ثقافة

حين تنطق الوثيقة (5)

الجولة الثانية..السياسة والدولة والحداثة من منظور الرّحالة والسُّفراء المغاربة(4-4)

تأثير خطاب الرحلة في عملية الإصلاح 

إذا أخذنا عينات من تلك الرحلات التي تمت بإرادة وتوجيه من الدولة المغربية، على شكل بعثات علمية أو سفارية، نجد أن تلك الأسئلة والصور التي نقلها الرحالة، انعكست في صورة ما في برامج وعملية التخطيط لمشاريع تحديث البلاد. فالطهطاوي نفسه يتحدّث حين الرجوع من باريس، عن تحقق أهداف الرحلة حينما يقول تحت عنوان (في رجوعنا من باريس إلى مصر): «من المعلوم أن نفس القارئ لهذه الرحلة تتطلع إلى معرفة نتيجة هذا السفر الذي صرف عليه ولي النعمة مصاريف لم تسبق لأحد من الملوك ولا سمع بها في التواريخ عند سائر الأمم (…) فكيف وإرسال ولي النعمة للأفندية إلى باريس قد نجح غاية النجاح وأثمر، حيث إن جلهم قد اكتسب رضاء صاحب السعادة، وسارع في المطلوب وعن ساعد الجد والاجتهاد شمر»[66].

ثم بعد وصفه للمكانة العلمية لعناصر البعثة الذين أصبحوا أطراً علمية وإدارية لمصر، يقول: «وأقول حيث إن مصر أخذت الآن في أسباب التمدن والتعلم على منوال بلاد أوروبا، فهي وأحق بما تركه لها سلفها من أنواع الزينة والصناعة»[67].

وكان ذلك حال الحجوي الثعالبي أيضاً بعد الرحلة. إذ لم تقف محاولته في صميم كتابة الرحلة ولم تكتفِ بمحض الإخبار عن أحوال أوروبا ومدنيتها. بل إنه واصل العمل الإصلاحي من مستوى فكري وعلمي من خلال نشاطه العلمي المشهود وتأليفاته التي حملت مشاريع الإصلاح بجراءة. وأيضاً فعل ذلك من مستوى مسؤوليته داخل جهاز السلطة ومشاريع الإصلاح التي تقدم بها سواء إلى السلطان أو إلى الحماية قصد النهوض بالإصلاحات الضرورية، ويجب أن نذكّر أن الحجوي الثعالبي ممن تعامل ببراغماتية كبيرة مع الحماية التي تولّى مناصب ومسؤوليات مخزنية في ظلها. وقد كان هذا هو سبب عزوف المغاربة عن أخذ آرائه الإصلاحية المهمة مأخذ الجدّ، وقد كان من دأب المغاربة ألَّا يلتفتوا إلى أي مشروع ويجرحوا في أي جهة تعاملت مع الحماية ولا يجدون لها مبرراً. والحق أن الحجوي كان مصلحاً كبيراً حتى أن موقفه الإيجابي من الدور التحديثي الذي قامت به الحماية يجب فهمه على أنه رأي ظلّ مرفوضاً حتى الساعة، لم يكن الحجوي مفضلاً للاحتلال أو الحماية، فهو رجل وطني وحامل همّ إصلاحي كبير، غير أن اجتهاده السياسي لم يكن يُمنى باحترام. وقد زادت حرارة سنوات التحرر الوطني من إهمال تلك النصوص التي أقبرها أصحابها لمجرد أن كانوا يوماً ما متعاونين مع الحماية الفرنسية.

وسوف نقف على هذه التجربة في مناسبة أخرى، لنؤكد أن حسرة الحجوي لم تقف عند تأمل الفارق بين المغرب وأوروبا، بل كانت حسرته على كون مظاهر القابلية للاستعمار ظلت تتسع يوماً بعد يوم، مما جعله أكثر قسوة على الداخل وأكثر شدة في نقده، فهو كان ضد كل أشكال الفوضى والثورات التي جلبت الاستعمار إلى البلاد حينما أنهك جسم الدولة في حروب داخلية طاحنة، على الأقل كما يشير كتابه: انتحار المغرب بيد ثواره.

مظاهر اليقظة الأوروبية من منظور أبي الجمال

يدفع تاريخ المغرب ثمن قدره الجغرافي، قد يكون للجغرافيا أهمية كبيرة في تأمين القدر التاريخي من المناعة لتعزيز الهوية المغربية هو على هامش الشرق، لكنه هو بوابة الشرق أحيانا من جهة الغرب، سنجد ذلك ماثلا في تجارب الإحتكاك مع الغرب الحديث، في المشرق العربي وتحديدا في مصر، ستحدث رحلة رفاعة الطهطاوي تحوّلا في الفكر والموقف، وهي بالفعل وثيقة تاريخية أظهرت مستوى الإنبهار بمنجزات عصر الأنوار والحداثة الأوربية، بالنسبة إلى رفاعة الطهطاوي، كان الإنبهار مصحوبا بحسرة المقارنة وأسئلة النهضة التي عرفت خلال القرن التاسع عشر ملامح في الإنتاج الأدبي وكذلك في مجال تحديث بنيات الجيش والإدارة والعمران، لكن يبدو أنّ تجربة المغرب في الرحلة لم تلق ما لاقته هذه الرحلة الطهطاوية على الرغم من غزارة هذه التجارب في بعذها الميداني وخصوصيتها، يجهل المشارق تجارب المغاربة في الرحلة التي سبق بعضها تجربة رفاعة الطهطاوي، وبعضها عاصرها وإن جاء بعدها بعدد من السنوات قليل، بعضها لمحت فيه تأثرا بتجربة الطهطاوي كما هو حال رحلة الصفار، وبعضها سابق أو لاحق، ولكن لم يلتفت إلى تجارب سابقة. ظلّ القاسم المشترك هو الإنبهار حدّ جلد الذات وتحميلها مسؤولية الانحطاط، لكن رحلة المغاربة تميزت بكونها في معظمها كانت مهاما أكبر من مهام رفاعة الطهطاوي، الذي رافق بعثة من الطلبة في وظيفة الإرشاد والإمامة، وهو تقليد متبع يومئذ بالنسبة للبعثات، أما الرحلات المغربية ففي غالب الأحيان هي سفارية تتعلق بوظائف تابعة للدولة.

تتميز الرحلة المغربية في مستوى التعاطي مع الغرب بانبهار تحضر فيه الرقابة الشديدة على الهوية، أي وصف المنجزات من دون أن يبلغ الانبهار درجة محق الذات، لذا غلب عليهم التذكير بأنّ ما عليه أوربا الحديثة حقّ في مستوى العمران البشري، ولكن لا زال الرحالة يذكر بالحاكم الأوربي الكافر، وكانت تلك هي الأوصاف المتحكمة في الثقافة السياسية مع غرب أمبراطوري وفي بيئة دولية تستند إلى القوة. فالرحالة المغربي يتجول في أرجاء أوربا، ولكنه يحتفظ بكبرياء الأمبراطورية المغربية وهيبتها، على الرغم من أن بعضا من تلك الرحلات جاءت بعد حرب إيسلي التي كشفت عن ضعف التنظيم والإدارة والتسلح بالنسبة للجيش، حيث كان ذلك هو هاجس ومهمة الصفار.

رحلة بن عثمان المكناسي في فكاك الأسير جاءت قبل رحلة الطهطاوي كما نجحت في نقل الصورة مع التأكيد على هيبة المغرب وفي الوقت نفسه كانت ناجحة من حيث ساهمت في إبرام اتفاقيات كثيرة مع إسبانيا وإطلاق سراح العديد من الأسرى.

بين يدي تجربة أخرى لصاحبها أبي الجمال الطاهر بن عبد الرحمن(ولد بفاس عام 1830)، سمّاها محققها بالرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية، وهي رحلة سفارية وقعت في القرن التاسع عشر، دامت الرحلة سبعين يوما في 1860م. لم يكن أبو الجمال معمرا، فلقد توفي عام 1868.

زار الديار الإنجليزية يوم كان عمره 30 عاما وتوفي حسب المحقق قبل متم الأربعين، خريج القرويين، استمر عالما مدرسا حيث تفرغ بعد نهاية الرحلة على ما وصفه بعض مترجميه بالعلامة المدرس النّفاعة، كان أبو الجمال سفيرا انتدبه المخزن أيام السلطانين عبد الرحمن وابنه محمد بن عبد الرحمن.

ما الذي يميز رحلة أبي الجمال عن رحلات مغربية سابقة؟

ربما أغلب الرحلات كانت للديار الفرنسية أو الاسبانية أو التركية أو ما شابه، وهذه رحلة إلى الديار الإنجليزية، وقد تجدر المقارنة بينها وبين رحلة الحجوي الثانية للديار الانكليزية مع فارق آخر، هو أنّ رحلة الحجوي تلك كانت شخصية تتعلق برحلة رجل أعمال لتحسين وتطوير تجارته، كما أنه وزير وسفير سابق وله مشروع إصلاحي متكامل، وكانت رحلته تلك مهجوسة بمقارنة الديار الفرنسية والديار الإنجليزية الشيء الذي يمنحها قيمة مضافة في أدب الرحلة، كما أنها توقفت عند بعض المظاهر الإقتصادية وهي تصلح أن تكون وثيقة في تاريخ الإقتصاد السياسي.

كما ذكرت في مناسبة أخرى، أن ما يميز الرحلة المغربية عن رحلة رفاعة الطهطاوي هو كونها مسكونة بمشاعر التّحدّي والتذكير بين الفينة والأخرى بهيبة الدولة، كان المغرب قريبا من أوربا، وقد نسج علاقات دولية سابقة وساس مناورات عديدة مع تلك الأقطار، إستمرت مسألة الهيبة إلى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين رغم الانتكاسات: معركة تطاون التي جعلت الحجوي يكتب عن إنتحار المغرب بين يدي ثواره: كان له موقف سلبي من ثورة بوحمارة، التي تعاون فيها مع الإسبان، بعد ذلك كانت رحلة الحجوي التي جاءت على إثر معركة إيسلي مع فرنسا، وفي الحقيقة، فاق المغاربة على الفارق الكبير في التنظيم والعتاد العسكري مع فرنسا، إستمرت نظرتهم إلى أوربا كدولة حرب، الإحساس الذي استمر عند العامة والخاصة، ويطلق المغاربة إسم النصارى على الأوروبيين، وتارة يستعملون الكفّار، سنجد في وصف بعض الرحالة نعوتا من هذا القبيل لكن وجب النظر إليه على أساس السياسة ودار الحرب، فهم يعتبرون بعضهم كافرا ولكنه صالح لشؤون البلاد، ينسبون لهم الوفاء والعمل والتفاني وحسن المعشر وغيرها من الصفات الإيجابية لولا أنهم كفار، ومثل ذلك له نظائر في متون عديدة من علماء وسفاريين مغاربة في وصف الديار الأوروبية.

في وصف أبي الجمال شيء من ذاك القبيل، ولكن ذكاء عالم القرويين سينحت معاني عميقة ليس في اللاهوت وهو عالم دين، بل في نقد الحداثة بشكل مبكّر، الحداثة لا تمثّل في نظره أقصى العقل، ولكنها أيضا ليست موضوعا للاختيار، بل هي أمر حتمي مقدور كما سنستنبط من أقواله.

تكفير الآخر هنا لا يحجب محاسنه، وكأنّي بأبي الجمال ليس من أهل التجريح بل من أهل الاعتدال والموازنة، وهذا يعطي صورة عن الخطاب الديني في مغرب القرن التاسع عشر، مغرب يكفّر النّصارى على الطريقة التقليدية، ولكنه لا يرى في هذه الصفة مانعا من الاعتراف بمحاسن الكفار، حيث يقول أبو الجمال واصفا قبطان السفينة: “وهذا الرئيس مع كفره تعجبنا من إحسانه، وحسن شيمه وأدبه، ومساعدته لنا وملاطفته، وددنا أن لو كان مسلما”.

وفي مقطع آخر يتعجب كيف سخرت أشياء الحضارة لقوم هم في نظره كفّار من أهل الزيغ، فإن حصل ذلك فهو مدعاة لمزيد من الإيمان ليظهر صنع الله في العكس والطرد وليعلم العاقل أنه لا غرض له في القرب والبعد، إنّ مظاهر المدنية كثيرة هناك وعجائب تلك الديار لا تنتهي: “إن فيها من العجائب ما لا يقدر على حصره العاد ولو استحضر القرطاس والمداد”..

كان الرحالة المغربي قاسيا في وصف أوربا، قليل الإنبهار كما حصل مع الطهطاوي، يصف آثارهم ولا ينسى أن يلعنهم، كقول صاحب فكاك الأسير: ” ولقد أكرمنا يقصد حاكمهم لعنه الله”. ويقول أبو الجمال، والحق كان الأولى أن يكنّى بأبي الجلال: “والحاصل أنهم، دمرهم الله، يستعملون أشياء تدهش، سيما من رآها فجأة”، ولكنه يتوقف عند هذه الظاهرة ليحارب اختلال العقول انبهارا بهذه الأشياء المدهشة، فلقد أعطانا صورة عن جيل سيأتي فيما بعد يحركه الانبهار لا الروية والتّأمّل، لذا يقول: “وربما اختل مزاجه من أجل ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”…

إنّ وصف الرحالة المغربي لأوروبا لم يكن وصفا خالصا، بل خطابا تربويا، أي كيف لا يكون الفارق في المدنية سبيلا للتخلّي عن قيم المحلّي. ضرب من المقاومة الذي مارسه علماء ورحالة بشكل يزيد وينقص بحسب ثقافة الرحالة ووعيه السياسي. فهو هائم بين الاعتراف بمظاهر مدنيتهم والتهوين منها، بين التمدح والهجاء، لكي لا تعصف تلك المظاهر بمن تلقاها أوّل مرّة.

إن هؤلاء الإنجليز يتساءل أبو الجمال” كيف تحيّلوا على إصلاح دنياهم حتى أدركوا منها مناهم”. وهم في الإصلاح اعتمدوا الانضباط لا الفوضى و”استعملوا قوانين وضوابط وفي كل ما يقربهم منها غوابط”، ويستمر تحليل الأسباب التي أيقظتهم ومكنتهم من الصنائع حيث يقول: “والحاصل أنهم أتبعوا أنفسهم أولا في إدراك المسائل النظريات وكابدوا على تحصيلها حتى صارت عندهم ضروريات، ولا زالوا يستنبطون بعقولهم أشياء كثيرة، كما أحدثوا البابور وغيره”…

لكنه يذكر بأن تلك الطيبات التي اكتسبوها، إنما هي مما عجل لهم في دنياهم باعتبار الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ويذكر بالموقف: ” والله يحفظ بيضة الإسلام ويحميها من كل مكروه بجاه نبيه عليه السلام”، في ذلك السياق، تبدوا هذه العبارات طبيعية في الثقافة المغربية حاكما ومحكوما. فلا زالت نظرة المحلي إلى الأوربي أنه كافر، ولقد كان الكثير من الأوروبيين قد بيعوا في سوق النخاسة المغربي، أحدهم كتب سيرته تحت عنوان: كنت عبدا في المغرب، يروي فيه فصول حياته كعبد أوربي في الديار المغربية. وكنت أتمنّى من محمد الناجي المتخصص في تاريخ وسوسيولوجيا العبودية، لو التفت إلى ظاهرة العبيد الأوروبيين في المغرب، وبالعودة إلى أبي الجمال، فلم يكن دعاؤه لحفظ ديار الإسلام جزافا، فلقد كان السفاري على حذر من أن تصبح هذه المكاسب عناصر قوة للحرب والغزو وهذا ما كان، وكان الاستعمار.

يحاول أبو الجمال أن يشرح سرّ هذا التمكين من الإستنباط والصنائع والنهضة، فيسبق هابرماس بسنين عديدة، ولكنه بدل أن يتحدث عن العقل الأداتي تحدّث عن العقل الظلماني، ولكن حين التأمل سيبدوا لك أن العقل الأداتي غير معني بالحقائق المعنوية والأبعاد الروحية، بل وهو حاجب لها، وهو متاح، وليس بالعقل الأداتي سيحاسب أهل الدّين، فيقول معلقا على قصة صناعة البابور: “فرآه رجل فتعجب واستنبط هذا البابور المعروف بعقله الظلماني، لأن العقل على قسمين: ظلماني ونوراني، فالظلماني به يدركون هذه الأشياء الظلمانية ويزيدهم ذلك توغلا في كفرهم، والنوراني به يدرك المؤمن المسائل المعنوية”…

تعكس الرحلة، لا سيما رحلة أبي الجمال كيف استقبل المغاربة من موقع السفير إنجازات النهضة الأوروبية وكيف كانوا مهجوسين بالحذر والمقارنة، وكيف ترددوا بين الإعجاب والتهوين، وكيف أسسوا منذ البداية لموقف مزدوج محكوم بالانتقاء، الإنتقاء بين منجزات العقل النوراني ومنجزات العقل الظلماني، إذا شئنا التعبير بلغة أبي الجمال، وفي كل الأحوال، كان الرحالة المغربي يقرأ في تلك النهضة قوة سياسية في نهاية المطاف، قد تتهدّد ديار الإسلام.

إنّ نظرة الرحالة المغربي تعطينا أيضا فكرة عن النزعة التقليدانية، كما وصفها عبد الله العروي، النزعة التي لم تفارق الرحالة المغربي، نزعة المحافظة والحرص على الوصف دون انبهار يذهب بالبصر والبصيرة. لقد تأثرت رؤية الرحالة المغربي بالموقف السياسي والديني، وكانت أشبه بوصف رحلة في دار الحرب، لذا يقول أبو الجمال: “وأضربنا عن سرد بعضها أيضا لطول العهد مع حصول بعض النسيان الذي هو من عوارض الإنسان، اللهم أحص القوم الكافرين عددا وشتتهم بددا ولا تبق منهم أحدا، آمين”.

إن رحلة أبي الجمال، هي رحلة مغمورة على صغر حجم الوصف، إلاّ أنها تعطينا فكرة كاملة عن تجارب الرحلة في المغرب، أعني رحلة أبي جمال محمد الطاهر الفاسي، والتي اختار لها المحقق اسم: الرحلة الإبريزية إلى الديار الانجليزية. ومع أنّ تحقيق وإخراج هذه التجربة للنشر مهمّ، إلاّ أنني كنت أتمنّى لو انزاح المحقق قليلا وسماها باسم لا يوحي بأنه قبس من تجربة رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ذلك لأنّ المزاج الذي ألف به أبو الجمال رحلته السفارية يختلف تماما عن سابقيه، فما أثار انتباهي هنا، هو العمق الفلسفي الذي كان يجري مجرى اللغة الطبيعية، لكنه يحمل شحنات في الفكر الديني ذات دلالة عميقة. لذا أعتبرها من بين التجارب التي تعكس تفكيكا دقيقا لظاهرة اليقظة الأوربية وحقيقة مكتسباتها الحضارية.

حرص أبو الجمال في كل مقطع، على تذكير القارئ بأنّ ما نحن بصدده هو وصف لمظاهر الحضارة لا جوهر الاعتقاد، وبأنّ المغرب على الرغم من كل هذا التفاوت هو المرتع الأحمد والمأوى الأعظم، لذا يبدأ رحلته ويختمها بهذا التذكير، كما جاء في مبتدأ الرحلة: “كان انفصالنا من الحضرة العلية، الزكية السنية، في صبيحة يوم الإثنين(…)قاصدين ثغر طنجة أدامها الله دار لسلام وصانها بحرمة نبيه عليه السلام الخ”..” كان دخولنا لثغر طمجة المحروسة بالله في يوم الاثنين الخ”.

وظل هذا الإحساس على نبضه القديم، لم يتغيّر على ما كان من انبهار بدقة منجزات الآخر، يعبر عن شوقه للوطن حين الرجوع: “وسرنا على بركة الله قاصدين أوطاننا المغربية، صانها الله من كل مكروه وبلية:

قط كان نسيمه +++ نفحة كافور ومسك
وكان زهر رياضه +++ در هوى من نظم سلك

وخصّ فاس بمديح وهو يقول:

 بلد طاب لي به الأنس حينا+++وصفى العود فيه والإبداء
فسقت عهد المهاد وروت+++منه تلك النوادي والانداء

إنّه لم يأبه لمظاهر ما رأى، لأنّه كان يرى أنّ ثمة ما هو أهمّ، هو منجز الروح وعقلانية المعتقد، وهو ما ميّز طريقة وصف الرحالة المغربي، سواء أكانت رحلته قبل رفاعة الطهطاوي أو بعده. وقد يحسب هنا أنه في الغالب لم يكن المكث فيها هاهنا طويلا، بل هي في الغالب رحلة قصيرة يكتبها الرحالة كتقرير للدولة، ويحاول أبو الجمال أن يعبّر بأنّ جولاته تلك لم تكن برغبة جامحة منه، بل هي أشبه ما تكون بمجاملة: “اعلم أن نظرنا في هذه الأشياء إنما كان تبعا واسعافا في خاطر ملكتهم اذ طلبت منا ذلك مرارا”.

يؤكد أبو الجمال بأنهم كانوا في مهمّة سفارية واستعمل عبارة ” وكان نظرنا وفكرانا مجموعة على قضاء غرض مولانا أمير المؤمنين”، وهنا أحب أن أتوقف عند هذه العبارة، حيث أن أبا جمال هو عالم وهو أيضا من كتاب المخزن على عهد السلطان عبد الرحمن وابنه محمد بن عبد الرحمن. نحن هنا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث توفي أبو جمال في عمر الشباب قبل إنهاء الأربعين من عمر سنة 1868، وبينه وبين دستور الاستقلال في 1962 ما يقرب القرن من الزمان، وهو يستعمل كوصف للسلطان: أمير المؤمنين نتساءل: كيف قيل أنّ هذه الصفة منحوتة لعبد الكريم الخطيب في إحدى السرديات التي تحدثنا عنها في مورد آخر؟ والظاهر أنّها مما جرت به العادة في وصف السلطان منذ أمد بعيد في المعجم السياسي المغربي، وأنّ دستور 62، أخذ بعين الاعتبار هذا التقليد في العرف السياسي.

وكذلك لاحظنا أنّ في متن الرحالة المغربي، لا سيما المكلف بمهمة سفارية يحتفظ بموقف تجاه بلد الاستقبال، ومع وجود عادات المجاملة، إلاّ أنه يظلّ بلدا لا يوثق فيه.

وهذا إنما يؤكّد على أنهم لم ينظروا إلى تلك البلاد إلاّ بعين المجاملة، بينما كانوا يدركون أهدافها بحذر. وقد يبدو لمن يقرأ هذه العبارات الواردة في وصف أبي الجمال بأنها قاسية وتنطلق من الاعتقاد، ولكن من رأى ما حدث فيما بعد، يدرك أنّ السياق كان سياق تربّص بالأوطان؛ أليس بعد كلّ هذا استمرت حركة الاحتلال وقهر المحلّي؟ لذا يقول ببرودة خاطر: ” كان ارتحالنا من هذه القاعدة بعد أن شيعنا عظماء أهلها وزعموا أنهم أسفوا لفراقنا، وادعوا أنهم ألفوا بنا”.

كان أبو الجمال ينعت رجالات البلاد التي رحل إليها في مهمة سفارية بالكفار، ويجري لديه هذا الوصف ليس من باب التأكيد على أنهم حربيين، بل وصفا لمعتقداتهم، ذلك لأنه كان يشيد بأخلاقهم وحسن آدابهم، هنا في الحقيقة تكمن إشكالية في صلب فلسفة الدين وفلسفة الأخلاق، عبر عنها أبو الجمال كما كان يعبّر عنها كلّ فلاسفة زمانه، لا سيما الذين هم في سلك آباء الكنيسة: هل الأخلاق ممكنة من دون دين؟ وهذا هو مصدر حيرته، وهو يرى تلك الآداب في بلاد الإنجليز، فيقول واصفا الكابتن شلاص يوارت ربان المركب: “وهذا الرئيس مع كفره، تعجبنا من إحسانه وحسن شيمته وأدبه ومساعدته لنا وملاطفته، وددنا أن لو كان مسلما”.

هذا يعزز ما سبق وتحدثنا عنه في مورد آخر، خلصنا فيها إلى أنّ لسان الوصف لمشاهد المدنية الغربية من قبل الرحالة العرب والمغاربة، ينطوي على تمنّي عميق لو كان حال المسلمين كحال أوروبا، بل يرون أنفسهم أولى بالمدنية، لذا يرون ما توصلت له أوربا من تلك المنجزات هو من عجائب الناموس وهوان الدنيا على الله، وهم إذ يشعرون بذلك الشعور يعبرون عن أنّهم يرون أنّ اليقظة في عالمهم ممكنة، بل واجبة على خلفية ما ذكرنا، لذا يقول أبو الجمال: ” فسبحان من سخر لهم الأشياء مع اتباعهم الأهواء، ليظهر صنع الله في العكس والطرد وليعلم العاقل أنه لا غرض له في القرب والبعد”.

ثمة وصف بالغ الأهمية عند أبي الجمال، وصف للحالة المدهشة التي تصيب الرائي البعيد بالدهشة، وكأنه يؤكّد بأنّ الانبهار إذا لم يسعفه موقف معقول من رؤية التفاوت رؤية موضوعية، فمن شأنه أن يأخذ بالألباب وينسي المرء حظّا مما كان عليه في مبتدأ أمره من السواء النفسي: “والحاصل أنهم دمرهم الله، يستعملون أشياء تدهش، سيما من رآها فجأة وربما اختل مزاجه من أجل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”.

وعلى الرغم من أنّ وصف أبي الجمال لا يخلوا كل مرة من التذكير بأنّ هذا من مظاهر الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، في محاولة للتخفيف من صدمة الحداثة، إلاّ أنه يعترف بأسلوبه الخاص على أنّ الأمر يتعلّق باجتهاد في تحصيل هذه المنجزات، وهو يصيغ ذلك بأسلوب خاص حين يقول: ” كيف تحيّلوا على إصلاح دنياهم حتى أدركوا منها مناهم واستعملوا لذلك قوانين وضوابط وفي كل ما يقربهم منها غوابط” نعم، هو يردف كلامه بأنه لعل طيباتهم عجلت لهم، وبأنّ الدنيا لا تساوي جناح بعوضة عند الله، وإلا لما كان سقى منها كافرا جرعة ماء، إلاّ أن في ثنايا وصفه كلام يستدعي تأملا كبير، إنه استعمل عبارة: تحيلوا على إصلاح دنياهم، فالإصلاح هنا اجتهاد وتحيل ومناورة، وهو بالتالي يتطلب سياسة، فلا تحيّل من دون سياسة وخطط ينهض بها العمران البشري، وهذا يذكرنا بمطلب التنمية اليوم، فهو ليس معطى، بل اجتهاد وتحيل لا ينفع معه البكاء على الحظّ العاثر في طلب التنمية وفرصها، التحيل هنا تخريج وإمعان في الاجتهاد ومناورة مستمرة، لأنّ ثمة معيقات دائما ضد التنمية والإصلاح، ولا بدّ من مقاومة هذه المعيقات واختراقها بتحيل ومناورة.

كان عهد أبي الجمال يرتكز على التحيل بالمعنى الإيجابي وهو حسن استعمال الطاقات والوقت والذكاء في إصلاح المجتمع. لكن زماننا غير زمانه، بات الإصلاح والتنمية شديد التعقيد ومعيقاته داخلية وخارجية حين ارتهن العالم لنظام دولي يرعى التخليف ويؤبّده، هنا بات الحديث عن التحيل للإصلاح له معنى أكثر حيوية مما كان في عهد أبي الجمال، ولو شئنا التأويل وأخذنا التحيّل مأخذا يحيل إلى علم الحيل، وهو الميكانيكا عند القدماء، فإن اليقظة تحتاج إلى رافعة وقوى لتحقيق الإقلاع، تصبح المدنية نتيجة جهد وقوة وتحيّل.

مسألة أساسية اهتدى إليها الرحالة أبي الجمال، وهي أنّ ما كان من مظاهر يقظتهم هو حصيلة اجتهاد ومثابرة وعقلانية، فعلى الرغم مما جاء في وصفه للقوم بالكفر، إلاّ أنه لم يفته الوصف الموضوعي للأسباب. وهكذا يرى أنّ ما حصل هو حصيلة مكابدة بما يوحي بأنهم دربوا وربّوا أنفسهم على الاستنباط، حتى بات التعقل في حياتهم ليس أمرا نظريا محصورا بل ضروريا وبديهة: ” والحاصل أنهم أتعبوا أنفسهم أولا في إدراك المسائل النظريات، وكابدوا على تحصيلها حتى صارت عندهم ضروريات، ولا زالوا يستنبطون بعقولهم أشياء كثيرة كما أحدثوا البابور وغيره”.

منجزات الحداثة هي حصيلة مكابدة وتحيل واستنباط، وثمة محالٌّ كما يصفها أبو الجمال في باطنها أسباب ومسببات غائبة عن الحس يدق وصفها، ولقد أكثر من التعجب والحيرة المرفوقة بالتذكير بالهوية، ولكن الأهم في كل هذا الوصف هو تفسير أبي الجمال لسرّ هذا الأمر. لقد وجدت عبارة في متن الرحلة الجمالية يرقى إلى مذهب فرانكفورت في قراءة الحداثة، وربما كان أسبق من هابرماس في صف العقل الأداتي الذي به يقوم العمران المادي دون القيم الإنسانية التي تواجه بفعل شروط العقل الأداتي نفسه حتمية الباب المسدود بتعبير هربرت ماركوز من مدرسة فرنكفورت، كما كان أسبق من هيدغر في نقد جوهر التقنية وغوايتها، وإن عبّر عن ذلك بلغة طبيعية، وهي تجري في تراث أعلام الإسلام مجرى البديهي، لكن في وصف أبي الجمال لهذه النكتة غدا الأمر أكثر عمقا، حيث يقول:
وسبب إحداثهم له(البابور) إلى أن يقول: فتعجب واستنبط هذا البابور المعروف بعقله الظلماني”.
العقل الظلماني كالمجرد كالأداتي هو متاح، ويتطلب مكابدة ومثابرة واستنباط، لذا فالإصلاح في هذه المظاهر يقتضي تحيّلا، وأما أبو الجمال فقد اهتدى إلى هذا التمييز بدقة حين قال: ” لأنّ العقل على قسمين: ظلماني ونوراني، فالظلماني به يدركون هذه الأشياء الظلمانية، ويزيدهم ذلك توغلا في كفرهم، والنوراني به يدرك المؤمن المسائل المعنوية(…) ومن هذا الباب وصفهم الله في غير ما آي بعدم العقل وبعدم التفكر وبعدم الفقه”.

هنا يبدو الأمر بخلاف التعقيد الذي تطرحه العلاقة بين العقل الظلماني والعقل النوراني، لأنها في المبدأ ليست علاقة صدام أو تضاد، فأبو الجمال ينزاح عن البعد الآخر من التعاليم التي تحثّ على إعداد القوة، والتعريف الأثير لنا للحداثة والحضارة هي القوة التي يعكسها رسوخ المثابرة لتنمية أشياء الحياة وتيسير سبلها، وبهذا المعنى يصبح العقل الظلماني خادما للعقل النوراني نفسه، بل إنّ بلوغ العقل النوراني لا يتحقق مع هيمنة العقل الظلماني ورهنه للأشياء والروح في الأزمنة الحديثة، وهي انزياح العقل الظلماني إلى حالة الشطط العام، لم يذهب أبو الجمال مذهب المعتزلة في التقبيح والتحسين العقليين كما وصف الطهطاوي حال اليقظة في أوربا، بل لجأ إلى تصنيف صوفي يهجو الحياة ويمنيها بالزهد، وإنما رأينا أنّ الاستهانة بالعقل الظلماني خطيئة، لأنها مستند حتمي للعقل النوراني نفسه، ذلك لأنّ العقل النوراني دائما كان مسنودا في عصر النبوات بالمعجزة، واليوم المعجزة التي يوفرها العقل الظلماني بمنجزاته المدهشة والتي تستند إلى المثابرة والاستنباط والتحيل، هي البديل عن المعجزة الغيبية التي تسند العقل النوراني، كيف تقاوم عقلا ظلمانيا جبّارا مدهشا بالتّمنّي؟ ما الذي يمنع المسلمين من المثابرة والاستنباط والتحيل لإصلاح دنياهم؟ قراءة هبرماس صحيحة من جهة الوصف، ومقاربة طه عبد الرحمن صحيحة من الجهة نفسها وهي تستلهم هذا التقسيم للعقل المجرد والعقل المسدد من ذات المصادر التراثية، كما هو وصف أبي الجمال، ولكن نسأل دائما: ما العمل؟ أنا أرى بناء على مقدّمة الواجب ووجوب المقدمة لذي المقدمة وجوب تحصيل العقل الظلماني والتفوق فيه للظفر بالقوة والرسوخ في الزمان والمكان.

تساؤلات لا بد منها

هذه عينات من نصوص الرحلة، بشقيها السفاري والاستكشافي. محكومتان بإكراهات لحظتين: الإحساس بالتفوق كما كان من أمر ابن عثمان، أو لحظة الإحساس بالفارق الحضاري بين مدنيتين، كما رأينا في الأمثلة التي أعقبت ذلك كرحلة الطهطاوي أو الحجوي. وقد يجد القارئ أنها نصوص تتقارب على مستوى الوصف وإبداء الدهشة أمام الرقي الحضاري والتفوق المدني لبلاد الفرنجة. وكلهم باح بانطباعه الموسوم يعمق هذا الاندهاش وقوة هذا الولع. وكلهم نظم أو تمثّل شعراً مدحاً لحال ترقّيهم وهجاءً لحال انحطاطنا، وكلهم امتدح باريس وغازلها غزل العروس. لكن في متن هذا الغزل، وهذا التصوير للمدهش، كانوا يعبرون عن التحسر، ويستدعون الفارق بين البلاد الإسلامية وأوروبا، كما أنهم حتى في لحظات الهزيمة والإصرار على تصوير المدهش في هذه المدنية، أدركوا أن لا سبب ينهض بهذه المدنية سوى العلم والتعلم. صحيح أن الوصف ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا ورصد فيها ذلك النصيب من المدهش والعجائبي، لكن في كل لحظة كان هناك توجه إلى روح النهضة وأسبابها،فالعلة هي العلم. لكن علة العلل هي إرادة العلم ومعرفة الطريق إليه.

بعد هذه الإطلالة على أهم نصوص الرحلة بمختلف تعبيراتها كان لابد أن نتساءل الأسئلة التالية:
كيف استطاع أدب الرحلة ابتداء من القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين أن يؤثر في عملية الإصلاح؟ وما هي معالم أثر الرحلة في برامج الإصلاح؟ ما هي مُعيقات تأثير الرحلة في ثقافة الجمهور، وهل أمكنها حقًّا أن تصل الجمهور؟ كيف نقيم وعي الرحالة في هذا العصر، وهل لازالت أسئلة الرحالة حية وأنها أسئلة لم تنجز أجوبتها حتى الآن؟ ما عدا ذلك لا ننسى أن الرحلة كانت بمثابة المحطة الأولى في قيام إصلاحات حتى لو لم تكن حققت حلم أولئك المصلحين، لكن تحديث البلاد على مستوى النظم الإدارية وإقرار الدستور والقوانين وهيكلة الاقتصاد والنظام التربوي والصناعة والجيش.. كلها محاولات أدخلت دول العالم الثالث ولو بصورة مبتسرة غير كاملة وأحياناً مشروطة إلى العالم الحديث! لم يبلغ هذا التأثير مبلغه ولم يحقق نموذجه المثالي. لذا وجب العودة إليه للوقوف عند الفارق الكبير بين ما كان ينشده هؤلاء الرحالة المصلحون، وما تم تحققه اليوم بصورة من الصور. لم يكن في وارد هؤلاء الرحالة ما سيطرأ من مستجدات على الصعيد الدولي والإقليمي والوطني.

حيث مجرد التحديث لا يصنع القوة ولا يحفظ البلاد ولا يحفظ الدين. ليس الأمر في أن نتطور بأي شكل اتفق، بل علينا أن ندرك كيف نتطور من دون أن نقع في كوارث حقيقية، وهو ما لم يكن في وارد مصلح مثل الحجوي مثلاً، حيث راهن على الحماية لتحديث البلاد،  وربما هو وأمثاله اعتبروا التحديث من غنائم عصر الاستعمار، بما في الأمر من مغالطات تاريخية، نستطيع فهمها اليوم أكثر من أي وقت مضى، لم ير هؤلاء الرحالة إلا مظاهر المدنية وحجم الفارق المهول، لكنهم لم يدركوا خطط المستعمر وطريقته في تدبير المستعمرات والمحميات على أساس الاستتباع وتخريب البنية الاقتصادية والاجتماعية والقيمية للمحلّي. باختصار لقد كان ينقصهم الحس الأيديولوجي والاستراتيجي؛ لذلك كانت قراءتهم للتحديات الخارجية مبسطة وساذجة وتخلو من التعليل، فالغالب على الرحلة، أنها استبعدت خطرين سوف يركز عليهما الإصلاحيون وتيار الجامعة الإسلامية، ألا وهما: الاستبداد والاستعمار. لقد ركّز الرحّالة على التخلف والانحطاط المدني. وهذا وجه من وجوه وصف الأزمة. لكنهم لم يدركوا علاقة وجدل الاستعمار والاستبداد في صناعة التخلف وجلب الاستعمار، إن ما قدمه هؤلاء الرحالة يصلح أن يكون المادة الوصفية الأولى لانبعاث الإصلاح والنهضة. إلاّ أنه لا يمثل كل شروط النهضة والإصلاح. نقول ابتداء: إن هذه النصوص الرحلوية لم يكتب لها أن تصل إلى الجمهور. فقد ظلت حبيسة دواوين السلطة أو حبيسة نخبة محددة. وذلك لأسباب منها: أنها شكّلت وثيقة للنخبة السياسية الحاكمة أو العلمية، لم يكن انتشارها مهمًّا، لغياب سياسة التشريك الجماهيري في مثل هذه القضايا، أكبر دليل على ذلك أنها ظلت مخطوطات لم تر النور إلاّ في السنوات الأخيرة، ومع أن الحجوي أكد بأن رحلته إنما لأجل إطلاع من لم يجرب الرحلة من المغاربة، إلا أنه لا يعني أن محاولته لقيت انتشاراً عند الجمهور، ثم لا ننسى أزمة القراءة وانتشار الأمية التي ذكرها الرحالة نفسه. فلم يوجد يومها وسائل للنشر كالكازيطات التي تحدث عنها كل الرحالة. وحتى مع وجودها لا وجود لتقاليد القراءة والتولع بالمعارف لغلبة الأمية، وحتى اليوم لم نحولها إلى نصوص تربوية نستدخلها برامجنا التعليمية لتربية الناشئة على قيم النهضة والتّرقّي، لا شك في أن وعي أولئك الرحالة كان متقدماً جدًّا بالمقارنة مع أغيارهم. فهم صفوة من كان يختارهم السلطان بتعبير الرحالة المغربي أو ولي النعمة بتعبير رفاعة الطهطاوي، ولا نزعم أنهم حتى في تركيزهم على مظاهر المدنية وعدم التطرق إلى صلب إشكالية الاستعمار والاستبداد، كعائق أساسي للتحديث وصانع التخلف، لا نزعم أنهم كانوا خائنين لقضيتهم، بل إن معالم التحسر ظلت بادية على مواقفهم ولسان حالهم: نحن أولى بهذا الإنجاز من أولئك الفرنجة! إن جزءاً كبيراً من التسطيح راجع إلى أن مخاطر الاستعمار. واستراتيجيته لم تكن معروفة كما هي الآن. فليس من المعقول أن نقيّم تلك الآراء بأثر رجعي، ربما ظنّ البعض لتبرير مواقف بعضهم أنها من ذكائهم المبكر وربما من فرط وعيهم المتقدم على عصرهم فعلوا ما فعلوا.

وقد نجد اختلافاً في الوعي بين رحلة وأخرى، وقد نجد تفاوتاً في المدارك بين هذا الرحّالة أو ذاك. لكن مع كل ذلك ظل هناك وعي أساسي مشترك لا يزال بمنزلة جوهر الخطاب الرحلوي: العلم كسبب للنهضة. إننا نرى أن ما طالب به الرحالة وما خرج به من انطباعات ينقسم إلى قسمين:
الأول: يتعلق بالتحديث والعلم والعمل.
الثاني: يتعلق بمظاهر الثقافة والأخلاق المحلية للفرنجة.
وقد نجد الأمور قد تغيّرت اليوم. فما كان يراه هؤلاء كبيرة من الكبائر، حدث فيه تراجعات وتنازلات كبير. بل غدا من المسلمات وأحياناً من الضروريات. وبينما كان يركز بعض الرحالة من أمثال الحجوي على مسألة الزي واللباس، حتى أنه عاد ليجيب المقيمين المغاربة في لندن عن مسألة لبس البرنيطة وما شابه، حتى اعتبر لباس البرنيطة من دون ضرورة ومحبة فيها «ردة»، فإن مثل هذا الموقف تراجع ولم يعد مقبولاً. بل أصبح عنوان تطرف غير مهضوم وقاصر عن الاستيعاب اليوم.

كان علينا أن نتساءل عن كل هذه الأسئلة من هذا القبيل التي طرحت حينئذ وتم التراجع عنها، لندرك أن عدد الحواجز النفسية والثقافية وأيضاً الشروط التاريخية والحضارية كانت كفيلة بإزاحتها، وهذا الاقتصاد في الموانع، يقلل أيضاً من مستوى الممانعة السيكولوجية والثقافية تجاه الآخر، إن ثورة الاتصالات وغيرها مكّنت الشعوب الإسلامية المعاصرة من الوقوف على مستويات جديدة مدهشة. ولعل ما كان مدهشاً يومها في الغرب أصبح جزءا من حياتنا اليومية، هناك ثورات أخرى في أوروبا والعالم الحديث فاقت كل الثورات السابقة، وما أن نسعى حثيثاً للتكيف مع إكراهات الأولى حتى تنهمر إكراهات أخرى نتيجة قيام ثورة أشد من الأولى وأقوى، إذا كان الحجوي وأمثاله اندهشوا يومها لوجود الآلة الكاتبة وما شابه، فنحن اليوم أمام الثورة السبرنتيقية، وأمام مفهوم «البوصة» والعولمة وانتقال المعلومة بصورة بدت «الكازيطات» أمامها أشبه بحفريات تاريخية.

إن العالم اليوم يعيش تخمة في المدهش، ولم يعد ثمة شيء يخفى، وكثير مما ينجز اليوم سبقه الخيال العلمي بسنوات حتى بات مركوزاً في الأذهان، وقد بات ما يتخيله المرء اليوم في حكم المنجز القريب لا في حكم الخيالي أو الإمكان المجمل، إن تركيز الرحالة على العلم كما رأينا هو مربط الفرس. ونحن اليوم تجاوزنا الصراع الأيديولوجي مع القوى الاستعمارية الخارجية. بل أصبح الصراع يتجه إلى «العلم». وهذا يعني أن الاستعمار يقبل ويتسامح في كل شيء، إلا أن تزاحمه الصناعة وتشاركه العلم، العلم لم يعد متاحاً في زمن نعيش فيه دورة صراع التفوق العلمي والممانعة ضد انتشاره، إذن أهم ما في الرحلة، مما لم ينجز بعد، ويجب التركيز عليه، هو الدخول في رهان التقدم العلمي، وهذا هو شكل الصراع المستقبلي بين العالم الإسلامي والغرب، فلا زلنا في العالم العربي على الأقل نندهش بعوارض المدنية الأوروبية ولا نكاد نسايرها في أخلاق البذل والعطاء والإبداع. إن دهشتنا لا تصب في حاجاتنا الضرورية، بعد عقود من قيام هذه الرحلات ألفينا أنفسنا أمام ظاهرة الاستلاب بكل أبعاده: الثقافي والسياسي والاقتصادي…وحكاية الاستلاب ليس أنك مجرد تضيّع مشيتك وتمثّل نبرة الغير. هذا منظور تبسيطي للاستلاب. فهذا الأخير هو نتاج موقف ومنهج في الإدراك والفهم والاختيار قوامه افتقاد القدرة على التمييز بين الأولى والثانوي.. بين الأنفع والضار.. بين ما بالذات وما بالعرض.. بين الحقيقي والزائف… ولحظة الاستلاب هي لحظة شرود وضياع في عوارض مدنية لم ننشئها ولم نفهمها ولم نمتلك كيمياء صناعتها.

إننا ماضون في استهلاك فائض قيمتها. وفي الاستلاب كما في حكاية فاوست نقبل بصفقة نتنازل بموجبها عن جزء منا. لكن الجزء الذي فرطنا فيه يلاحقنا ليسترد الباقي ويدمره، هذا الذي حصل بالفعل، لقد عقدنا صفقة بموجبها بعنا بعضاً من سيادتنا واستقلالنا وهويتنا مقابل بعض من عوارض التحديث وليس كيمياءه. وما بعناه تحول إلى شبح يلاحقنا عبر أجيال متعاقبة، طلباً لما تبقى لأجل تدميره. إننا اليوم نغرق في الاستلاب، ليس لأن هويتنا على المحك، بل لأننا يوماً بعد يوم تتسع المسافة بيننا وبين إرادة النهوض وصنعة الحداثة حتى لو غرقنا في أكسسواراتها وخردتها وتمثلاتها المغشوشة والممسرحة. فيما الجوهر لا يزال يُنبئ بأننا أمة لم تدخل بعد الكون الحديث إلاّ على إيقاع سياسات التّتبيع، لا زلنا في حاجة إلى رحّالتنا لكي يصف لنا عمق هذه الفجوة بعيداً عن الصورة المغشوشة التي تنتقل عبر وسائط جديدة وبتقنيات سبرنيطيقية عالية لم تكن في مكنة رحّالة القرن التاسع عشر. لكنها لا تنقل إلى الوعي شيئاً بقدر ما تؤدي وظيفة مسخ الوعي. بل هي في العموم تخاطب اللاوعي والغريزة، وتنقل كل شيء عن الحداثة إلا كيمياءها الحقيقية، لم يعد رحّالتنا الذي يحمل لوعة النهوض كما يحمل همّ ترقّي الأمة هو من يتكبد عناء نقل الصورة عن الآخر إلينا، بل هذه المهمة أصبحت من اختصاص الغرب نفسه. فهو يستعرض مظاهر تفوّقه عبر تقنية الصورة بشكل يومي يخاطب فيها أطفالنا وكبارنا مباشرة من دون وسيط تربوي ومحلّي يعزّز فينا ثقافة الهروب والاستهلاك والتمثلات الجوفاء لمعلبات الحداثة، إنهم يقتلون فينا النهضة بتزييف الحداثة. ليس تزييف المحلي لها، بل تزييف أهلها لنا، لكي نضيّع وقتنا ورأسمالنا في فقاعاتها لا في عناصرها الجوهرية التي ظللنا نبتعد عن أسبابها كلما حاولت هي أن تتحول إلى إعلان صوري يفتن المخيلة ويقلب الأولويات ويحجب عن الوعي حقيقة المهام وحقيقة السياسات التي تقتل التحديث بالحداثة وتميت داعي النهضة بالفرجة الرخيصة على منجزات الغير التي اقتنعنا بأن حظَّنا منها أن نتفرج عليها لا أن نصنعها.

 المصادر

[2] عبد المجيد القدوري: سفراء مغاربة في أوروبا (1610 1922)، ص 52، ط 1 مطبعة النجاح الجديد الدار البيضاء، 1995، منشورات كلية الآداب بالرباط.
[3] م. ن، ص 52.
[4] انظر د. عبد الحفيظ حمان: المغرب والثورة الفرنسية، ص 20، ط 2002، منشورات الزمن المغرب.
[5] م. ن، ص 20.
[6] م. ن، ص 29.
[7] م. ن، ص 29.
[8] م. ن، ص 30.
[9] م. ن، ص 42.
[10] م. ن، ص 43.
[11] كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ص226، تـ: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط 9 دار العلم للملايين، 1981، بيروت.
[12] انظر: سفراء مغاربة في أوروبا، ص32.
[13] سعيد بن سعيد العلوي: أوروبا في مرآة الرحلة، ص 34، ط 1 1995، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
[14] م. ن، ص 37.
[15] م. ن، 44 – 45.
[16] م. ن، ص 36.
[17] م. ن، ص 37.
[18] م. ن، ص 37.
[19] م. ن، ص 39 40.
[20] سفراء مغاربة في أوروبا، ص 51.
[21] رحلة الصفار إلى فرنسا، ص 54، 55، تحقيق سوزان ميلار، تعريب خالد بن الصغير ط 1 منشورات كلية الآداب بالرباط 1995م.
[22] م. ن، ص 55.
[23] م. ن، ص 137.
[24] م. ن، ص 159.
[25] م. ن، ص 163.
[26] م. ن، ص 166
[27] م. ن، ص 169.
[28] م. ن، ص 100.
[29] م. ن، ص 198.
[30] م. ن، ص 199.
[31] م. ن، ص 113.
[32] م. ن، ص 125.
[33] م. ن، ص 162.
[34] م. ن، ص 168.
[35] م. ن، ص 159.
[36] سفراء مغاربة في أوروبا، ص 130.
[37] م. ن، ص 131.
[38] م، ن، ص 133.
[39] م، ن، ص 134.
[40] م، ن، ص 134.
[41] م، ن، ص 135.
[42] م. ن، ص. 135.
[43] م، ن، ص144.
[44] م، ن، ص 144.
[45] محمد الحجوي: الرحلة الأوروبية، تنقيح وإعداد سعيد بنسعيد العلوي، انظر: أوروبا في مرآة الرحلة، ص 103.
[46] م، ن، ص 103.
[47] م، ن، ص 172.
[48] م، ن، ص 133.
[49] م، ن، ص 113.
[50] م، ن، ص 113.
[51] م، ن، ص 117.
[52] م، ن، ص 116.
[53] م، ن، ص 131.
[54] م، ن، ص 31.
[55] م، ن، ص 131.

[56] م، ن، ص117.
[57] م، ن، ص 158.
[58] م، ن، ص 152.
[59] م، ن، ص 159
[60] م، ن، ص 169.
[61] م، ن، ص 169.
[62] م، ن، ص 174.
[63] م، ن، ص 171.
[64] م، ن، ص 162.
[65] م، ن، ص 133.
[66] رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ص 272، سبق ذكر المصدر.
[67] م، ن، ص 274

https://anbaaexpress.ma/mkup8

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى