية للاستفادة من هذه الأطعمة والمشروبات السودانية وبيعها تجارياً عالمياً قال تعالى: “والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون” سورة يوسف.
قلت: تجتمع نساء الحي في شكل مجموعات حينما كن يتابعن البدايات الأولى للتحضيرات والتجهيزات اللازمة قبل عملية العِوَاسَة من بعيد ليساعدن بعضهن البعض في العِوَاسَة إذ تكون في قدور كبيرة لصعوبتها ووقتها الطويل في النار، وغالباً تكون نار العِوَاسَة من حطب الفحم الحجري أو الشجري أو بأفرع الشجر الجاف مباشرةً بكميات كبيرة جداً.
نسبة لكثرة الاستهلاك المحلي لهذا الفحم في البيوت السودانية عامة، ورُبَّما تأخذ عملية العِوَاسَة بين أربعة أيَّام إلى سبعة أيَّام حسب الجد والاجتهاد والمثابرة في سرعة الانتهاء منها وتستمر النساء في التجول بين البيوت لمساعدة بعضهن البعض حتى تتم عملية الإنجاز استعداداً للقاء رمضان.
ما قيل عن الحلو مر، يُقال عن الآبري الأبيض، في طريقة التجهيزات والتحضيرات إلَّا أنَّه أقلَّ مشقة من الأحمر وأقلَّ تكلفة وصناعة، ويمكن لسيدة واحدة أو اثنتين بالأكثر عمل كل ما يلزم بأسرع وقت ممكن، لكن، الفرق بينهما لا في اللون فقط بل في الطعم والرائحة الزكية أيضاً..
حينما تكون طَرَقَةُ الآبري الأحمر سميكة بعض الشيء تكون طرقة الأبيض خفيفة ورقيقة جداً ونصطلح عليها في بلادنا بالرُقَاقِ بضم الراء المهملة وفتح القاف المعجمة الأولى وتسكين القاف المعجمة الأخيرة مع نطقها بالتخفيف وهذا أحد المشاريب المهمة والجوهرية جداً في المائدة الرمضانية.
كلا الآبري الأحمر والأبيض يضاف إليهما مسحوق السكر ومكسرات الثلج المكعب أو المكسر للتبريد إذ لا يُستساغان طعماً ولا مزاجاً دون ذلك.
أثناء عملية العِوَاسَة تملأ الرائحة كل الأرجاء والشوارع وتُشم من بعيد جداً وتُتابع الرائحة من أي بيت صادرة فيُقال: (ناس فلانة الليلة عايسين الآبري) فقط من طريق الرائحة الزكية مما يجعل النكهة المميزة لاستقبال رمضان وتذوق المشروبات المجتهد في صناعتها من أهم طقوس استقباله ولا أغالي إذا أثبت الآية هنا: {ذلك ومن يعظِّم شعائر الله فإنَّها من تقوى القلوب} سورة الحج.
بهذه المناسبة، كنت أساعد والدتي – رحمها الله رحمة واسعة – في كل ما سبق ذكره حتى العِوَاسَة على الصاج فتعلمت منها أكثر أنواع الأطعمة الشعبية وطريقة التحضير والتنفيذ ساعدتني كثيراً أيَّام عملي في المناطق الخلوية إذ كنت أقوم بعملية الطبخ للمجموعة العاملة في المشروع المعني بالميز (سكن العمال والموظفين التابعين للمشروع) دون تعفف أو تكلف وما زلت أمارس هواية الطباخة لأسرتي في القاهرة حتى لحظة كتابة هذه السطور وطبيخ البامية بالتحديد.
عند اكتمال عجينة الطَرَقَة بتحريك الطاء والراء والقاف وهي على الصاج أثناء العِوَاسَة تلتصق بقية العجينة بالآلة المعروفة “القرقريبة” راجع المصدر السابق “دوحة الأدب” التي تسهل عملية تحريك وفرد العجينة السائلة بسمك معين على الصاج المجلفن المموج وتسمى بالكُرَّارَة بضم الكاف وتشديد الراء المهملة وتخفيف وتحريك الرائين لأنَّها تَكُرُّ العجينة أي: تزيح وتحرك العجينة بسهولة ويسر وتصنع من الخشب الأبلكاش المضغوط أو ما يعرف بالبوسنايت فتقطَّع بأحجام صغيرة قدر كفَّة اليد..
هذه العجينة يعاد إستعمالها بطريقة أخرى إذ تستعمل كمشروب إضافي بعد نقعها في الماء لمدة من الزمن وإضافة السكر المسحوق إليها وتشرب باردة أيضاً وأكثر من يستعملنها النساء السودانيات بمفهوم زيادة الوزن قبل الزواج ومذاقها لذيذ منعش وممتع كطرقة الآبري الأحمر المستخلصة منها.
تُبَلُّ عدد من الطرقات في الماء قبل تناولها بيوم واحد للإفطار في رمضان أو غيره على أواني من النيكل أو الطلس مكتوب عليها “رمضان كريم” بأشكال وألوان مختلفة وزخرفة جميلة للغاية وخطوط من الحروف متمايلة ونعرفها بالكُوْرِّيِّة أو الكَوْرَة.
ثم تفقد قيمتها الغذائية بعد ذلك وترمى في الزبالة بعد أن تعود لطبيعتها المعجونة المفككة المتفرقة حتى نهاية كل ما تم عواسته من آبري الذي استغرق الجهد والمال والطاقة والراحة النفسية والمحافظة على تقليد استمر لأكثر من عقدين من الزمان (2025 – 1833).
تعليق واحد